حكاية "إسرائيل" التي تبناها نابليون في فلسطين.. كيف فشلت؟
كان نابليون نجم زمنه، فهو الذي استطاع، بحسب المؤرخ العربي محمد حسنين هيكل، الربط والتوليف بين أربع قضايا أساسية استحوذت على اهتمام العالم في ذلك الوقت.
تعيد أغلب الكتب والمصادر مسألة تأسيس "إسرائيل" إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وتحديداً إلى فترة إصدار وعد بلفور عام 1917، الذي نص على "إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين". في المقابل، يعيد معظم المؤرخين والأكاديميين أصول تلك الفكرة إلى العام 1896، أي إلى موعد إصدار كتاب "دولة اليهود" للكاتب النمساوي ومؤسس فكرة الصهيونية الحديثة ثيودور هرتزل، الذي دعا في كتابه إلى إقامة دولة يهودية، محدداً رؤيته لتلك الدولة وسبل إقامتها واستمرارها، إلا أن جذور فكرة "إسرائيل" بمفهومها الحديث تعود فعلياً إلى ما قبل بلفور وهرتزل، وتحديداً إلى عهد أول إمبراطور فرنسي بعد الثورة التي أطاحت الملكية نابليون بونابرت (1769 - 1821).
كان نابليون نجم زمنه، فهو الذي استطاع، بحسب المؤرخ العربي محمد حسنين هيكل[1]، الربط والتوليف بين أربع قضايا أساسية استحوذت على اهتمام العالم في ذلك الوقت، وهي:
1. "الوطنية" التي برزت نتيجة للثورة الفرنسية ودفعت الشعوب إلى البحث عن هويتها وحقها في تقرير مصيرها وطلب الحرية والنهوض الاجتماعي.
2. "التسابق إلى المستعمرات" والتنافس عليها بين القوى الأوروبية.
3. "المسألة الشرقية" التي تمثلت بعملية التربص بإرث الدولة العثمانية التي كانت إمبراطورية شاسعة تمركزت في قلب العالم.
4. "المسألة اليهودية" التي برزت مع كثافة الحضور اليهودي في أوروبا وروسيا، وكانت هجرة اليهود من الشرق هي النقطة الحرجة في تلك المسألة، لأن الغرب لم يكن يريد استقبال اليهود بعد انتشارهم بشكل كبير في أوروبا.
كانت رؤية نابليون تعتمد على إيقاف الهجرة اليهودية من الشرق إلى الغرب لكسب دعم شعوب أوروبا وتأييدهم، إذ كانوا يمتعضون من استمرار تلك الظاهرة ويرفضون وجود اليهود بينهم باعتبارهم دخلاء عليهم. وقد عمل في الوقت نفسه على كسب دعم يهود العالم الذين كان عددهم الإجمالي آنذاك 12 مليون يهودي، فعمل على استخدام ظاهرة "الوطنية" في إيقاظ وعي يهودي يلتقط فكرة "حق تقرير المصير"، ويطالب بوطن قومي لليهود ينقذهم من الشتات ويريح أوروبا في الوقت نفسه من عبء موجات الهجرة من يهود الشرق.
ولعب نابليون على الوتر الديني اليهودي ليصور فلسطين التي كانت آنذاك تحت حكم السلطنة العثمانية على أنها أرض الميعاد ووطن اليهود المختار. وبذلك، يكون قد بدأ السيطرة على شيء من إرث الدولة العثمانية التي كانت القوى تتسابق على إرثها.
في نيسان/أبريل 1799، نجح نابليون بالاستيلاء على القاهرة والإسكندرية في مصر. ومن هناك بدأ التوغل الفرنسي نحو فلسطين، وخرجت خطة نابليون إلى العلن عبر ورقةٍ علقت بداية أمام أسوار القدس مع وصول القوات الفرنسية إليها، ثم بدأ توزيعها في كل فلسطين، ووزعت في الوقت نفسه في فرنسا وإيطاليا والإمارات الألمانية وإسبانيا، وكانت الورقة عبارة عن نداء من نابليون إلى يهود العالم. والجدير ذكره أن نابليون استخدم مصطلح "الإسرائيليين" في ندائه، وتضمنت رسالته التالي[2]:
"من نابليون بونابرت القائد الأعلى للقوات المسلحة للجمهورية الفرنسية في أفريقيا وآسيا إلى ورثة فلسطين الشرعيين.
أيها الإسرائيليون، أيها الشعب الفريد الذي لم تستطع قوى الفتح والطغيان أن تسلبه نسبه ووجوده القومي، وإن كانت قد سلبته أرض الأجداد فقط.
