سقط في مطبّها الإعلام الغربي.. من "المُراسلة العسكرية" إلى "عسكرة" المراسلة الصحافية
ما هو السبب في تحوّل المراسل الصحافي الغربي في غزة تحديداً، من مراسل حربي يقدمّ الإضافة الإعلامية ويسلّط الضوء على القصص الإنسانية ويكشف ما توارى وراء غبار الأخبار من ملفات معقّدة، إلى مُوفد وظيفي دوره "مذايلة" القوى المتحاربة؟
تكشفُ لنا التغطية الصحافية للكثير من القنوات والمحطات الغربية لفعل الإبادة القائمة في قطاع غزة المحاصر، أنّ الإعلام الغربي الذي ساهم وبشكل كبير في وضع المعايير المهنية والأخلاقية بات كثير منه يُساهم في انتهاكها وخرقها، ما أسقط عنه صفة "النموذج" الذي كثيراً ما وسم بها نفسه، ووصم غيره بغيرها.
ولأنّ التقييم العلمي والهادئ والرصين، يفترض أمرين اثنين، غير حاصلين الآن، وهما انتهاء الحدث حتى يتسنّى اجتباء العيّنة العلمية التمثيلية، إضافة إلى استناد هذا التقييم إلى بحث أكاديمي مستوعب ومستغرق، فإنّنا سنركّز قصراً وحصراً على المراسلة الصحافية الميدانية لعدد من القنوات التلفزيونية "الغربية"، سيما منها تلك التي اختارت أن تكون مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في اقتحامها لقطاع غزة.
من المُلاحظ، بشكل عامّ، أنّ عصراً من المراسلين العسكريين والحربيين المتميّزين والمنصفين والمهنيّين، قارب على الانتهاء، وأنّ عصراً من المراسلين "الغوبلزيّين" ومن المراسلين الهواة والمغامرين المجانين، شارف على الاستواء والظهور.
من الواضح أنّ المشهد الإعلامي الغربي، يفتقد، مراسلين صحافيين ميدانيين متخصصين في البيئات الحربية، مثل روبرت فيسك أو سيمور هيرش أو جيريمي سكاهيل أو ماري كولفين، وهم مراسلون حربيون منحازون للحقيقة والواقع ومنصفون إلى حدّ كبير ومجتهدون أيضاً في نقل الصورة الحية.
وغياب هؤلاء عن الصورة الإعلامية الغربية في غزة، هو في العمق مؤشّر تحوّل في المهنة الصحافية، حيث يتقلّص عدد هؤلاء الصحافيين الشجعان المستقلين حقيقة عن أجندات المتحاربين، والمستقلين نسبياً عن الخطوط التحريرية لمؤسساتهم، والذين يشتغلون في العادة لحسابهم الخاص، في مقابل تنامي عدد "الموفدين" باسم قنواتهم الخاصة إلى الأماكن المشتعلة، وهم في العادة أدوات تكريس لأجندات القنوات ولأجندات من يقفون وراء هذه القنوات.
وبالإمكان لأيّ قارئ لتاريخ المذابح الكبرى، أن يتصوّر حقيقة النقل وماهية الأثر، لو أنّ سيمور هيرش لم يكشف مجزرة ماي لاي في الفيتنام وغيرها من المجازر الأميركية الأخرى، ولو أنّ روبرت فيسك لم يساهم بالصورة والشهادة في نقل مجزرة صبرا وشاتيلا في المخيمات الفلسطينية في لبنان، ولم ينقل أيضاً مجازر القوات الكرواتية في حقّ شعب البوسنة والهرسك في بداية التسعينيات، ولو أنّ جيريمي سكاهيل لم يكشف المجازر الأميركية المتواصلة والمستمرة ضدّ الشعب الأفغاني على مدى نحو عقد ونصف العقد من الزمن الذي أعقب الاحتلال الأميركي لأفغانستان في 2001، ولو أنّ ماري كولفين لم تكن في المكان الصحيح لنقل المذابح البكر للقوات الأميركية في العراق عقب احتلاله في 2003.
فعلاً، كان عصر فيسك وأمثاله، عصراً صحافياً متوازناً، وذا مصداقية معتبرة في العديد من القضايا بما فيها القضايا المتصلة بـ "إسرائيل"، وعلى الرغم من الانحياز القائم والمتأصّل ضمن أجندات القنوات والمحطات الكبرى، إلا أنّ تغطياتها الصحافية الميدانية المتصلة بالأسماء المذكورة، كانت تتميّز بقيمة إعلامية وأخلاقية أصيلة في مقتضيات النقل والكشف والإخبار.
