تحرير الأسرى: ما بين طوفان الأقصى وعملية عنتيبي
التاريخ يُعيد نفسه من جديد، إذ على مدار أكثر من 75 عاماً من الصراع مع الاحتلال، لم تتوقّف المقاومة عن ممارسة عملياتها المختلفة بحسب الظروف المختلفة، ولم يحقّق الاحتلال نصراً ساحقاً ومثالياً خلال سنوات هذا الصراع.
في 27 حزيران/يونيو 1976 تمكّنت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من تنفيذ عملية نوعية عبر خطف طائرة إيرباص أي 300 أثناء رحلتها ما بين "تل أبيب" والعاصمة الفرنسية باريس، وقد كان يوجد على متن الطائرة نحو 248 راكباً، واستطاعت الجبهة الشعبية تحويل وجهة الطائرة نحو ليبيا قبل أن تمرّ بها نحو أوغندا حيث استقرّت أخيراً في مطار عنتيبي. واللافت في هذه العملية هو دعم الرئيس الأوغندي "عيدي أمين دادا" للمقاومين، والذي وفّر الحماية لعناصر الجبهة الشعبية عبر إرسال 100 عسكري أوغندي لمساندة الخاطفين.
تفاصيل هذه العملية مثيرة بتفاصيلها كافة، إذ الجرأة التي مارست فيها المقاومة العملية آنذاك كانت لافتة على الصعيد الدولي، ومن هذه الزاوية يكمن الفرق الوحيد ما بين عملية عنتيبي، وطوفان الأقصى، وهو عدم وجود الزخم الإعلامي الموجود في طوفان الأقصى، ولكن يمكن القول إنّ المقاومة الفلسطينية على طوال تاريخ الصراع مع الاحتلال كانت تُمارس عمليات نوعية، وشجاعة حفرت في تاريخ هذا الصراع، ولم تكن عملية خطف الأسرى هي الأولى من نوعها، ولكن من جديد اختلاف الظروف والإمكانيات يؤدّي بطبيعة الحال دوراً في مشهد الصراع.
انطلاقاً مما سبق، بعد ما يقارب 9 شهور من الحرب على غزة استطاع الاحتلال تحرير 4 أسرى من داخل مخيم النصيرات في قطاع غزة، عبر عملية وصفها بالمعقّدة والخطيرة، ولم تكن عملية تحرير الأسرى السابقة الذكر هي الأولى من نوعها، إذ إنّ عملية عنتيبي تأتي في السياق ذاته، ولكن اللافت دوماً في مثل هذه العمليات، هو تضخيم الإنجاز إذا جاز التعبير من طرف الاحتلال، إذ إنّ نتنياهو في مؤتمر صحافي بعد تحرير الأسرى من قطاع غزة يقول تعليقاً على العملية: "هذه العملية سوف تُسجّل في كتب التاريخ"، أما إسحاق رابين رئيس الوزراء "الإسرائيلي" أبّان عملية عنتيبي فيقول تعليقاً على العملية: "لا شكّ أن هذه العملية ستخلّد في سجلات التاريخ العسكري، وفي التقاليد الوطنية الإسرائيلية".
إذاً، يحاول الاحتلال دوماً في مضمار الحرب النفسية تضخيم حجره، ولكنّه يقع في الفخ بطبيعة الحال، حيثُ المقاومة الفلسطينية تقوم في كلّ مرّة بجعل الاحتلال يدفع ثمناً مقابل كلّ عملية تحرير أسرى، تحت قاعدة لا شيء بالمجان، وبالعودة هنا إلى عملية عنتيبي، عندما وصل "الكوماندوز الإسرائيلي" إلى المطار الأوغندي، اشتبك مع المقاومين وقُتل "يوناتان نتنياهو" شقيق رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي خلال عملية الاشتباك، وأيضاً قتل الاحتلال 3 رهائن خلال العملية، وأطلق على هذه العملية بعد مقتل شقيق "نتنياهو" اسم عملية "يوناتان"، وعند الحديث مجدّداً عن عملية تحرير الأسرى من داخل مخيم النصيرات، قُتل الضابط في وحدة اليمام "أرنون زامورا"، وقرّر الاحتلال تغيير اسم العملية باسم ضابط وحدة اليمام بحسب بعض وسائل الإعلام العبري.
