كيف كشف طوفان الأقصى ومنصات التواصل الاجتماعي الانحياز الإعلامي الغربي

الإعلام الغربي غالباً ما يفشل في توفير سياق تاريخي ملائم لمساعدة الجماهير المتابعة لها على فهم الأسباب الجذرية لهذا الصراع. وهذا الإغفال المتعمد يؤدي إلى فهم مشوه للأحداث ووضع القضية في الإطار الذي ترسمه لها الخطة الإسرائيلية.

  • منصات التواصل الاجتماعي تنحاز للإعلام الغربي.
    منصات التواصل الاجتماعي تنحاز للإعلام الغربي.

في الأعوام الأخيرة، شابت الصراع الفلسطيني الاسرائيلي اشتباكاتٌ ومآسٍ شديدة أثرت في حياة الفلسطينيين. وفي خضمّ هذا الاضطراب، تؤدي التغطية الإعلامية دوراً محورياً في تشكيل التصورات العالمية للصراع.

وتُعَدّ المعركة الأخيرة، التي شنتها حركة المقاومة الإسلامية حماس، "طوفان الأقصى"، بمثابة مثال صارخ على كيفية تأثير التحيز الإعلامي الغربي في روايته وتداوله وإدامة المفاهيم الخاطئة، والتي ساهمت منصات التواصل الاجتماعي في سرعة رقعة انتشارها وتداولها كمواد إعلامية دسمة لتأجيج العنصرية وخطاب الكراهية ضد الشعب الفلسطيني عموماً، ومواطني قطاع غزة وحركة حماس بصورة خاصة.

لكن الوجه الآخر لمنصات التواصل الاجتماعي كان عبر مساهمتها المحورية في انتشار الأخبار والمحتوى الإعلامي الفلسطيني العربي المضاد لهذه الوسائل الإعلامية الغربية؛ المحتوى المباشر من أرض غزة ومن مختلف المدن الفلسطينية، التي تتعرض لإبادة ممنهجة تغاضى الإعلام الغربي عن ذكرها.

التحيز الإعلامي الغربي والرواية الإسرائيلية

من السهل لمتابع وسائل الإعلام الغربية أن يدرك مدى الانحياز الكامل والمستمر نحو الرواية الإسرائيلية في هذا الصراع، الأمر الذي يشوه التصور العام لدى المجتمع الدولي، ويبرر الانتهاكات الإسرائيلية، ويقوض المطالبات الفلسطينية ويطمس الحقائق التاريخية والمشاهد الحالية المشكلة للمشهد على ارض الواقع.

لفهم أعمق لمدى تأثير هذا الانحياز في التغطية الإعلامية الغربية في القضية الفلسطينية، يمكننا الاستعانة بواحدة من النظريات الإعلامية، وهي نظرية التأطير الإعلامي. وفق هذه النظرية، فإن الطريقة التي يتم بها عرض قضية ما وتناولها في وسائل الإعلام يمكن أن تؤثر، بصورة كبيرة، في كيفية نظر الجمهور إليها وفهمه لها. وفي سياق الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، يرى عدد من الباحثين أن وسائل الإعلام الغربية صاغت الصراع بطريقة تصوّر "إسرائيل" على أنها ضحية للعدوان الفلسطيني وتبرر أفعالها على أنها دفاع عن النفس. ومع تطور وسائل الإعلام الرقمية أصبح ترويج هذه الفكرة وتداولها، عبر المنصات الرقمية، هو السائد والمسيطر على الخطاب الإعلامي الغربي، في كلّ أشكاله. 

طوفان الأقصى: مثال حيّ 

تُعَدّ الأخبار والمحتوى الإعلامي الخاص بطوفان الأقصى والأحداث الأخيرة بمثابة مثال حي على تحليل التحيز الإعلامي الغربي وإثباته في سرد مجريات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ونقلها. وفي هذه الحرب، كما يُطلق عليها، تمكّنت حركة حماس، للمرة الأولى منذ عقود، من إحداث أضرار بمنشآت يسيطر عليها الكيان الصهيوني، وكبدته عدداً من الخسائر البشرية، لكن الرواية والسرد الإعلامي الغربيَّين المتحيزين كالعادة تجاهلا كل الأحداث والاستفزازات المتتالية، التي أدّت إلى هذه الحرب، واختارت أن تغضّ الطرف أيضاً عن الرد الصهيوني اللاإنساني والمذابح التي ترتكبها الحكومة والجيش الاسرائيليان في غزة وعموم فلسطين منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى والتطهير العرقي واستهداف المدنيين العزل بصورة يومية مكثفة.

