السودان.. من ممر للمقاومة إلى التنافس إرضاءً للكيان
مشروع التطبيع له رعاة، وهم ليسوا مخفيين (بريطانيا، الولايات المتحدة الأميركية، فرنسا و"إسرائيل"). وهذه الأخيرة تُعَدّ مالكة هذا المشروع وتريد أن تضع يدها على كل السودان وتبسط هيمنتها.
كان واضحاً، بالنسبة إلى الغرب و"إسرائيل"، أن المجتمع السوداني لا يمكن أن يمضي في مشروع التطبيع على المستوى الشعبي، وأن الجيش، كمؤسسة، ليس مقتنعاً بفكرة التطبيع.
نشأت منظومات مهمة تناهض التطبيع وتقاومه (منظومات شبابية اجتماعية واسعة)، خطب الجمعة في المساجد كلها وُجِّهت إلى مناهضة التطبيع ومقاومة هذا المشروع الخطير، والمظاهرات في الشوارع، والعمل الإعلامي المكثف، واللقاءات الاجتماعية والسياسية والثقافية، تحدثت عن التطبيع وآثاره في الدولة السودانية، وفي المجتمع والمنظومة والقيم، وفي تاريخ السودان، الذي ظل واقفاً مع القضية الفلسطينية منذ عام 1948 حتى هذه الساعة. وأسلحة كثيرة تستخدمها المقاومة في غزة هذه الأيام إمّا دخلت عن طريق السودان، وإما صُنعت في السودان، وإمّا أن السودان ساعد على صناعتها داخل غزة.
المسيّرات التي تستخدمها المقاومة الآن، جزء كبير منها صناعة سودانية صُنّعت داخل السودان، أو صناعة سودانية صُنّعت داخل غزة. وبالتالي، فإن الحضور السوداني ودوره في مناهضة المشروع الصهيوني في فلسطين راسخان منذ عام 48 حتى الآن.
من أكثر ولاءً لـ"تل أبيب"
مشروع التطبيع له رعاة، وهم ليسوا مخفيين (بريطانيا، الولايات المتحدة الأميركية، فرنسا و"إسرائيل"). وهذه الأخيرة تُعَدّ مالكة هذا المشروع وتريد أن تضع يدها على كل السودان وتبسط هيمنتها.
الفريق أول محمد حمدان دقلو، ويلقب بحميدتي (مواليد عام 1975 وهو من قبيلة الرزيقات) قائد قوات "الدعم السريع"، لديه تطلعاته وطموحه الشخصي، ورأى أنه وصوله إلى السلطة لا بد من أن يمر عن طريق "تل أبيب". وكذلك الفريق الأول عبد الفتاح برهان – مواليد عام 1960 - رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني، لديه تطلعات إلى السلطة. وهنا يجب أن نميّز بينه وبين الجيش كمؤسسة. كما أن لديه تطلعات شخصية إلى السلطة.
في إطار النظر إلى المسرح في ذلك التاريخ، فإن خصومه ومنافسيه وثّقوا علاقاتهم بـ"تل أبيب" وبالولايات المتحدة الأميركية، وأراد أن يلحق بهم بل يسبقهم إلى ذلك، وهو الذي سبقهم إلى لقاء نتنياهو في عينتيبي، لكن المدنيين (تحالف الحرية والتغيير)، من خلال مجلس الوزراء المدني، ردوا على هذه الخطوة بالمبادرة إلى إلغاء قانون مقاطعة "إسرائيل" عام 1958، وهو بادر إلى التوقيع على اتفاقية "أبراهام" في داخل السفارة الأميركية، في خرق لكل قواعد البروتوكول.
ومضى في مراجعة البرامج التعليمية وتعديلها لتتوافق وتخدم فكرة مشروع التطبيع، وتبنى المشروع النيو ليبرالي في منظومته القيمية والاقتصادية والاجتماعية ليخدم فكرة التطبيع، وليُقصي قائد الجيش ويقلل حظوظه في طاولة البازار الاٍسرائيلية الأميركية. لذلك، كان هذا التنافس من كل الأطراف (من قائد الجيش إلى الدعم السريع والأحزاب السودانية، التي شكلت مجلس الوزراء في ذلك التاريخ).
ومن خلال التنافس بين بعض الفاعلين السياسيين في إرضاء الغرب، رأينا كيف أن المنظومة المدنية (تحالف الحرية والتغيير)، التي غيرت اسمها إلى "تقدم"، زايدت في موضوع التطبيع مع الكيان، وكانت تربط مستقبل السودان به.
هذه الأحزاب التي حكمت في الفترة الانتقالية كانت أحزاباً لا تأمل أن تصل إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، فهي لا تملك أي قواعد شعبية، ولا تتمتع باي قبول عند المواطن السوداني، وهي أحزاب فاقدة للأمل تماماً بشأن أي عملية انتخابية. لذلك، رأت أن الارتباط بالمشروع الغربي الصهيوني هو الرافعة التي من الممكن أن تحملهم إلى كراسي السلطة، وهذا ما رآه الجنرالان أيضاً.
