بين مقديشو و"نتساريم".. رقم فاصل لـ "صوملة" غزة
لطالما غطت الولايات المتحدة الأميركية أهدافها غير المعلنة، ولا سيما الاقتصادية والتوسعية منها في الصومال خلف عباءة العمل الإنساني، وها هي تعيد الكرة اليوم في غزة بالتنسيق مع الاحتلال.
لطالما كان استيطان قطاع غزة "هاجساً ديموغرافياً" دائم الحضور في صلب الاستراتيجية السياسية والعسكرية الصهيونية، التي تقوم على مخطط تفريغ الخزان البشري الغزاوي بشتى الطرق، سعياً لإعادة احتلال القطاع الذي أجبر على الاندحار عنه عام 2005.
اليوم، وبعد 19 عاماً من الانسحاب من غزة، شكّلت معركة "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي، أرضية لإعادة إحياء الحلم الإسرائيلي، وهذا ما يفسّر إلى حد ما الحرب الشعواء التي تشنها "تل أبيب" على غزة، وما رافقها من محاولات اختراق ناعم للقطاع من محور "نتساريم" وصولاً إلى الميناء البحري، ومن مخططات ورؤى أميركية -صهيونية، تجلت بمساعي "صوملة غزة" تارة، وتكريس رؤية غزة 2035 تارة أخرى.
غزة أمام سيناريو "الصوملة"
في شباط/فبراير الماضي، بدأ "جيش" الاحتلال بشق طريق ترابي متعرج يشطر قطاع غزة إلى نصفين، ويتقاطع مع "خطة الأصابع الخمس" التي وضعها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون عام 1971 لتسهيل السيطرة على القطاع.
عرف الممر باسم محور "نتساريم" أو شارع "794" اللوجستي، كما يسمّيه الاحتلال، وهو الطريق الذي يحمل من باب المصادفة رقم قرار مجلس الأمن الدولي المتعلق بأزمة الصومال عام 1992 نفسه، بعد سقوط 30 ألف ضحية نتيجة المجاعة، وقادت على إثره الولايات المتحدة الأميركية أكبر عملية عسكرية "إنسانية" تحت اسم "إعادة الأمل" لتهيئة بيئة آمنة لعمليات الإغاثة وتأمين المساعدات، وبدأت قوات المارينز بالنزول إلى شواطئ مقديشو وتأمين السيطرة على ما يقرب من ثلث المدينة، بما في ذلك الميناء والمطار.
أدخل القرار الأممي 794 الصومال في اضطرابات سياسية وأمنية جمّة، بعدما اضطلع بدور محوريّ في تفكيك البلاد سياسيّاً، مجتمعيّاً، أمنيّاً واقتصاديّاً، وأفقدها السيادة على أراضيها، ووضعها تحت الوصاية الدّوليّة، وفتح الباب أمام الوجود الأجنبي المتزايد في القرن الأفريقي.
اليوم، ووفقاً لما ذكرناه، يبدو أن سيناريو الأزمة الصومالية وجد صدى في قطاع غزة، من بوابة المجاعة والمساعدات الإنسانية، ومن ناحية العلاقة العضويّة بين الوجود الأميركي المباشر على الأرض وخلق واشنطن للأزمات والمشاركة في إدارتها في الوقت ذاته، وما يدعم تلك الفرضية هو الأداء الواضح للاحتلال بالتنسيق مع الإدارة الأميركية التي أنشأت على قاعدة سياسة فرض الأمر الواقع، رصيفاً عائماً قبالة سواحل غزة بإشراف إسرائيلي لإيصال مساعدات إغاثية عبر المسار البحري المتصل بشارع 794 المرتبط وظيفياً ولوجستياً به، باعتراف إسرائيلي على أنه "إنجاز طويل الأجل، وأنه شُيِّد ليبقى"، على اعتبار أنه جزء من حزام عسكري من شأنه تغيير تضاريس القطاع وإعادة تشكيله واحتلاله وترسيخ الوجود العسكري فيه، ما يعني أن الأمر لا ينفصل عن أهداف "تل أبيب" وواشنطن الاستراتيجيّة لتدبير اليوم التالي للحرب.
