الشرخ الدولي وصل إلى بالي
لم يكن العالم يحتاج إلى قمة دول العشرين في بالي كي يؤكد شرخه، ولكنَّ التصاريح العالية النبرة بين المسؤولين في الاجتماع كرّسته وأظهرته إلى العلن. "موسكو لن تركض وراء واشنطن لإجراء محادثات معها".
"العالم يتغيّر، ولا يوجد شيء ثابت، لأنه يسير بصيرورة مستمرة". هذا ما عناه الفيلسوف اليوناني هيرقليطس، عندما أطلق عبارته "الإنسان لا يستطيع أن يستحمّ في النهر نفسه مرتين".
هذا هو حال نظامنا العالمي الذي لم يعرف الاستقرار يوماً، رغم النظريات التي طُرحت مع سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1990، وعلى رأسها نظرية الكاتب الأميركي فرانسيس فوكوياما حول "نهاية التاريخ وانتصار الإنسان الليبرالي".
عذراً فوكوياما، لم ينتهِ التاريخ كما توقعت، ولم يبقَ إنسانك الذي اعتبرته منتصراً، بل استطاعت الدول الصاعدة إدخال النظام العالمي في صيرورة من التغيير. هذا ما دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أكثر من مناسبة إلى القول إنَّ العملية العسكرية في أوكرانيا هدفها رسم نظام جديد لا يكون لليبرالي فيه دور القيادة والتأثير، بل يكون نظاماً مبنياً على قوميات تتشارك القرار الدولي؛ نظاماً يضم في طياته أنظمة أوتوقراطية وليبرالية.
لم يكن العالم يحتاج إلى قمة دول العشرين في بالي كي يؤكد شرخه، ولكنَّ التصاريح العالية النبرة بين المسؤولين في الاجتماع كرّسته وأظهرته إلى العلن. "موسكو لن تركض وراء واشنطن لإجراء محادثات معها".
هكذا ردّ وزير الخارجية الروسية، سيرغي لافروف، على نظيره الأميركي أنتوني بلينكن الذي رفض الجلوس معه إلى طاولة واحدة، سواء للعشاء أو للتباحث على هامش اجتماع نظرائهم في قمة العشرين المنعقدة في بالي. لم يحتمل لافروف سيل التصريحات الغربية المنددة بالحرب الروسية في أوكرانيا، فانسحب من الاجتماعات متهماً الغرب باتخاذ بالي منصة للتهجّم على بلاده.
سيطر امتعاض غربي واضح من عدوان روسيا على أوكرانيا على أجواء القمة. هذا ما أتى على لسان بلينكن في بالي عندما قال: "ما سمعناه اليوم حتى الآن هو إجماع مهم من العالم بأسره، وليس من الولايات المتحدة فقط، على ضرورة وقف العدوان الروسي".
إندونيسيا الدولة المضيفة، الساعية للحفاظ على موقف محايد، دعت أيضاً منذ افتتاح الاجتماع إلى وضع حدّ للنزاع القائم في أوكرانيا، إذ قالت وزيرة الخارجية الإندونيسية، ريتنيو مارسودي، خلال افتتاح المؤتمر: "من مسؤوليتنا إنهاء الحرب في أسرع وقت وتسوية خلافاتنا على طاولة المفاوضات، وليس في ساحة المعركة".
صحيح أنَّ هناك تكتلاً دولياً عبّر عنه وزراء خارجية الدول العشرين إزاء الحرب الروسية الأوكرانية، وتخوفاً من نتائج هذه الحرب على الساحة الدولية، إلا أن لافروف لم يكن وحيداً في هذه القمة، إذ التقى نظيره الصيني وانغ يي، وحصل توافق على مخاوف روسيا في أوكرانيا.
بدأ التقارب الصيني الروسي يأخذ مسار تشكيل حلف إقليمي بوجه الغرب وحلفائه، على رأسه إيران، فزيارة الرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط في منتصف شهر آب/أغسطس تهدف إلى "تكريس الجهود لخلق قوة إقليمية توازي المدّ الإيراني في المنطقة"، كما أعلن، إذ قال في وقت سابق إنَّ هدف الزيارة هو "السعي إلى تعزيز شراكة استراتيجية مع السعودية"، فالعلاقة بين البلدين سادتها الكثير من الاضطرابات، ولا سيما فيما يتعلق بموقف إدارة بايدن من قضية الصحافي جمال خاشقجي.
لا يبدو أنَّ قمة العشرين التي عُقدت في منطقة بالي في إندونيسيا تناولت القضايا الاقتصادية العالمية والركود الاقتصادي الذي سببته جائحة كورونا، ولا يبدو أنّ من أولوياتها تقديم الطروحات الاقتصادية للأزمة المستجدة بعد حرب روسيا في أوكرانيا، بل يبدو أنَّ القمة تحاول أن تظهر عزلة روسيا دولياً، من خلال حثّها على وقف حربها والعودة إلى الطرق الدبلوماسية في المخاوف والمواضيع العالقة بين روسيا والغرب.
حلف دولي من هنا واتحاد روسي صيني من هناك. هذا ما كرّسته قمة بالي، وما سيكون عليه العالم من السير قدماً نحو الحرب القادمة لا محالة، والتي لا هوادة فيها، فما لمسه لافروف من تنسيق مبرمج بين الدول المجتمعة يؤكّد المؤكّد بأنَّ الهدف هو إحراج روسيا لإخراجها من المجتمع الدولي وجعلها منبوذة دولياً، كما حصل مع فنزويلا.
التوتر الدولي بدأ يأخذ وتيرة التصعيد المباشر على الصعيد العسكري، كما في أوكرانيا، أو على الصعيد الدبلوماسي، كما في مؤتمر بالي، أو عبر الاصطفافات الدولية، من خلال عقد القمم لرسم التحالفات الدولية.
ثمة دلالات واضحة تدفع نحو الصدام بين الحضارات، كما تنبأ المفكر الأميركي صموئيل هنتنغتون منذ أكثر من 30 عاماً، وهو صدام سيحدّد مستقبل العلاقات الدولية القادمة، وسيرسم واقعاً جيوبوليتيكياً جديداً يتمثّل بسحب مستوى التبادلات الاقتصادية من مركزية الغرب إلى مناطق جديدة وممرات مستحدثة كممر "زنكة زور" في منطقة القوقاز، الذي يجري التوصل إلى إعادة تفعيله بين روسيا وإيران وتركيا وأذربيجان وأرمينيا وجورجيا، بهدف التخلص من اتفاقية مينسك التي تضم كلاً من فرنسا والولايات المتحدة.
أخيراً، مؤتمر بالي ليس إلا مؤتمراً يظهر التطورات الدولية التي تؤكد الشرخ الدولي المتجه نحو اللاتلاقي بين الغرب والشرق؛ هذا الشرخ الذي سيكون عنواناً للصدام المقبل، فمن غير المتوقع أن تأخذ الدول الغربية موقف المتفرج على عالم يعاد بناؤه على أساس حصر دور الغرب وصلاحياته، ونقل مراكز النفوذ الدولي ومراكز القرار من الغرب إلى الشرق.
لهذا، باتت حظوظ الحرب مرتفعة، في ظلّ ترسيخ الاصطفافات الدولية وتكريس الشرخ، إلا إذا تمّ تغليب العقل على غريزة السيطرة. عندها، ستعطى جائزة نوبل للسلام لمن يقدم على التّنازل تجنباً للحرب.