خيري علقم: للشهادة وجهٌ مقدَّس

بعد هذه الأعوام الطويلة، یظهر خيري، الحفيد، الذي كانت "نار الانتقام تحرق قلبه"، مستلّاً سلاحه (مسدس "يريحو ") لينفّذ عمليته التي أدت إلى مقتل وجرح 15 من المستوطنين

  • خيري علقم: للشهادة وجهٌ مقدَّس
    خيري علقم: للشهادة وجهٌ مقدَّس

نحن أمة لا حياة لها خارج مسيرة الدم المراق تضحية واعية حتى الشهادة، هذا من مضمون ما ثبته الشهيد فتحي الشقاقي في وعي الشباب الفلسطيني، وها نحن نرى تجليات ذلك. رجلٌ واحد، بطلٌ واحد يغيّر مفردات المشهد فی فلسطين، كأنّ نسمات رجب الخیر تستقطب الثوّار، وتهيّئ قلوبنا لرُعب عمليّات مقاومتنا في شهر رمضان. الشهيد خيري علقم، 21 عاماً، على اسم جدّه "خيري علقم" الذي استُشـهد طعـناً على يد مستوطن إسرائيلي عام 1998، توجّه إلى القدس مساء يوم الجمعة الماضي، ليردّ على مجـزرة جنين الأخيرة، وغیرها من جرائم الاحتلال، منفرداً ذهب، فزلزل الكيان المؤقت.

بعد هذه الأعوام الطويلة، یظهر خيري، الحفيد، الذي كانت "نار الانتقام تحرق قلبه"، على فقدانه جدّه الذي لم يره، وعلى دماء شهداء الشعب الفلسطيني، فاستلّ سلاحه (مسدس "يريحو ") ونفّذ عمليته التي أدت إلى مقتل وجرح 15 من المستوطنين، وأين؟ في القدس المحتلة الثكنة العسكرية، "عش الدبابير"، فلا زاوية هناك من دون كاميرات مراقبة متطورة.

لقد سجّل 15هدفاً من هجمة واحدة، العملية أربكت العدو، وكشفت هشاشة أمنه، وأدخلت الرعب إلى قلوب "جیشه" ومستوطنيه، لكن للأسف مع ذلك، أنظمة القبيلة المفروضة على شعوبنا أدانت العملية ومثلهم فعلت الرئاسة التركية، في ازدواجية معايير، صمت الأموات على مجازر الاحتلال، والمسارعة إلى إدانة دفاع شعبنا ومقاومته!

القدس وفلسطين مؤشر الفرز اليوم، كلّ من أدان عملية القدس البطولية صَنَّفَ نفسه من المتخاذلين، فلسطين في هذه اللحظات تقسم العالم إلى جبهتين واضحتين؛ لا لبس فيهما ولا ألوانَ، فريق مرتزق انبطح وفريق مجاهد حقيقي.

الخضوع، وتسوّل رضا العدو القاتل، ورضا العيش بذل، من علامات من فجروا في التطبيع، فلا غرابة من إداناتهم للعملية، التي أذاق بها الخير كلّه مرّ العلقم لكيان الاحتلال وأذنابه. والردّ لا تصنعه سوى المقاومة ومحورها، وأبنائها كالفتى محمد عليوات 13 عاماً بطل عملية سلوان عقب عملية خيري، هاجم الاحتلال وهم مسلحون، واشتبك معهم، فأصابهم إصابات بالغة.

بالأمس رأيت سيدة فلسطينية على محطة تلفزيونية تقول: "نحن نُحَنّي أطفالنا بالبارود حتى إذا ما اشتدّ عودهم صاروا ناراً على الغاصبين!" صدقت والله، ركّزوا في أعمار هؤلاء الشهداء الشبان يقدّمون حيواتهم الطرية في سبيل المقدسات، ومهما حاول الإعلام المتماهي مع الرواية الإسرائيليّة تشويه الحقائق وحرف أجيالنا بحرب ناعمة وغزو ثقافي عن قضيتهم وعن مبادئهم بتسخيفهم، ومهما بثّوا من سموم وتفاهات عبر وسائل التواصل، فلن يقدروا، ودائماً يأتي الجواب من أبنائنا الشهداء والأبطال فيفاجئنا قبل أي أحد.

