سوريا.. ماذا عن اليوم التالي؟
ما حدث منذ فجر يوم السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر فتح مرحلة جديدة من تاريخ سوريا، فيها الكثير من التحديات وسط مباحثات حول مرحلة ما بعد سقوط الرئيس السابق بشار الأسد.
منزوعة الدور والسلاح. عنوان لسوريا الجديدة بعد الزلزال الذي أصابها ومعها المنطقة والعالم، وسلب منها القوة الاستراتيجية التي راكمتها منذ قرابة خمسين عاماً. وعليه بات من المؤكد أنّ سوريا ستكون عالقة ـــــ أقلّه في الفترة القصيرة المقبلة ـــــ بين سهام الفتنة الداخلية وحروب الأطراف الخارجية.
12 يوماً قلبت سوريا رأساً على عقب في إحدى أكبر الصدمات السياسية التي شهدتها والمنطقة منذ عقود. سقط شكل سوريا الحديث الذي نعرفه، ومعها سقطت صورة الدولة المحورية في المنطقة، والتي كانت خلال عقود مضت رأس حربة بالسياسة والاستراتيجيا، ما سيؤدي من دون أدنى شكّ إلى إعادة تشكيل توازن القوى في المنطقة وفي العالم الأوسع.
ما حدث منذ فجر يوم السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر فتح مرحلة جديدة من تاريخ سوريا، فيها الكثير من التحديات وسط مباحثات حول مرحلة ما بعد سقوط الرئيس السابق بشار الأسد.
سوريا إلى أين؟
لم يستطع أحد أن يتنبّأ بسقوط دمشق بهذا الشكل وهذه السرعة، وفي الوقت نفسه لا أحد يستطيع أن يتنبّأ بما سيجري وما سيترتّب على ما جرى. لكن محاولة الإجابة تقتضي أن نعرف خريطة القوى الداخلية حتى هذه اللحظة، وهي:
- هيئة تحرير الشام
- فصائل مسلحة مدعومة من تركيا تتركّز في الشمال والشمال الغربي السوري
- قوات "قسد" والكرد في الشمال والشرق والشرق السوري
- فصائل مسلحة في الجنوب مدعومة من "التحالف الدولي"
كلّ هذه الفصائل بأجنداتها المختلفة تستند إلى داعم خارجي، فيما قد يتشكّل فصيل خامس من فلول النظام السابق، أو نكون أمام مرحلة جديدة تحلّ فيها هذه الفصائل وتدمج في الجيش السوري الجديد كما وعد زعيم هيئة تحرير الشام أحمد الشرع ـــــ الجولاني.
النظرة إلى الوضع السوري الراهن تؤكد صعوبة تشكيل الدولة بشكل سريع وسلس بالمعنى المؤسساتي الحكومي والدفاعي، حيث ستبرز مع الأيام مسائل تتعلّق باستلام مقدّرات الدولة وما تبقّى من قدرات الجيش السوري وتقسيم مناطق النفوذ.
الانقسام الداخلي سيكون ترجمة لتصادم المصالح الخارجية ولا سيما بين تركيا وقطر وبعض الدول الخليجية من جهة أخرى. أما العلاقة بين هيئة تحرير الشام والفصائل المدعومة من تركيا فليست على ما يرام. فيما يبدو أن تجدّد الصراع بين "قسد" وهيئة تحرير الشام هو مسألة وقت، فمن الواضح أنّ "قسد" المدعومة من الولايات المتحدة لن تقبل بالتخلّي عن المكاسب التي تمّ تحقيقها حتى من وجود النظام.
وبينما من المؤكد أن سوريا الجديدة ستكون بعيدة عن محور المقاومة، يخشى البعض من أن تكون دولة منزوعة العروبة بالمعنى القومي، وهو وضع تؤيّده وتسعى إليه أطراف عربية ودولية، كما ستكون دولة منزوعة السلاح والمستفيد الأكبر هو كيان الاحتلال.
وجه الجولاني الجديد
تحوّلات بالجملة طرأت على الجولاني لم تكن طوعية. صور عديدة مرت على الجولاني قبل وصوله إلى نسخته الحالية، من رجل يظهر بلباس عسكري مع تغطية وجهه وصولاً إلى الظهور الأخير بلباس مدني بين الناس.
من الواضح أنّ هناك حملة دولية كبرى مؤثّرة تسعى إلى إعادة تعليب الجولاني ليكون في صورة مقبولة حتى يكون لاعباً أساسياً في سوريا، مع اتجاه دولي لرفعه والهيئة التي يرأسها عن قوائم الإرهاب.
ولكن رغم كل محاولات التغيير التي قام بها الجولاني منذ التحاقه بالجماعات المسلحة في العراق وصولاً إلى قيادة العمليات في سوريا، تبقى الصبغة الإسلامية الأصولية طاغية عليه.
الموقف قد يكون أكثر تعقيداً لأنّ تاريخ الجولاني من القاعدة و"داعش" والنصرة خلق له أعداء ومشاعر بعدم الثقة فيه، حتى داخل هيئة تحرير الشام.
الأطماع الإسرائيلية
في إعلان أوّلي للخروج من الصراع العربي ــ الإسرائيلي، قال الجولاني إن "سوريا ستكون مسالمة، ولن تحارب أي دولة".
سوريا التي كانت رأس حربة في مشروع الوقوف في وجه الاحتلال ومطامعه في المنطقة، باتت بعد خروج الأسد لقمة سهلة في فم الكيان التوسّعي. فـ "إسرائيل" احتلت مزيداً من الأراضي السورية، ودمّرت ثمانين بالمئة من السلاح السوري، وصارت على مسافة جدّ قريبة من دمشق، في اعتداء لم تعرفه سوريا منذ قيام الكيان عام 1948، ولا حتى في نكسة يونيو 1967.
الأطراف التي تدعم المعارضة تودّها أن تكون ضعيفة، ممزّقة، ومشلولة، وذلك لصالح "إسرائيل" بالأساس، وهو ما رأيناه من اليوم الأول حين وصلت المعارضة سلماً إلى دمشق، وحضرت معها "إسرائيل" حرباً في اليوم نفسه.
الدور التركي
لا يخفى على القارئ أنّ من أحد أهم أسباب عشرية النار الأطماع الاقتصادية بسوريا ومواردها ولا سيما الغاز.
يضاف إلى ذلك أطماع استراتيجية من أشكالها استيلاء تركيا على جزء من الأراضي السورية تحت شعار محاربة الكرد.
علناً، تعمل تركيا على إعادة رسم الحدود مع سوريا بهدف فرض واقع جغرافي جديد. ترى نفسها اليوم صاحبة حقّ في سوريا، متجاهلة القوى الدولية الأخرى، التي تتربّص بسوريا، بعد أن أبعدتها عن صناعة أيّ فعل، وأخرجتها من معادلة الشرق الأوسط بالكامل، مثلما أخرجت قبلها دولاً عربية أخرى.
عملياً، تريد أنقرة تجاوز إقامة منطقة آمنة، وإحداث تغيير ديموغرافي في شمال سوريا، من خلال دفع اللاجئين السوريين لديها ليحلّوا مكان الكرد، إلى العمل لأجل تأدية دور رئيسي على الأرض، بحيث تحقّق ما تعتبره "الوطن الترابي التركي"، الذي تراه ممتداً خارج حدودها، وعليها استعادته. لكن هذا سيظل مرهوناً بتوافقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل" وروسيا حول وضع سوريا ودورها في المرحلة المقبلة.