الشمال السوري... مرحلة "اختبار النوايا"
يبدو مبدئياً أن الروسي تقدّم على خط تطبيع العلاقات السورية -التركية، لكن الجانب السوري ما زال ينظر إلى الموقف التركي بعين تقييم الأداء ومدى التزامه تجاه ما توصل إليه الجانبان عن طريق العرّاب الروسي.
لا شك أنّ هناك وضعاً مستجداً، وذلك بالمعنى العملي، لكن هذا المشهد السوري اليوم لا يمكننا فهم توقيته ما لم نعرّج بإيجاز على جغرافيّة الأزمة السوريّة العسكريّة وتعقيداتها الإقليمية السياسيّة، لذا بإمكاننا القول، إنّ تفكيك العقد لحرب ضروس كهذه ليس بالأمر اليسير؛ فهي في غاية الإتقان والهدوء التكتيكي، ضمن استراتيجية الحلّ، للمصلحة السورية العليا.
جغرافيّة الأزمة السورية وارتباطاتها بالجوار
عندما كانت الحرب في سوريا مستعرة، كانت سوريا بداية قبل انضمام حلفائها، تخوض حرباً مترامية الأطراف الجغرافية، الأردن من جهة ولبنان من جهة أخرى، كما العراق الذي عانى؛ تركيا، أكبر جبهة ارتكازية، من دون أن ننسى الجبهة مع فلسطين المحتلة القلقة دوماً، تلك الجبهات كانت مندلعة في آنٍ معاً، من دون نسيان الدعم العربي سابقاً والغربي لمحاصرة سوريا لتأمين خطوط الإمداد، الهادف إلى تدمير كلي للدولة السورية ودورها، أظن ذلك ليس خافياً على أي أحد، ولا سيما التداعيات التي كانت منتظرة من توليفة كهذه، كل هدفها قتل سوريا التي نعرفها دوراً ومركزاً.
كيف تعاملت سوريا مع هذا التعقيد الخطير؟
سوريا رتّبت الأوليات الداخلية، قبل التفرّغ إلى حدودها، إذ ركّزت السيطرة على مراكز المدن، أهمها العاصمة دمشق، ذلك بعمليات عسكرية صعبة ومكلفة، ما دفع بالقوات المعاديّة إلى الحدود – الأرياف. عندما نتحدث عن الحدود، هناك طريقتان للتعامل، عسكرية سياسية أو سياسيّة عسكرية، بمعنى أوضح الحدود تعني دولاً مجاورة، والدوّل من الطبيعي أن تتعاطى مع المتغيرات الميدانية والسياسية؛ بمفهوم سياسي ينتج تفاهمات، ثم الحراك العسكري كانعكاس للسياسة، هنا تعاطت الدولة السورية مع الاحتمالين، كل جبهة على حدة، جبهات ساخنة عسكرياً تفرض واقعاً سياسياً كلبنان مثلاً وجبهات حلّها سياسّي يفرض واقعاً عسكرياً كالأردن والعراق وتركيا الآن، المنظور التكتيكي العام كان تسخين جبهات وتبريد أخرى، هذا بالفعل ما حصل.
لا نستطيع المرور على تدويل الأزمة السورية فهي، منذ اليوم الأوّل، مدوّلة ومموّلة وبغطاء غربي صارخ، هذا الواقع لأي مستقرئ، يدفع إلى التحالفات الحتميّة، إن كان على مستوى محور المقاومّة كشريك في الحفاظ على سوريا، أو الدولي كروسيا والصين وإن تعددت أوجه مساهماتهم، أقله هذا دفع إلى توازن استراتيجي ضروري، ضمن المعادلات السياسية الحسابية، والمصالح المشتركة.
روسيا على خط أنقرة -دمشق
في الأمس، لم تكن هناك جبهات معاندة، سوى الشمال السوري مع تركيا، والشمال الشرقي مع "قسد" ونقاط للقوات الأميركية المنتشرة هناك.
روسيا تحاول منذ مدّة ليست بقصيرة إحداث تقارب يشكّل تفاهماً سورياً – تركياً، الجانب السوري كان مصراً على ثوابته وما زال وهو انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية ومن ثم البدء بنقاشات حول ماهية العلاقة مع أنقرة، اليوم يبدو أن هناك تقدماً على هذا المسار، حسب ما نرى في إدلب وطريقة تعامل تركيا مع ما يجري في إدلب، وهو غير كافٍ، وسوريا تقاربه كاختبار لحسن النيّة التركية.
أما بشأن الموقف التركي المستجد، ولا سيما تصريح إردوغان الأخير من أنه "لا مانع من لقاء الأسد وإعادة العلاقة كما كانت سابقاً" فهو يقارَب كالآتي:
أولاً: فشل الخيار العسكري في سوريا.
ثانياً: يقين إردوغان أنه لا يستطيع تحويل تركيا إلى جمهورية حزب "العدالة والتنمية"، وما الانتخابات الأخيرة للإدارات المحلية إلا نموذجاً بأبعاد مختلفة، لا يتسع المقال لشرحها، تكفي للدلالة.
ثالثاً: إنهاء حلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
رابعاً والأهم: تغيير توازنات القوى على المستويين الإقليمي والدولي.
يبدو مبدئياً أن الروسي تقدّم على خط تطبيع العلاقات السورية -التركية، لكن الجانب السوري ما زال ينظر إلى الموقف التركي بعين تقييم الأداء ومدى التزامه تجاه ما توصل إليه الجانبان عن طريق العرّاب الروسي.
إن نجح الاتفاق بالكامل وسارت الأمور نحو النجاعة، تبقَ في سوريا مسألة الوجود الأميركي، الذي سيكون يتيماً، بعيداً من التعقيدات التي يكون قد حُلّ الجزء الأكبر منها سورياً، ليصبح كالجسم الغريب في الجسد السوري، والذي ليس بمأمن أيضاً.
يبقى السؤال الأخير والأهم عن وجود "قوات سوريا الديمقراطية" وكيفيّة حلها، من دون أن ننسى دور العشائر، ذلك كحزمة من معالجة وضع الجزيرة السوريّة وتأثُرها المباشر بالتقارب التركي -السوري.
هذا بحدّ ذاته بحاجة إلى مقال منفرد نظراً إلى أهميته، ولإشباع المقاربة وحلولها.