المأساة الإنسانية
هذه الفظائع والآثار الكارثية ذات الأبعاد الإنسانية بدأت بصورة واضحة في دارفور، وهناك كانت التجليات أوضح في ولاية غربي دارفور، التي تنتمي أغلبية سكانها إلى قبيلة المساليت وقبائل أفريقية أخرى. وجميعها مسلمة. وهذه القبائل غير مرغوب فيها من جانب التمرد (قوات الدعم السريع)، لأنها تتباين معها إثنياً.
أرادت قوات الدعم السريع أن تطرد مواطني هذه الولاية، فارتكبت مجازر لم ترتكبها حتى "إسرائيل" في غزة. فمقاتلو قوات الدعم السريع تنتمي إلى قبيلة الجنجويد، بقيادة حميدتي، ودخلوا ولاية غربي دارفور وولايات أخرى في دارفور، واستهدفوا كل القبائل غير العربية (الأفريقية) على الرغم من أنها مسلمة بنسبة 100%، وطردوها من قراها ومدنها وولاياتها.
وفي يوم واحد قتلت قوات الدعم السريع (الجنجويد) 5200 رجل في مدينة الجنينة، عاصمة ولاية غربي دارفور، لأنهم ينتمون إلى قبيلة غير عربية (قبيلة المساليت)، التي يتحدر منها الشاعر العربي المعروف محمد مفتاح الفيتوري. وطُردت النساء من البيوت والقرى والمدن إلى تشاد.
وفي الطريق إلى تشاد قُتل كل طفل ذكر، وبُقرت بطن كل سيدة حامل، خشيةَ أن يكون في رحمها طفل ذكر. إبادة وتطهير عرقيان كاملان، وهُجِرت هذه القبيلة، ورحلت نساؤها مع أطفالها إلى تشاد، والآن يعيشون منذ أكثر من عام في أسوأ الظروف الإنسانية، بلا غذاء ودواء وكساء وتعليم ومياه وبيوت. وبالتالي، فإن هذا أهم وأخطر مظهر من مظاهر الجرائم ضد الإنسانية.
الجريمة الأخرى هي التي حدثت في داخل الخرطوم، التي هُجر منها نحو 8 ملايين مواطن، واحتُلت بيوتهم وطُردوا إلى ولايات أخرى، مثل ولاية الجزيرة المتاخمة، والتي كان عدد سكانها 5 ملايين نسمة، أضيف إليها العدد نفسه من نازحي الخرطوم، لكن قوات الجنجويد، بقيادة حميدتي، التي عادت ودخلت ولاية الجزيرة، طردت المواطنين وارتكبت جرائم ومجازر تجاوزت في حدتها المجازر التي ارتكبت في دير ياسين عام 1948.
فمنذ عدة أيام ارتكبت قوات الجنجويد، بقيادة حميدتي، مجزرة كبيرة في قرية ود النورة. وتجاوزت أعداد القتلى والجرحى ضعف أعداد مجزرة دير ياسين، وسقط نحو 700 قتيل في مجزرة ود النورة. والإعلام الغربي والإعلام العربي تجاهلا هذا الأمر. وتكررت هذه المجازر في اليوم التالي في داخل الخرطوم. في يوم واحد، قتلت قوات الدعم السريع، عبر مدفعيتها، عشرات المواطنين الأبرياء، والذين لم يتمكنوا من الخروج من منازلهم، وخصوصاً في أحياء أم درمان. فالأزمة السودانية والقضية الفلسطينية، المجرم فيهما واحد، والفاعل واحد، والراعي واحد، والأدوات تتشابه كذلك.
أخيراً، إن الحوار لن يحل قضية، لأنه يوجد سؤال لا إجابة عنه: مع من سيكون الحوار؟ هل مع مرتزقة جيء بهم من دول أخرى ليحددوا مصير السودان وليضمنوا فيه دوراً بعد وقف إطلاق النار وبعد الاستقرار والأمن؟ هل هذا الأمر مقبول؟
حتى مع رعاة المشروع، الذين يعملون منذ 5 أعوام على أمر خطير للغاية، وهو القيام بعمليات تغيير ديمغرافي، عبر طرد السكان الأصليين من الخرطوم والجزيرة ودارفور، وإبدالهم بسكان جيء بهم من وسط أفريقيا وغربيها، هذا الأمر لم يحدث صدفة، وهو يأتي في إطار مشروع ديمغرافي كبير يواكب عملية التغيير السياسي. وبالتالي، فإن الحل الآن هو أن يقوم قائد الجيش، رئيس مجلس السيادة، بتمكين المجتمع من الدفاع عن نفسه والمحافظة على أمنه واستقراره وفرض الأمن والاستقرار وتكريس الوحدة في السودان من خلال دعم آليات المقاومة الشعبية وتفعيلها.
هذا هو الحل الوحيد، وإلا فإن هذه الحرب سيطول أمدها، وسيتكرر ما شهدناه في سوريا والجزائر.