وفي المقلب المقابل، من الواضح أنّ المراسلات الميدانية المسماة بالحربية، للقنوات الإخبارية الكبرى، في استحقاقَي أوكرانيا وغزّة، باتت مضامين صحافية ذات وظيفة توكيدية للمحدّدات الكبرى للتأطير الإخباري المعتمد ضمن هذه المسألة أو تلك.
وللأسف، أيضاً صارت المرافقة الصحافية للمجموعات المتحاربة، مرافقة إعلامية لما يريده صاحب السلاح أن يُتداول من كلمات وصور ومقاطع فيديو، وباتت معها أوامر الانكفاء والاقتراب من مناطق القتال ومربّعات الصدام، تكتنفها أيضاً أوامر الاكتفاء بما يُرسم والالتزام بما يوضع من قرارات وأوامر عسكرية لا تقبل النقاش، بمقتضى عقلية الجيش ومنطق ومنطوق الأمن.
ولأنّ الأمر كذلك، صارت المراسلات الصحافية من الميدان العسكري، عبارة عن تكرار أجوف وركيك وساذج، للبيانات العسكرية التي تسبقها، وعن استنساخ رديء لمقاطع الفيديو التي تبثّها أجهزة الدعاية في الجيش.
ولأنّ الأمر كذلك أيضاً، باتت هذه المراسلات الصحافية الحربية، عبارة عن مضامين دعائية موازية، خالية من أي مضمون إنساني أو من قصة صحافية ميدانية، وبات سؤال "إنارة الرأي العام" موضع سؤال وتشكيك عميق.
ليبقى السؤال العميق، ما هو السبب في تحوّل المراسل الصحافي الغربي في غزة تحديداً، من مراسل حربي يقدمّ الإضافة الإعلامية ويسلّط الضوء على القصص الإنسانية ويكشف ما توارى وراء غبار الأخبار من ملفات معقّدة، إلى مُوفد وظيفي دوره "مذايلة" القوى المتحاربة وتذييل تقريره بما لا يثير غضب قائد القوة العسكرية التي تصحبه ويصحبها؟
يبدو أننا حيال مجموعة مركّبة من الأسباب التي أذنت بأفول زمن فيسك وأمثاله، من بينها:
أولاً، أنّ فيسك وهيرش وسكاهيل وبدرجة أقلّ كولفين هم من الصحافيين المراسلين القارّين في أماكن تغطياتهم الصحافية، بمعنى أنهم يتماثلون مع البيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية والحضارية التي يوجدون فيها، ويبنون علاقات صحافية محترمة مع الأطراف المتنافسة وعلاقات اجتماعية قوية مع الأهالي هناك، فلا يحتاج الواحد منهم إلى "معين محلي fixer" يساعده على الوصول إلى المصادر والدخول إلى بعض الأماكن.
ففيسك مثلاً قضى نحو 50 سنة من عمره، متجوّلاً بين عواصم الشرق الأوسط، واستقرّ في لبنان عقوداً طويلة، وخالط الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والثقافيين في لبنان، وبات جزءاً أصيلاً من المشهد الإعلامي في لبنان والشرق الأوسط، وخبيراً في شؤون الشرق، يُستمع لأقواله وآرائه كثيراً في الغرب، ويستفيد أهل الشرق من مقارباته وتصوّراته.
على عكس كلّ الوافدين من العواصم الغربية لتغطية الأحداث في غزة، وهم وافدون طارئون على بيئة لم يعرفوها زمن السلم فكيف يختبرونها زمن الحرب، وهم مؤقتون أيضاً بميقات الحرب المشتعلة وبزمن الحدث المشتعل على الجبهة، ومن الطبيعي أن لا يحوز الطارئ على نظرات المقيم وعدسات الدائم من حيث معايشة قصص الإنسان والمكان والزمان.
ثانياً، أنّ هؤلاء المذكورين، على تمام الدراية والمعرفة أنّ الخبر سيذاعُ إما عبر التغطيات الصحافية المباشرة أو من خلال وكالات الأنباء أو من خلال البلاغات العسكرية، وأنّ الوجود في منطقة الحرب منوط بإيراد القصص الصحافية وبكشف القضايا والملفات الكبرى الغائبة والمغيّبة، وبالتالي فإنّ وجودهم في مناطق النزاع والنار ليس من قبيل الترف أو الشهرة أو المغامرة غير المحسوبة، إنما هو متعلق بقدرتهم على الوصول إلى المدى الإعلامي والإخباري الذي لا تصله كاميرات البث المباشر والتغطيات المفتوحة.
