زيلينسكي يصر على رفض المبادرات السلمية ويتشبث بخطته "للسلام"
إدارة الصراع الدولي تتطلب من القادة السياسيين التحلي بقدر من الحكمة وبعد النظر، والنظر إلى الأشياء بعين الواقع والعقل، وفهم الظروف المحيطة بالبلاد داخلياً وخارجياً لإيجاد الحلول الواقعية للأزمة.
يستمر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في رفضه الدعوات الدولية للدخول في مفاوضات مباشرة مع روسيا لوضع حد للحرب بينهما، كان آخرها الدعوة الصينية الموجهة إليه للمشاركة في مؤتمر السلام الذي تنوي الأخيرة تنظيمه بشراكة مع البرازيل، مُتَذَرِّعاً بحضور روسيا، ومشدداً في الوقت نفسه على أن بلاده هي من يحدد شروط التسوية التي تتسق مع رؤيته للسلام التي سبق أن طرحها في الجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الأول 2022.
وتتضمن "خطة زيلينسكي للسلام" العديد من الشروط التي تبدو مستحيلة التطبيق وَلَا تتلاءم والواقع الميداني الحالي، أهمها مطالبة روسيا بالانسحاب الكامل من أوكرانيا قبل إجراء أي حوار معها، ووقف الأعمال العدائية، والتعويضات، ومعاقبة المسؤولين عن جرائم الحرب، وغيرها من النقاط الأخرى المُضَمَّنَةِ بالصيغة.
أولاً، وقبل التطرق بالتفصيل إلى موضوع "خطة زيلينسكي"، يجدر بنا أن نشير إلى أن مؤتمرات السلام كما جرى به العرف الدبلوماسي تقتضي حضور الطرفين المتحاربين للتفاوض تحت إشراف الدولة الراعية للمؤتمر، إضافة إلى الأطراف المتدخلة في الأزمة لوقف الأعمال القتالية بغية الوصول إلى حلول سلمية ترضي الجميع، لا أن يقتصر الأمر على حضور طرف دون آخر مثلما يحاول الغرب وأوكرانيا فعله في المؤتمر الذي سيُعقد في سويسرا منتصف هذا الشهر من دون حضور روسيا.
ثانياً، ينبغي التأكيد على أن صيغة السلام التي عرضها زيلينسكي في الجمعية العامة للأمم المتحدة آنذاك، جاءت في ظروف وسياقات معينة، إذ كانت روسيا قد انسحبت طوعاً من أوكرانيا وبعض الأراضي هناك لأسباب تكتيكية، الشيء الذي مَكَّنَ الجيش الأوكراني من استعادة تلك الأراضي مؤقتاً. لذلك، ساد اعتقاد خاطئ لدى نظام زيلنسكي بأنه سيمضي قدماً في إلحاق هزيمة بالجيش الروسي، ما دفعه في لحظة من الغرور المفرط إلى طرح هذه الصيغة.
وإذا تَمَعَنَّا في هذه الصيغة التي يتمسك بها الرئيس فلوديمير زيلنسكي، فإننا نجدها لا تعدو كونها وثيقة استسلام روسيا، وكان يمكن قبولها لو أن بلاده هي المُمْسِكَةُ بناصية الأمور في ساحة المعركة، لأنها ستكون في موقف تفاوضي قوي، ما يجعلها تفرض شروطها، لكن أن يُصِرَّ زيلينسكي على التشبث بها في ذروة اندحار جيشه، فهذا يدفعنا إلى التساؤل عن طريقة تفكير القادة الأوكرانيين في تدبير الصراع مع روسيا.
هنا نكون أمام ثلاث فرضيات
الفرضية الأولى، إما أن نظام الحكم في أوكرانيا عاجز عن فهم ما يدور حوله وإما أنه لا يريد ذلك، وأن التبعية العمياء للغرب تدفعه إلى عَيْشِ حالة انفصام عن الواقع، الذي يصور له على أنه المنتصر في الحرب بفرض تصوره الأحادي لصيغة السلام مع روسيا، من دون الأخذ بعين الاعتبار موازين القوة العسكرية في الميدان الذي يميل لمصلحة موسكو لحد الآن.
