سجال رئاسة الجمهورية في لبنان: ارتهان متجدّد أم بناء حرّ؟
زلازل شهدت المنطقة ارتداداتها في العقدين السابقين، أفضت إلى تحوّلات بات من الصعب معها صمود الحالة اللبنانية الهزيلة بطبيعة تكوينها.
أسابيع تفصل لبنان عن استحقاق طالما شكّل محطّةً إشكاليّة في مراحل حياته السياسيّة المتعاقبة منذ نشأته الرسمية عام 1943، إنه استحقاق انتخاب رئيس للجمهوريّة اللبنانيّة بعد أن شارفت ولاية الرئاسة الحاليّة على الأفول في 31 تشرين الأول/أكتوبر المقبل.
يكتسب الاستحقاق الراهن معاني جديدة، وربما عُدّ واحداً من أكثر الاستحقاقات حساسيّةً نظراً إلى ما يحفّ به من تطورات، منها ما جرى في السنتين السابقتين من تدمير بنيوي مُمَنهج، وما جرى في محيطه الإقليمي من تحوّلات وأحداث كبيرة في العقدَين المنصرمَين.
وإن انطلقنا افتراضاً من بدء التحوّلات، نستهل الجولة من حرب العراق عام 2003 كثمرة من ثمار أحداث 11 أيلول، فاغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 كحدث بأبعاد إقليمية، فحرب تموز عام 2006، وصولاً إلى الأحداث السورية ابتداء من عام 2011، وإخفاق المشروع الأميركي بهيمنةٍ متجدّدة الصيغ على المنطقة.
ثم جاء الحدث الأوكراني الذي كان أيضاً من ثمار التحوّلات الجارية في العالم، ودخوله منعطفاً يتصّف ببدء تراجع المرحلة السابقة من الاستعمار، فالإمبريالية، فالعولمة، أي الغرب، إلى مرحلة جديدة بدأ فيها صعود قوىً كبيرة، يشكّل ترافُدُها جَرْفاً غير قابل للصدّ، أو الكبح، ما أخذ يضفي على العالم ترسيم شكل مستجدّ غير مسبوق، يُدخله في انعطافة تاريخية شهدها العالم بعد الحروب الكبيرة، خصوصاً الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولذلك توصَف التطورات الجارية بالحرب العالمية الثالثة.
زلازل شهدت المنطقة ارتداداتها في العقدين السابقين، أفضت إلى تحوّلات بات من الصعب معها صمود الحالة اللبنانية الهزيلة بطبيعة تكوينها، ولبنان كيان طالما اهتزّ وتفكّك على خلفيات تطورات وأحداث أقل جسامةً بكثير مما يجري اليوم، وعلى سبيل المثال: تفكّك الكيانُ وانفرط عقده في أحداث عام 1958 وتلاشت السلطة، وتكرّر المشهد بحدّة في أواخر ستينيات ومطلع سبعينيات القرن الماضي، وسُجّلت انتكاسة كبيرة في بدء الحرب الأهلية عام 1975، وأخرى أكثر دهماً توّجت بحرب الإلغاء عام 1989 التي أثمرت اتفاقية الطائف.
بلدٌ كُتِبَتْ نكبتُه على جبينه منذ الولادة، يواجه اليوم مرحلة مفصليّة في حصيلة تطوّرات، وتحوّلات إقليميّة وعالميّة، ترافقت مع تبعات داخليّة كثمرة من ثمار تلك التحوّلات، لكن الأداء اللبناني في هذه اللحظة المفصليّة لا يزال عينه، كما كان في مختلف مراحله. وأكثر التجاذبات التي تتناول مقعداً مخصّصاً للطائفة المارونية تجري على الساحة المارونيّة، الطائفة بسلطتها وقواها الرسميّة التي لا ترى العالم أبعد من بقعة جغرافيّة هزيلة تمتد من كفرشيما إلى المدفون شعبياً، ومن بكركي إلى الديمان كنسياً، وما بعد ذلك، أشباه ملحقات.
وعلى صعيد بقية القوى، تتكرّر تجارب الماضي بما يشبه الببغائية، لكن بفهم مرهون ومرتبط بالدولار ومصدره الأم. لذلك، تتعالى أصوات تطالب برئيس توافقيّ على سبيل المثال لأنه -في نظرهم- هو الحل، فيما هم يعايشون الأزمات المتكرّرة بسبب خيار كهذا.
ثمّة من يطالب برئيس يعمل على تحييد لبنان. والغريب كيف يحيّد بلد قائم في قلب الصراع، يقف طيران العدو قبالة شاطئه ليقصف جيرانه وأشقاءه، فيرد ببكاءِ وزير الخارجيّة، وتهديد بشكوى للأمم المتحدّة، في وقت تمكّنت بعض قواه من بناء قوّة كبيرة فرضت نفسها، وحمت البلد من الحروب الأهليّة، ومن العدوان الخارجي، وحرّرت الأرض، وها هي اليوم تحمي ثرواته من النهب الدولي، والإسرائيلي المنظّم.
من المطالبات الببغائية رئيس وسطيّ، حياديّ، ويحظى برضىً دولي، وهي من الأقاويل والشعارات التي تكرّر الحالة اللبنانيّة خصوصاً متى اقترنت برضى البنك الدولي، وبعض مراكز القرار العالمية.
سياسات دفع اللبنانيون ثمنها، وتهجر أبناؤها بحثا عن وطن بديل، بسبب هذه السياسات، ولا تزال بعض الببغاوات تردّد الشعارات عينها.
إلّا أن أصواتاً متعالية بثقة، تطرح مساراتٍ تستحقها الدول لتحمل لقب وطن، نجدها في الكلمة التي ألقاها رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله السيد هاشم صفي الدين في كلمة له في حفل تكريمي، أوّلها، أن "لبنان الماضي انتهى"، وثانيها، منبئاً من لا يريد رؤية الحقائق أن "البلد أصبح أمام وقائع جديدة"، طارحاً للشركاء في الوطن "بناء وطن سيادي مقتدر ومستقل، قادر على الدفاع عن نفسه، وقادر على بناء نفسه”.
فرق كبير بين طرحين، واحد يريد اجترار تجارب الماضي المأسوية، وآخر يريد نقل لبنان إلى صف الدول التي تستحق لقب الوطن. اليوم، وأكثر من أي يوم مضى، يمكن للبنان، بوجود مقاومته، أن يبني ذاته باستقلالية، وأن يختار ما يشاء من أصدقاء، وحلفاء.
وهنا، يكمن سرّ رئيس للجمهورية، جريء على رفض الإملاءات الخارجية، والرضوخ للبنك الدولي، ولا يهمه رضىً مستورَد، ويختار بناء بلد مع قواه الحيّة، ومقاومته الشريفة التي أثبتت جدارة حمايته، واليوم يمكن أن تثبت جدارة بنائه وطناً جديداً برؤىً جديدة، تُنسي أجياله حَقَبَاتٍ من ماضيه الرديء.