ثالثاً، إنّ هؤلاء، لديهم خلفية معرفية وتاريخية دقيقة وكبرى، بأحوال الشرق الأوسط خاصة، وقد ساهموا في التأريخ له، (روبرت فيسك مثلا أرّخ للثورة الإيرانية وللحرب الأهلية اللبنانية ولحرب العراق، سيمور هيرش أرّخ للعلاقات الأميركية الإيرانية)، وبالتالي فإنّ نظرة الحدث العسكري كمحطة من تاريخ كامل، وكجزء من سياق عايشوه بتفاصيله، منحهم أريحية موضوعية في التعامل معه كمنعرجات في التاريخ، ولم يسقطوا في مطبّ تحويل الحدث إلى صانع للسردية ومحرّك للأيديولوجيا ومحفّز للهويات السياسية والثقافية المفترسة.
رابعاً، وهم الأهمّ، أنّ هناك فصلاً وبتراً، واضحاً بين صحافة الميدان وعلى رأسها الصحافة الاستقصائية، والمراسلات العسكرية، وهو بتر باتت المراسلات العسكرية بمقتضاه عبارة عن تقرير أجوف خالٍ من أيّ قصة إنسانية أو قضية استقصائية تضرب في العمق وتغيّر في مسار الرأي العام، وكلما غاب الإنسان بقضاياه، حضرت الأيديولوجيا بقطعيّاتها.
كان روّاد المراسلات الحربية، صحافيين ميدانيين أصحاب منحى استقصائيّ يتحرى في القضايا ويكشف التجاوزات بالوثائق والأدلة ويُحمّل المسؤولية، وهو ما أعطى لمراسلاتهم بُعداً وقيمة صحافية متميّزة.
كانت المراسلات العسكرية لسيمور هيرش في فيتنام، عبارة عن تحقيقات استقصائية عن المجازر المقترّفة في قرية "ماي لاي"، مكّنت الرأي العام من التعرّف إلى حقيقة المهمّة القذرة لجيشه وأسقطت سمعته في الحضيض، وأحدثت تغييرات كبرى في الجسم السياسي الأميركي.
وبدورها، كانت المراسلات العسكرية لروبرت فيسك، خاصة في لبنان، وكشفه بالحجة والدليل، تورّط أرييل شارون شخصياً في مجزرة صبرا وشاتيلا في 1982، قرينة مهمة لتوجيه ضربة رمزية في الصميم "للجيش الذي لا يقهر"، وأثبتت أنه ليس سوى عصابات وآلة قتل وفتك بالأطفال والنساء، وكانت مراسلاته مهمة للغاية لإدانة شارون باقتراف جرائم حرب.
أما جيريمي سكاهيل، فلا يزال رقماً صعباً ومدرسة مهمّة في المراسلات العسكرية في أفغانستان، وقد أثبت بما لا يدع مجالاً للشك (بالوثيقة والصور) أنّ كلّ الضربات الصاروخية التي وجّهتها القوات الأميركية للأبرياء في حفلات زفافهم وأعيادهم، كانت بمقتضى الترصّد والإصرار والنية المبيّتة.
وكلما ابتعدت المراسلات الحربية عن الميدان، بتفاصيله الاستقصائية والإنسانية، كلما اقتربت من الرأي، المؤدلج والروايات الحاضرة والسرديات الجاهزة... وهو ما يفسّر عجز عدد كبير من المراسلين الغرب عن الاحتكاك بالميدان الغزاوي وملامسة الناس في آلامهم وآمالهم، ومصافحة القضايا الإنسانية التي يستحقها الرأي العام الغربي المتعطّش لقضايا الحق والحقيقة، والعدل والعدالة...
يبدو أنّ الحاجة باتت ملحة، لإعادة الاعتبار للمراسلة العسكرية، وبيان قيمتها وخطورتها وأهميتها في إنارة الرأي العام، بالقضايا العامّة، عوضاً عن التحوّل إلى مجرد مراسلين وببغاوات غبية، لما يريد "الجيش" إبلاغه أو ما تريد أجندة القناة تبليغه.
ويبدو أنّ إرث فيسك، في المراسلة العسكرية، يحتاج لقراءة واستفادة من قبل جيش هُواة الصحافة الوظيفية، الواصلين صُدفة للميدان، والوصوليّين في قضايا الإنسان