الفرضية الثانية، أن النظام الأوكراني ليس له ما يقدمه، وخصوصاً أنه لا يملك أي أوراق يساوم بها الكرملين، في ظل التقدم المتواصل الذي يحرزه الجيش الروسي في العديد من القطعات العسكرية، وهو يعلم أن جلوسه إلى طاولة المفاوضات مع موسكو يعني إقراراً بالهزيمة. لذلك، يتشبث بخطته البالية.
الفرضية الثالثة، أن نظام زيلينسكي يرى من مصلحته استمرار الحرب لجني أكبر قدر ممكن من المكاسب الشخصية في ظل ورود تقارير إعلامية غربية عن حالات فساد مالية تشمل قيادات الصف الأول في هرم الدولة الأوكرانية، الذين استفادوا بشكل شخصي من المساعدات المختلفة التي قدمتها الدول الغربية في إطار الحرب ضد روسيا.
وفي جميع الأحوال، سيكون الخاسر الأكبر هو الدولة الأوكرانية التي تعاني على عدة مستويات، أهمها الاستنزاف البشري والمادي لقواتها في ساحة الحرب. أضف إلى ذلك الفشل في التعبئة العسكرية بسبب رفض الشباب الأوكراني الالتحاق بالجيش، وتفضيل أغلبهم الهروب إلى الخارج، رغم قانون التعبئة الجديد الذي صدر في أبريل/نيسان الماضي والعقوبات المقررة ضد المتهربين من الخدمة العسكرية، فضلاً عن الأزمات الاقتصادية، مثل ارتفاع التضخم والبطالة، من جراء تداعيات الحرب.
كما أن الدعم الغربي لأوكرانيا لن يغير شيئاً على المستوى العسكري، بشهادة الخبراء العسكريين الغربيين أنفسهم. وقد يضطر الغرب في لحظة ما تحت وطأة الفشل في هزيمة روسيا إلى القبول بالأمر الواقع عبر الدخول في مفاوضات معها، وخصوصاً أن لدى روسيا العديد من الأوراق التي تمكنها من مساومة الغرب، وبالتالي ستخرج أوكرانيا من الحرب خالية الوفاض، بعد أن تكون قد اسْتُنْزِفَتْ على كل الصُّعُدِ.
كانت لأوكرانيا فرصةٌ كبيرةٌ لا تعوض للوصول إلى اتفاق سلام مع روسيا بعد بداية العملية العسكرية الروسية خلال المفاوضات التي احتضنتها مدينة إسطنبول التركية في آذار/مارس 2022، لأن ذلك كان سيمكنها من الحفاظ على كل الأراضي التي ضمتها موسكو إلى ترابها وحقن دماء خيرة ضباطها وجنودها، لكن نظام زيلينسكي آثر الانبطاح للغرب، بعد تلقيه أوامر من الأخير بالتنصل منها وعدم الالتزام بها، وَهُوَ ما أكده ضمنيا الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مؤخراً في كلمة له خلال حضوره مناورات "افس 2024" في مدينة إزمير التركية، ووصل الأمر آنذاك بالرئيس فلوديمير زيلينسكي في لحظة طيش سياسي إلى إصدار مرسوم رئاسي في سابقة تشريعية هي الأولى في العالم، يُحَرِّمُ فيه بمقتضاه على نفسه الحوار مع موسكو ما دام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سدة الكرملين.
ختاماً، إن إدارة الصراع الدولي تتطلب من القادة السياسيين التحلي بقدر من الحكمة وبعد النظر، والنظر إلى الأشياء بعين الواقع والعقل، وفهم الظروف المحيطة بالبلاد داخلياً وخارجياً لإيجاد الحلول الواقعية للأزمة. ومع ذلك، يظل السؤال المهم: هل يبقى زيلنسكي على موقفه أم يغيره؟ لنترك الكلمة الفصل لأفواه البندقيات.