صعود فلاديمير بوتين
بوتين يعيد التلويح بالاستعداد الدائم لوجبات نووية محتملة لبث الرعب في الأنظمة التي أدمنت الرفاهَ والاستقرار والتسلط على العالم.
بين الخامس عشر والسابع عشر من آذار/مارس الجاري 2024، كان فلاديمير بوتين على موعد مع تجديد إقامته في الكرملين كسيد القيادة في جمهورية روسيا الاتحادية، وريثة الإمبراطورية السوفياتية.
وفي كشف لوقائع السنوات الأربع والعشرين الماضية، يُمكن القول إن الرئيس فلاديمير بوتين بنى نظام حُكم يتمحور حول شخصيته بالدرجة الأولى التي يسعى من خلالها لإعادة أمجاد روسيا وهيبة الكرملين التاريخية، وفي مشروعه الرامي إلى وضع حدّ للهيمنة الغربية، خاصة من قبل الولايات المتحدة على العالم بأسره.
ففي الانتخابات الأخيرة، التي جرت قبل أيام، فاز وفي صعودٍ مُتجدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي بات البعض يُطلق عليه لقب القيصر (رجل روسيا الحديدي)، الرجل الذي عاصر كل زعماء الاتحاد السوفياتي قبل تفككه عام 1990، باستثناء زعيم البلاشفة وقائد ثورتهم فلاديمير ايليتش لينين. وقد عاش في شبابه وصعوده في جهاز الاستخبارات الروسية (كي جي بي) فترة القوة السوفياتية وكان له من العمر نحو 23 عاماً، وعمل تحت قيادة الرجل القوي فيها والرئيس اللاحق للاتحاد السوفياتي يوري أندروبوف، وصولاً إلى زمن الانهيار السوفياتي على يد ميخائيل غورباتشوف.
وهكذا، صَعَدَ فلاديمير بوتين لولاية جديدة، مدّتها ست سنوات، ليصبح، في ولايته الجديدة، الأطول عهداً في تاريخ البلاد الروسية والسوفياتية معاً، ولتتجاوز مدة حكمه عدد السنوات التي قضاها الرئيس السوفياتي المعروف بــ "الرجل الحديدي" جوزيف ستالين.
فلاديمير بوتين، خاض التجربة السوفياتية العميقة من داخل (التابو) في جهاز الـ(كي جي بي) وفي أكثر من مكان كلف به في إطار دول حلف وارسو (حلف فرصوفيا)، وخاصة في ألمانيا الشرقية التي كانت تمتلك جهازاً استخبارياً يُضرَبُ به المَثَل لمهنيته وتفوّقه (جهاز أشتازي). وهو ما كان له الأثر الكبير في بناء شخصية فلاديمير بوتين، الذي جَعَلَ جلّ طموحه بعد انهيار حلف وارسو وتفكك الاتحاد السوفياتي العودة إلى أمجاد روسيا والكرملين كعنوان عالمي في كل شيء.
وعليه، وبعد تفكك منظومة الاتحاد السوفياتي، بدأ بوتين مشروع حلمه المعنون بـــ "ترميم وطن". فعمل في مهامه التي أُسنِدَت إليه في الكرملين على ترتيب الأوراق؛ تمهيداً للتربع على عرش جهاز الأمن الفيدرالي، وريث (كي جي بي)، وقبل أن يُتم العام في منصبه، سيجري تعيينه رئيساً للوزراء، وكل ذلك فتح الطريق أمامه للصعود نحو الموقع الأول في روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفياتي.
لقد عرف وأجاد فلاديمير بوتين، في الدق على مشاعر عموم الروس، من خلال البرنامج الانتخابي الذي تقدم به، والقائم على إذكاء البعد الوطني والوجودي لروسيا وحربها في أوكرانيا، وقبل ذلك ضم جزيرة القرم. ونجاحه في الصمود في وجه العقوبات الغربية، علماً أن الاقتصاد الروسي الذي انكمش بنسبة 1.2% فقط في عام 2022، حقّق، وخلافاً للتوقعات، نمواً بنسبة 3.6% في عام 2023، وفقاً لأرقام (صندوق النقد الدولي). وقد بات الغرب ساذجاً، عندما توهَّم بأنَّ المحاصرة الاقتصادية لروسيا وإقفال عائدات الغاز ستدجّن روسيا وتنزع أنيابَها.
روسيا لا تشبه إلا روسيا، ولا تستيقظ إلا إذا هوجمت أو طوّقت. وتحتاج إلى عدو كبير وخطر داهم. أرسلت إلينا أوروبا غزاتها وقساتها. كان اسم الأول نابليون. واسم الثاني هتلر، فذهبوا وراحوا أدراج الرياح. ولن يكون هناك أثر لما يسمى "طوفان أوكراني".
وها هو بوتين يعيد التلويح بالاستعداد الدائم لوجبات نووية محتملة لبث الرعب في الأنظمة التي أدمنت الرفاهَ والاستقرار والتسلط على العالم.
عالمان مختلفان. يتساقط الزعماء الغربيون كأوراق الخريف وتزداد روسيا تمسكاً بمنقذها وقائدها. لا يطمئنها إلا القوي وإن ظلم. نظر إلى جليسِه وصارحه. التاريخ ليس مهنة المؤرخين. إنَّهم مجردُ آلات تسجيل. التاريخ يُكتب بحبر المنتصرين.