العِرقبادة في فلسطين والإنترنت والاحتجاجات الطلابية في العالم الغربي
إدخال الإنترنت في العقد الماضي أدى إلى تغيير حياة الأفراد في جميع أنحاء العالم، وأن أحد الأمثلة الفريدة للتأثير الملحوظ لهذه الوسيلة الجديدة في حياة المجتمع المهمش هو تأثير الإنترنت في حياة الفلسطينيين.
إن وظيفة الصحافي هي تغطية الأحداث (مثل التظاهرات في الجامعات في بعض الدول الغربية احتجاجاً على كارثة العِرقبادة التي يقترفها نظام نتنياهو) الجارية ونقلها إلى المشاهدين، وتلك تكون عادة مرفقة بتعليقات من ضيوف هم (عادة) من السياسيين أو المحللين السياسيين الإخباريين الذين يتفاعلون عادة مع الخبر بشكل مقتضب، ويتخذون موقفاً مؤيداً أو مندداً. أما وظيفة الأكاديمي، فهي متابعة كل الأخبار وتطبيق المناهج العلمية بشكل مستمر لرؤيتها في أمدها المستمر والبعيد.
شدتني العديد من التعليقات القصيرة والتحليلات العاطفية التي صدرت عن حسن نية حول التظاهرات الطلابية في الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من المدن الغربية، والتي اتسمت بالكليشيهات المعلبة والمعرفة المحدودة من دون الرجوع إلى أبحاث علمية أو باحثين مختصين في هذا الشأن.
لو عاد هؤلاء إلى معاينة الأحداث في الربع الأخير من القرن الماضي أو حتى السنة الأخيرة، لاكتشفوا أن هذه التظاهرات ليست وليدة الساعة، وليست تفاعلاً أوتوماتيكياً مع الحدث. قلنا ونقول إن غالبية التقييمات والتخمينات التي تجريها "أدمغة" الاحتلال الإسرائيلي تكون خاطئة، ولكن في هذا المضمار كان رئيس حكومة الاحتلال الأسبق (ووزير الحرب) وغريم نتنياهو، إيهود باراك، قد قدم قبل عام (أيار 2023) مشاهدة صائبة للغاية بكل ما يتعلق بالتحول في الحرم الجامعي الأميركي، وذلك أثناء وجودي في أميركا، وفي أعقاب تظاهرة نددت بحضوره ونعتته بأنه "مجرم حرب"، وهذا ما جاء في كلمة إيهود باراك بالإنكليزية: "كنت طالب درجة ثانية في جامعة ستانفورد الأميركية.
وفي كل جامعة كانت هناك خلية تتجمع حول تنظيم "هيلل"، وكان أعضاؤها من اليهود والإسرائيليين وغير اليهود وغيرهم، وكانوا يحاربون لمصلحة "إسرائيل".
ولكن مؤخراً زرت عدة جامعات ريادية في الولايات المتحدة، ووجدت مجموعات تحتج كالذين قاموا بالتشويش هنا اليوم ضد وجودي: باراك المجرم القاتل... وبالفعل، في كل جامعة ريادية تجدون اليوم خلية مؤلفة من خليط فلسطين وغربي وعربي، وأحياناً إسرائيليين - أو سابقين - ويهود يؤيدون الفلسطينيين، ونحن نخسر – لأجل الصراحة – لقد فقدنا التواصل "تاتش" مع الجيل الشاب. لدي أصدقاء أميركيون من عائلة ميسورة جداً، وقد قالت لي الوالدة، وكانت قد عرفت أنني درست في "ستانفورد"، أنني أرسلت ابنتي الكبرى إلى "ستانفورد".
وعند عودتها بعد الفصل الأول إلى البيت لعطلة "عيد الشكر" (ثانكس غيفينغ)، نظرت إليَّ وقالت لي: أماه، لقد أمضيت فقط عدة أسابيع في الجامعة. وقد اكتشفت أنكم كذبتم علي كل حياتي حول إسرائيل. أما الآن فقد اكتشفت الحقيقة".
تكلم باراك بأسلوب هو مزيج من الصدمة والحيرة، لكنه ورغم إجرامه يعد ذكياً بارداً إلى درجة "الأتمتة" الروبوتية، فقد التقط حقيقة التحول السياسي لدى الأجيال الشابة في الغرب.
كنت على وشك أن أبدأ بالسنة الثانية من بحث الدكتوراه في جامعة لندن عندما اقتحم السفاح شارون الحرم القدسي الشريف واندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أيلول 2000 . كان هذا قبل ربع قرن، ولم تكن منصات التواصل الاجتماعي موجودة، وأكثر ما كان متوفراً هو الإيميل وبعض المواقع الإخبارية، وقمت إلى جانب العمل على أطروحتي ببدء بحث إضافي نتيجة تفاعلي مع أحداث الانتفاضة.
