فرنسا والتوغّل الصهيونيّ
الصحافة اليمينية في فرنسا انتقدت ماكرون لأنه تأخّر في زيارة "إسرائيل" بعد نحو أسبوعين من بدء طوفان الأقصى، وهاجمت تقصيره في حقّ "حليف فرنسا التقليدي" كما كتبت مختلف الصحف الفرنسية.
في زيارته للكيان الصهيوني يوم الثلاثاء الماضي، الـ 24 من تشرين الأول/أكتوبر، سعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إبراز دعمه الكامل لـ "إسرائيل" في حربها التدميرية ضد الشعب الفلسطيني، ودافع عن جرائمها في لقائه مع نتنياهو، كما فعل منذ اليوم الأول الذي بدأ فيه العدوان الصهيوني على سكان قطاع غزة.
لم يرَ ماكرون حجم الدمار الذي تسبّبت فيه صواريخ "إسرائيل"، ولا عدد الضحايا من الأطفال والنساء والأجنّة، ولا الوحشية التي يتصرّف بها الكيان الذي يريدها إبادة للشعب الفلسطيني، ولم يرَ أسلوب المقاومة الحضاري في التعامل مع الأسرى والرهائن، بل نظر فقط إلى أهداف المقاومة داخل "إسرائيل"، ووقف يدبج كلمات العزاء للقاتل.
الصحافة اليمينية في فرنسا انتقدت ماكرون لأنه تأخّر في زيارة "إسرائيل" بعد نحو أسبوعين من بدء طوفان الأقصى، وهاجمت تقصيره في حقّ "حليف فرنسا التقليدي" كما كتبت مختلف الصحف الفرنسية.
لكن ما لم تقله الصحف هو أن موقف فرنسا لم يعد مطلوباً حتى في "إسرائيل" نفسها، فقد فقدت الكثير من بريقها على الصعيد الدولي منذ بضع سنوات، حينما بدأت تتلقّى الضربات في القارة الأفريقية وأخذت تتوارى خلف النفوذين الروسي والصيني في القارة؛ وطيلة الأيام الماضية تقاطر على زيارة الكيان الصهيوني عدد من المسؤولين الأميركيين والأوروبيين، وحصل نوع من الاكتفاء العسكري والسياسي بالنسبة لحكومة نتنياهو التي لم تعد راغبة في المزيد، كما أنها لم تطلب الدعم الفرنسي.
ولذلك تأخر ماكرون في زيارة الكيان لكي يراجع حساباته ويحاول إيجاد مبرر كاف لعودة فرنسا إلى الواجهة من خلال البوابة الإسرائيلية، فهو يبحث عن دور له بعد أن خفت نجمه داخل بلده، عبر محاولة التقرّب من اللوبي الصهيوني المتنفّذ، إذ المعروف أن اللوبي الصهيوني في فرنسا من أكثر اللوبيات قوة ونفوذاً، ولذلك عمل ماكرون منذ اليوم الأول لانفجار طوفان الأقصى على إصدار قرارات بمنع المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، والتهديد بالمحاكمات والاعتقالات في حق من يخرج للتظاهر، ورغم ذلك شهدت باريس مسيرات حاشدة ضد عدوان الاحتلال، بيد أن ماكرون ترك وراءه الرأي العام الفرنسي وطار إلى "إسرائيل".
وخلال تلك الزيارة حاول الرئيس الفرنسي أن يتعلّق بالولايات المتحدة الأميركية من خلال مبالغته في الدعم الدبلوماسي للكيان، إذ دعا إلى إحياء التحالف الدولي الذي شكّلته واشنطن عام 2014 للقضاء على تنظيم "داعش" في العراق وسوريا، وتحويله إلى محاربة حركة حماس والمقاومة، بدعوى أنها جماعات إرهابية، وهو بذلك يريد أن تعود أميركا إلى تأدية الدور نفسه، رغم أنها لم تعد قادرة على التورّط أكثر في منطقة الشرق الأوسط، وتدرك جيداً بأن ذلك قد يجلب عليها متاعب أكبر مما حصل لها في العراق وأفغانستان.
لكن لن نستطيع فهم هذا الموقف الفرنسي الغريب إذا لم نفهم الموقف الفرنسي من الانسحاب الأميركي من أفغانستان، فقد انتقدت باريس في السابق هذا الانسحاب بدعوى أنه يزيد في تشجيع الجماعات الإرهابية، ويساعدها على التمدّد ويرسل إليها رسالة سلبية مفادها أن الغرب عجز عن مواجهتها. بل إن باريس تعتبر ما لحقها في أفريقيا نتيجة لهذا التراجع الأميركي، بعد أن تم طردها من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، لذلك هي لا تستطيع التقدّم من دون أن يكون العرّاب الأميركي أمامها.
الاقتراح الفرنسي بإحياء التحالف الدولي ضد "داعش" وتحويل مهمته إلى قتال المقاومة في فلسطين هو في حقيقته محاولة لتدويل الحرب على المقاومة الفلسطينية، لكنه اقتراح غبي لأنه يعني بالنتيجة تدويل المقاومة ضد النفوذ الغربي لا تدويل الحرب على المقاومة. فالمقاومة في فلسطين هي مقاومة محلية وطنية ضد الاحتلال الصهيوني، وليست حركة عالمية لها امتداد خارج فلسطين بحيث يتم خلق تحالف دولي لمحاربتها، كما حصل مع تنظيم "داعش" الذي كانت له امتدادات وأذرع تابعة في عدد من المناطق، كما أن المقاومة الفلسطينية لها برنامج محدد هو طرد الاحتلال، وليس محاربة أنظمة سياسية موجودة أو ضرب أهداف خارج منطقة نفوذها، وفضلاً عن هذا فإن المقاومة لها شرعية شعبية كبرى في الشارعين العربي والإسلامي، وليس من السهل إقامة تحالف دولي ضدها، لأن من شأن ذلك أن يغيّر مجرى الصراع ويحوّله إلى صراع عالمي.
إن أخطر ما يحمله اقتراح ماكرون، حتى وإن كان صعب التنفيذ ويمكن أن يلقى رفضاً من عدد من البلدان العربية والإسلامية والأوروبية، هو أن هناك نوايا صليبية تسكن عقليات بعض المسؤولين الأوروبيين، وهو دليل واضح على أن هذه العقليات تؤمن بأن الصراع مع الفلسطينيين والمسلمين صراع حضارات، إذ في الوقت الذي نسمع فيه الغرب يحذر من هذا الصراع الحضاري نراه يتبنّى المواقف التي تشجّع عليه.