اختار الإعلام الغربي أن يرى فقط "الضحايا الإسرائيليين" والأسرى الاسرائيليين وكمّ الدمار الذي خلّفه "الاعتداء الفلسطيني الهمجي، البربري، اللاإنساني،" وقائمة المصطلحات والمسميات التي تتبناها وسائل الإعلام الغربية تطول عند وصف الفلسطينيين او حركة الجهاد الإسلامي.

لم تعد المشكلة في انحياز وسائل الاعلام الغربية فقط، ولا في تفضيلها الرواية الإسرائيلية دائماً، لكن في تسخيرها كل إمكاناتها الرقمية ومنصاتها عبر شبكات التواصل الاجتماعي من أجل تأطير القضية الفلسطينية وقولبتها وفق الرواية الإسرائيلية، على نحو يساعد الموقف الإسرائيلي ويدعمه ويبرّر كل الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة، ويسلب من الفلسطينيين حتى صوتهم وفرصة التداول الإعلامي العادل لقضيتهم ومحتواهم، في ظل هذا الزخم الإعلامي، غربياً وإسرائيلياً، والذي يسخّر كل إمكاناته وموارده لنشر روايته وحشد مزيد من التأييد الرقمي لها من جانب جميع مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي بصورة عامة، من مختلف دول العالم.

أهم الإخفاقات في التغطية الإعلامية الرقمية الغربية 

إن الإعلام الغربي لم يقع فقط في فخ التحيز الأعمى، لكن تناوله للقضية الفلسطينية يفتقر إلى وعي السياق التاريخي، بحيث إن وسائل الإعلام الغربية غالباً ما تفشل في توفير سياق تاريخي ملائم لمساعدة الجماهير المتابعة لها على فهم الأسباب الجذرية لهذا الصراع. وهذا الإغفال المتعمد يؤدي إلى فهم مشوه للأحداث ووضع القضية في الإطار الذي ترسمه لها الخطة الإسرائيلية.

التغطية غير المتلائمة: إن تركيز وسائل الإعلام على وجهات النظر الإسرائيلية والحد الأدنى من التغطية الممنوحة لوجهات النظر الفلسطينية يمكن أن يعزز تصور السرد الأحادي الجانب والتعبئة الإعلامية والحشد الإعلامي أحادي الجانب، الأمر الذي يساهم في إشباع الجمهور بهذه الأفكار وتعزيز هذه الصور المشوهة عن الصراع وأطرافه ومن الضحية في هذه الرواية.

اللغة والتأطير: إن اختيار الكلمات والتأطير في التقارير الإخبارية ومختلف أنواع المحتوى الإعلامي يمكن أن يشكلا الرأي العام بمهارة. ويؤكد عدد من النقاد أن مصطلحات، مثل "الاشتباكات" أو "المناوشات" "قُتل ومات"، تُستخدم في وصف المواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، الأمر الذي يقلل اختلال توازن القوى بين الطرفين. ويصور للجمهور أن لدى طرفي النزاع القوة والإمكانات نفسها، ولا يوجد طرف هو الضحية في هذا الصراع، وطرف أعزل يواجه مختلف أنواع الأسلحة الإسرائيلية المتطورة.

قولبة الضحية والجاني: إن تصوير وسائل الإعلام للإسرائيليين كـ"ضحايا"، وللفلسطينيين كـ"جناة"، في عدد من المرات السابقة، وفي حالة مثل طوفان الأقصى، يمكن أن يؤدي إلى إدامة الصور النمطية والتحيزات لدى الرأي العام الغربي، الأمر الذي يزيد في تأجيج هذا الصراع، ويُفقد الفلسطينيين مزيداً من حقوقهم، وأي مساعدات قد يتلقونها.