قبل 3 أشهر كتب عدي التميمي قبل استشهاده: "أعلم أنني لن أحرّر فلسطين بعمليتي ولكن نفّذتها، واضعاً هدفاً أساسياً: أن ثمرتها مئات من الشباب سيحملون البندقية من بعدي". ألم يصدق عدي؟ فَتَنَتهُم روحك يا شهيد، والحبل "ع الجرار"، خيري بمسدس يُحيِّد ٨ مستوطنين، ويصيب عدداً كبيراً، والصبي عليوات على المنوال نفسه، لقد أديتم الأمانة، وشفيتم صدور أمهات الشهداء.

سيتضاعف الشعور بين المحتلين بعد هذه العملية بلا شكّ، وعليهم كلما همّوا بالخروج من بيوتنا التي اغتصبوها أن يحسبوا الحساب، فسلاح أسود المقاومة حاضر، ورصاصهم علقَم، ليس شباب فلسطين ممن ينام على ضيم.

قد يقول قائل إن المعركة غير متكافئة، بل نقول لم تكن يوماً متكافئة في تاريخ هذا الصراع، ولكن الشعب الفلسطيني لم يختر يوماً أن يكون أعزلاً، بل إنّ أكبر جريمة بحق هذا الشعب هو حرمانه من السلاح الذي يدافع به عن نفسه، وشباب فلسطين فيهم من البطولة والشجاعة ما يكفي، ولكنه تُرِك وحيداً، وفرضوا عليه سلطة فاسدة وظيفتها أن تكون شرطياً في خدمة الاحتلال.

وهنا نتحدّث عن الجهة الوحيدة في الكون التي أوصلت السلاح إلى المقاومين، محور المقاومة وعلى رأسه الجمهورية الإسلامية، مع ذلك لا يفتأ الإعلام يضخّ المليارات لغايات غسيل أدمغة شعوبنا، من أجل معاداتهم وشيطنتهم ومحاربتهم وتكفيرهم ومحاصرتهم وملاحقتهم واغتيال قادتهم.

الشهيد خيري وإخوانه الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ومنهم من ينتظر، حين تقاعست الأمة كانوا هم الأمة، ولسان حالهم: وظيفتي ألّا أثأر فقط.  بل أن أحسن الثأر، رجال تحسبهم جاءوا من زمن بدر والخندق من زمن أبي دجانة وعمار بن ياسر ومصعب بن عمير والحسين بن علي وعلي الأكبر وأبي الفضل العباس، يستحقون أن يكونوا رفاقاً لهم.

للشهادة كما كان يقول الشهيد مطهري وجهان: 

وجهٌ مقدّس في انتسابها للمقتول..

 ووجهٌ بشعٌ إجراميٌّ في انتسابها للقاتل..

الشهادة بما تحمله من صفاتٍ ساميةٍ كالوعي والاختيار، وقدسية الهدف، وخلوّها من الميول الذاتية عملٌ بطوليٌ يبعث على الإعجاب والافتخار، وحقّاً إنَّ هذه الثقافة البطولية، كفيلة أن تحوّل كلّ فلسطين قنابل بشرية تتوعّد القتلة مشتهي سفك الدماء للفطائر المقدسة على الأرض السليبة.

كلمة أخيرة للشهيد خيري: وها أنت قد بلغت الدرجات، ونلت ما تمنيت فالبشرى لك، وللسائرين على الطريق ذاته، فقد بلغنا عن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) قوله: "..أمّا بعد فإنّ الجهاد بابٌ من أبواب الجنة فتحه الله لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة وجنّته الوثيقة، فمن تركه رغبةً عنه ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء، وديث بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه بالأسداد"..