في سياق ما سبق، يمكن القول إن عملية تحرير الأسرى في قطاع غزة لم تحرز نصراً استراتيجياً لحكومة الاحتلال، برغم ظروف التوقيت، حيثُ المقاومة ما زالت مستمرة في عملياتها، وما زال لديها مخزون استراتيجي من الأسرى، بالإضافة إلى ذلك لم يحقّق نتنياهو أيّ إنجاز على الصعيد الداخلي سواء بالحفاظ على وحدة الحكومة، أو حتى على صعيد تخفيف حدّة التظاهرات المطالبة بإنجاز ملف الصفقة، وعلى العكس وكما هو متوقّع كانت التظاهرات في اليوم نفسه تملأ شوارع ما تُسمّى "تل أبيب".
فضلاً عن ذلك يمكن اقتباس كلمات الكاتب الإسرائيلي "بن كسبيت" ـــــ أبرز محلّلي صحيفة "معاريف" ـــــ من مقاله بعنوان "استراتيجية مشينه"، لقراءة وهن البيت الإسرائيلي من الداخل بعد هذه العملية، إذ يقول "بن كسبيت": "صحيح أنّ هذه العملية أعادت إلينا شيئاً من ثقتنا المفقودة بأنفسنا وإيماننا بقدراتنا، ولكن ينبغي للمرء ألّا يرتبك، فحتى في اليوم التالي لهذا السبت السحري، ستشرق الشمس من المكان نفسه، وسيظلّ الوضع الاستراتيجي لـ "إسرائيل" أيضاً في المكان نفسه عالقاً، وهناك 120 أسيراً آخرين في أسر حماس، مما يعني أننا بحاجة إلى 30 عملية أخرى من هذا النوع"!
هنا، التاريخ يُعيد نفسه من جديد، إذ على مدار أكثر من 75 عاماً من الصراع مع الاحتلال، لم تتوقّف المقاومة عن ممارسة عملياتها المختلفة بحسب الظروف المختلفة، ولم يحقّق الاحتلال نصراً ساحقاً ومثالياً خلال سنوات هذا الصراع، حيثُ في كلّ مرّة يدفع الاحتلال ثمناً أكبر من الهدف الذي يسعى إليه، وفي المضمار ذاته يمكن القول إنّ عملية تحرير الأسرى من داخل مخيم النصيرات لم تقم بتغيير حقيقة الكيان المجرم، بل على العكس لم تتوقّف التظاهرات في عواصم وجامعات العالم عن المطالبة بوقف الحرب بعد المشاهد المؤلمة للمجزرة التي ارتكبها الاحتلال خلال العملية، وهذا ما يدعونا إلى القول: إن الاحتلال فشل أكثر مما نجح.
يبقى السؤال، لماذا نعود إلى التاريخ؟ وفي سبيل البحث عن الإجابة علينا أن نتذكّر دوماً أن الصراع مع الاحتلال هو صراع وجود، وسيبقى هذا الصراع مستمرّاً طالما الاحتلال جاثم على أرض فلسطين، وفي سياق متصل، يتبنّى الاحتلال في عقيدته اليمينية المتطرّفة رؤية "زئيف جابوتنسكي" التي تحدّث فيها عن إفراغ أيّ أمل لدى الشعب الفلسطيني بتحقيق النصر عبر الضغط العسكري، أو "القوة" على حد وصفه، ولذلك فإنّ التمسّك بالأمل في أحلك الظروف هو جدوى مستمرة، وأكثر من ذلك الثقة دوماً بالمقاومة حتى ولو أخطأت على حد تعبير الشهيد نزار بنات.