منصات التواصل الاجتماعي... نقطة تحول في تاريخ السرد الفلسطيني

لم يشعل طوفان الأقصى شعلة البداية في ساحة المعركة فقط، بل أشعلها في العدسات والأقلام والصفحات لدى المئات والآلاف من: المصورين، الصحافيين، الإعلاميين، المؤثّرين وصناع المحتوى الرقمي، عبر المنصات الرقمية المتعدّدة وعموم المواطنين في مختلف دول العالم.

وشهدنا خلال هذه الفترة تحولاً وصحوة إعلاميَّين كبيرين بين فئات اجتماعية، كانت أبعد ما تكون عن القضية الفلسطينية، في أحداثها وسياقها التاريخي، لكن ما شهدناه ونشاهده يومياً، عبر منصات التواصل الاجتماعي، من تغطية إعلامية وتضامن عربي وتضامن دولي ونشر على مدار الساعة للأحداث والمجازر التي يرتكبها الاحتلال بحق المدنيين في غزة، قد يمثل نقطة تحول كبرى في الوعي الجمعي للمجتمعات العربية والعالمية على حد سواء.

فالعالم أجمع لم يعد كما كان قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر. إن الإصرار والالتزام، اللذين أبداهما مستخدمو منصات التواصل الاجتماعي في مختلف الدول العربية، بشأن نقل حقيقة ما يحدث في غزة ونشرها في كل دول العالم على الرغم من سياسات منصات التواصل الاجتماعي وتقييدها هذا المحتوى، لكن المؤثرين، والإعلاميين، والمصورين، والجماهير العربية أثبتوا نجاحهم في إيصال الصورة، وإيصال صوت غزة إلى العالم أجمع.

هذه المرة، لم يكن التحرك عربياً فقط، بل إن الحراك العربي المتواصل أشعل الرأي العام الغربي وسلط الضوء على تحيز التغطية الإعلامية الغربية وعنصريتها، الأمر الذي عزز فهماً أكثر توازناً واستنارة للقضية الفلسطينية، وأثبت نجاحاً ملحوظاً ضد التعتيم الإعلامي الغربي وتأطير القضية الفلسطينية المنحازة والاستنفار الرقمي الإسرائيلي.

لذلك، يجب علينا الاستمرار في استغلال منصات التواصل الاجتماعي وكل إمكاناتها الرقمية لإتاحة الفرصة امام الفلسطينيين لتصحيح عدد من المفاهيم المغلوطة التي وضعها وروّجها الاحتلال للقضية وأسبابها وتأثيرها في كل الشعب الفلسطيني، وليس الاستمرار كأفراد فقط، بل في مختلف الأصعدة، سواء المؤسسات الإعلامية او الجهات الحكومية.

كما أن ترجمة المحتوى الخاص بالقضية الفلسطينية والانتهاكات الاسرائيلية المتتالية إلى لغات عالمية متعددة، ونشره عبر منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية الرقمية، كان لهما دور فعّال وجوهري في تسليط الضوء وتصحيح عدد من المفاهيم المرتبطة بالقضية الفلسطينية، ومنح الفلسطينيين المنبر لسرد روايتهم الخاصة للعالم أجمع.

وهذه يجب أن تستمر وتصبح أولوية لدى جميع الوسائل الإعلامية العربية، ومن خلال القيام بذلك فقط يمكننا أن نبني تأطيراً إعلامياً جديداً عادلاً للقضية الفلسطينية، وأن ننشئ جيلاً صاحب ووعي وقضية ليدافع عنها، وصاحب رسالة لن يتوقف عن نشرها. لم يعد المشاهد العربي صامتاً أو متابعاً سلبياً، ويجب ألا نعيده كذلك. طوفان الأقصى لم يكن فلسطينياً فقط، ولم يكن لتحرير فلسطين فقط. إن ما حرره هذا الطوفان وما غيره وغرسه في الملايين حول العالم سيبقى يدرَّس لأعوام، فالحروب الإعلامية لا تقل أهمية ولا شراسة عن أرض المعركة. لذلك، يجب أن تستمر هذه الصحوة الإعلامية، الرقمية والإنسانية والقيمية.