وبالفعل في تلك الفترة، اكتشفت نشوب أول "حرب سيبرانية" بين الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين وأنصارهم من جهة أخرى. وبعد محاضرة في جامعة لندن ونشر هذا البحث القصير، قررت الاستمرار في التركيز على تفاعل القضية الفلسطينية في الإنترنت للتعرف إلى صيرورة هذا الشعب الذي يقبع تحت الاحتلال، بما في ذلك الخصائص وأهم الفاعلين والداعمين، وأهم محطات عملية التنشئة السياسية عبر الإنترنت.
وفي البحث المستفيض الذي نشر بداية في مجلة علمية محكمة في جامعة أوكسفورد، كنت قد أشرت إلى أن ثورة تكنولوجيا المعلومات وإدخال الإنترنت في العقد الماضي أدت إلى تغيير حياة الأفراد والجماعات في جميع أنحاء العالم، وأن أحد الأمثلة الفريدة للتأثير الملحوظ لهذه الوسيلة الجديدة في حياة المجتمع المهمش هو تأثير الإنترنت في حياة الفلسطينيين.
وقد أوضحت أنه ومنذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 28 أيلول/سبتمبر 2000، وانخفاض متوسط دخل الأسر الفلسطينية التي تعيش في الأراضي الفلسطينية عام 1967، حدثت زيادة حادة في عدد مستخدمي الإنترنت الفلسطينيين، وخصوصاً الشباب، وذلك من خلال التواصل في المدارس والجامعات والمقاهي.
وفي الجامعات، تم تطوير طريقة التدريس للحفاظ على التعليم العالي، إذ لا يتمكن الطلاب في كثير من الأحيان من الوصول إلى الحرم الجامعي بسبب ظروف الحصار (آنذاك في الضفة الغربية على وجه التحديد)، وأشرت أيضًا إلى أنه نظرًا إلى الظروف الاجتماعية والسياسية التي يعيشها الشباب والطلاب الفلسطينيون تحت الاحتلال، يعمل الإنترنت الآن كوسيط بين المعلمين والطلاب، فضلاً عن كونه أداة للتسييس المكثف والمقاومة السيبرانية.
ومع إمكانية الوصول المستمر إلى الإنترنت لأكثر من 25% من السكان الفلسطينيين، ظهرت ثقافة شبابية جديدة بين الفلسطينيين، وخصوصاً في المدارس والجامعات، ومن خلال تنظيم العلاقات بين المعلمين والطلاب والشباب بشكل عام، ومع العالم ككل، وكذلك مع مختلف قطاعات السكان الفلسطينيين.
وبعد تطور وإنشاء المنصات الإعلامية المتعددة ورغم التقييد وملكية المال الصهيوني لها (ولكن منصات أخرى كسرت الاحتكار والهيمنة والرقابة على المحتوى مثل تيليغرام وتيك توك وغيرها)، يعمل الإنترنت الآن كجبهة واسعة وجماعية للمقاومة السياسية السلمية، وهي واحدة من العناصر الأكثر مركزية في الحياة اليومية.
تجدر الإشارة إلى أنه ينبغي النظر إلى هذه الظاهرة في السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي دفاعاً عن القضية الفلسطينية كقضية تحرر قوي من دون علاقة هوية الفصائل الفلسطينية المقاومة، إن كانت ماركسية أو إسلاموية، فمنذ الانتفاضة الثانية، أصبح الفلسطينيون (كنسبة) أكبر مجموعة من مستخدمي الإنترنت في العالم العربي، ما أدى إلى تواصلهم مع وطنهم، ولكن أيضاً تواصل الجاليات الفلسطينية في العالم (وهم نصف الشعب الفلسطيني) مع المجتمعات التي يسكنون ويتفاعلون معها ليكونوا حلقة وصل ما بين وطنهم والعالم الواسع.
وبما أن جيل الشباب يعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر أولي للأخبار، وعادة ما يكون هذا مغايراً للأخبار التي تبث من الإعلام المركزي المنحاز عادة إلى الرواية الصهيونية، فقد نجحت الأجيال الشابة، أيضاً بسبب الالتقاء في الجامعات في الغرب، بالالتفاف حول "الأخبار التي تتدفق من مركز الشمال/ الغرب" المهيمن على الأخبار والمملوك (غالباً صهيونياً).
كل هذه التحولات التي حصلت وما زالت تحصل منذ سنين أدت إلى أن يصهر الطلاب لأنفسهم منظومة قيمية ومروحة معتقدات مستقلة أيديولوجياً تستقي الأخبار من حيث شاءت، وتؤمن بقناعاتها، وتدافع عن المسحوقين والمهمشين، وتعارض من كان مهيمناً عليها من قبل الجيل القديم والتقليدي في أفكاره الصهيونية، فهم يرون في هذا النضال الفكري الاجتماعي إطاراً لهويتهم الجديدة الأخلاقية. لذلك، فهم (ورغم أن جزءاً كبيراً منهم يأتون من عائلات ميسورة) على استعداد للتضحية ليكونوا قدوة وجسراً في الفضاء العام لتغيير منظومة الحكم الظالمة تجاه فلسطين.