المساعدات الإنسانية مدخلاً
لا شك أن المساعدات الإنسانية كثيراً ما ترتبط بالسياسات الخارجية للدول المانحة، ولا يختلف اثنان على أنه في العقود الأخيرة استحدثت الدول المتقدمة اقتصادياً كالولايات المتحدة الأميركية، أساليب ملتوية لتوفير غطاء لها في بعض الدول، بحكم ثقلها السياسي ونفوذها المالي على هذه المنظّمات، ولا سيما في الصومال.
حيث سعت واشنطن إلى تسييس عمل بعثة حفظ السلام والعمل الإنساني هناك، عبر إنشاء هيئات خاصة ومنظمات مجتمع مدني، تحت مظلة القرار الأممي 794، وتوجيهها بحسب ما أكد لنا الخبير في الشؤون الأفريقية الدكتور سليمان ميغاني نحو تحقيق مآرب وأهداف بعيدة عن حفظ السلام وإغاثة المنكوبين، عبر التدخل في شؤون البلاد الدّاخليّة، وما الانشقاقات الدّاخليّة التي شهدتها البعثة، بسبب عدم وضوح المهام القياديّة بين القوات الأمميّة، وتصريحات الأمين العام الأسبق للأمم المتّحدّة آنذاك بطرس غالي إلا خير دليل على ذلك، حيث ألمح في أكثر من مناسبة إلى الضغوطات التي كان يتلقّاها في إدارة الأزمة الصوماليّة آنذاك.
لم تكن هذه السردية عبثية، فاليوم وتوازياً مع استمرار التحذيرات من خدع إسرائيلية لإعادة احتلال القطاع بعد تهجير الفلسطينيين طوعاً عبر اللسان البحري، والإغلاق الممنهج للمعابر البرية، تشي مجريات الأحداث المتتابعة في قطاع غزة، بأن مخططاً أميركياً – إسرائيلياً يرسم خريطة طريق "صوملة غزة" من "نتساريم" إلى الميناء البحري، عبر بوابة المساعدات الإنسانية، وحصر مهام توزيعها بمنظمات غير حكومية، حسب تأكيد وزارة الدفاع الأميركية، بالتزامن مع مخطط إسرائيلي يسعى إلى خلق بيئة مناوئة للاحتلال قد يُسمح لها بإيصال المواد الغذائية إلى داخل القطاع المحاصر، بعدما دمرت الحرب المسعورة، المؤسسات الوطنية الإدارية للقطاع في محاولة لإلغاء دور حكومة غزة وتقويض قدرات المقاومة الفلسطينيّة والقضاء على أي دور لها في إدارة القطاع.
خلف عباءة المساعدات تكمن المطامع
لطالما غطت الولايات المتحدة الأميركية أهدافها غير المعلنة، ولا سيما الاقتصادية والتوسعية منها في الصومال خلف عباءة العمل الإنساني، وها هي تعيد الكرة اليوم في غزة بالتنسيق مع الاحتلال.
في هذا السياق، يقول د. سليمان ميغاني، إن واشنطن غالباً ما تدير المساعدات الإنسانية بخلفيّة رأسماليّة نيوليبراليّة، متجاهلة السياقات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، لذا فإنّها استخدمت ولا تزال الملفات الإنسانية في مقديشو كأداة من أدوات إدامة الأزمة وإطالتها، منعاً لتأثر مصالحها، في حالة خروج تلك الدولة ذات الموقع الإستراتيجي المهم، من دائرة نفوذها.
وعليه، ففي حين تدعم الولايات المتحدة الحرب الإسرائيلية على القطاع بلا هوادة، يبقى الرصيف العائم بمنزلة استكمال للدور الوظيفي الذي تضطلع به "تل أبيب" وواشنطن في المنطقة ضمن مشروعها الاستعماري، وموطئ قدم لتثبيت أميركا نفوذها في الشرق الأوسط، في ظل خسارتها الرهان على الدبلوماسية والمصالح المتداخلة التي اعتمدتها على مدار السنوات الماضية لاستعادة حضورها في المنطقة، ما دفعها إلى الاعتماد مرة أخرى على المهام القتالية، بعد اعتبارها عملية "طوفان الأقصى" استهدافاً للمصالح الاستراتيجية الأميركية في المنطقة وتهديداً وجودياً لحليفتها "إسرائيل"، التي بدورها تضع نصب عينيها ثروات غزة ومواردها الطبيعية المقدرة بمليارات الدولارات.