إن مراقبي مصائر الشعوب الواعين المحايدين، وإن لم تكن لهم مقدرة الأنبياء مثل إشعياء ويوئيل، أدركوا ما تنبأ به هؤلاء بإيمانهم الرفيع أن عبيد الله (كلمة إسرائيل في اللغة العبرية تعني أسير الله أو عبد الله) سيعودون إلى صهيون وهم ينشدون، وسوف تعمهم السعادة حين يستعيدون مملكتهم من دون خوف.
انهضوا بقوة أيها المشردون في التيه، إن أمامكم حرباً مهولة يخوضها شعبكم، بعدما اعتبر أعداؤه أن أرضه التي ورثها عن الأجداد غنيمة تقسم بينهم بحسب أهوائهم… لا بد من نسيان ذلك العار الذي أوقعكم تحت نير العبودية، وذلك الخزي الذي شل إرادتكم لألفي سنة. إن الظروف لم تكن تسمح بإعلان مطالبكم أو التعبير عنها، بل إن هذه الظروف أرغمتكم بالقسر على التخلي عن حقكم. لهذا، فإن فرنسا تقدم لكم يدها الآن حاملة إرث إسرائيل، وهي تفعل ذلك في هذا الوقت بالذات، وبالرغم من شواهد اليأس والعجز.
إن الجيش الذي أرسلتني العناية الإلهية به، ويمشي بالنصر أمامه وبالعدل وراءه، اختار القدس مقراً لقيادته. وخلال بضعة أيام، سينتقل إلى دمشق المجاورة التي استهانت طويلاً بمدينة داوود وأذلتها.
يا ورثة فلسطين الشرعيين…
إن الأمة الفرنسية التي لا تتاجر بالرجال والأوطان كما فعل غيرها، تدعوكم إلى إرثكم بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء.
انهضوا وأظهروا أن قوة الطغاة القاهرة لم تخمد شجاعة أحفاد هؤلاء الأبطال، الذين كان تحالفهم الأخوي شرفاً لأسبرطة وروما، وأن معاملة العبيد التي طالت ألفي سنة لم تفلح في قتل هذه الشجاعة.
سارعوا! إن هذه هي اللحظة المناسبة التي قد لا تتكرر لآلاف السنين للمطالبة باستعادة حقوقكم ومكانتكم بين شعوب العالم؛ تلك الحقوق التي سلبت منكم لآلاف السنين، وهي وجودكم السياسي كأمة بين الأمم، وحقكم الطبيعي المطلق في عبادة إلهكم يهواه، طبقاً لعقيدتكم، وافعلوا ذلك في العلن وافعلوه إلى الأبد".
حاول نابليون استعطاف يهود الشرق واكتساب ثقتهم عبر تصويرهم ضحية تاريخية لا معين لها إلا فرنسا، وأن خلاصهم لا يكون إلا بالنهوض والقتال لاستعادة "أرض صهيون" عبر تصويرها كحق تاريخي لليهود، وكان هدفه من خلال هذه الكلمات يتمثل باستنهاض أكبر عدد من اليهود ليقاتلوا إلى جانب جيشه في معارك فلسطين.
وصل نابليون إلى حدود مدينة عكا، وخاض معارك قاسية فيها، وكان في هذا الوقت ينتظر دعم يهود فلسطين والشام بعد ندائه الشهير، إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل[3]، فمعظم يهود فلسطين كانوا خائفين من الفرنسيين، ولم يثقوا بوعودهم، وساعدوا الأتراك المدعومين بريطانياً في التصدي لنابليون وجيشه، وخسر الفرنسيون المعركة بعد تفشي الطاعون بينهم، وعادوا من فلسطين إلى مصر مهزومين.
ولما كان الصراع التوسعي بين الفرنسيين والبريطانيين محتدماً في الشرق، فقد قام الإنكليز باستنساخ تجربة نابليون بشكل مستحدثٍ أكثر بعد مرور أكثر من 100 عام، ولعبوا على الوتر الديني-العاطفي ليهود العالم. تجلى ذلك بولادة "إسرائيل" على أرض فلسطين، إذ تحول هذا الكيان إلى ربيب للمملكة المتحدة ومعسكرٍ لها في الشرق، قبل انتقاله إلى الرعاية والقيادة الأميركية بعد خسارة بريطانيا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
المراجع
[1] محمد حسنين هيكل - كتاب المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل - مجلد 1 - ص 27 - دار الشروق 1996
[2] Letter to the Jewish Nation From Napoleon (April 20, 1799) - Jewish Virtual Library - https://www.jewishvirtuallibrary.org/letter-to-the-jewish-nation-from-napoleon
[3] Napoleon Issues Proclamation Which Calls Jews Rightful Heirs of Palestine – CIE - https://israeled.org/napoleon-issues-proclamation-calls-jews-rightful-heirs-palestine/