الدبلوماسية الجزائرية ومخيالها الاجتماعي
الأزمات والمحن التي تعرضت لها الجزائر، في الأعوام الثلاثين الماضية، كانت في جانب كبير منها نتيجة للخط الذي تبنته الجزائر المستقلة.
ممّا أجاب به الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وهو يرد على أسئلة صحافي قناة Bein sport، بخصوص عدم تأهل الفريق الجزائري لمونديال قطر، قوله "خيرها في غيرها". ويُفهم من طريقة إجابته ومدلول كلامه أن المونديال، على رغم أهميته، فإنه لا يستدعي أن نتأسف بشأنه كثيراً. وتعبّر عفوية الرئيس وبساطته وصراحته عن جزائرية أيّ جزائري، أو ما يختزل "النيف الجزائري"، ويقوم تصور المجتمع للحياة وللآخر على قيم وأخلاق، كالوفاء بالعهود ونصرة المظلوم والصدق والعزة والكبرياء. على هذا النحو، يشي كثير من المؤشرات بأن سياسة الرئيس تبون ماضية في تأكيد قضاياً ظلّت الدولة الوطنية تدافع عنها، من ذلك مد اليد والصدق والوفاء مع حلفائها التقليديين، ولاسيما ضحايا السياسات النيولبرالية المتوحشة في العقود الاخيرة.
في ضوء ذلك، هل يمكن القول إن سلوك الدبلوماسية الجزائرية يبقى، في جانب منه، رهن إملاءات مخيالها الاجتماعي؟ وهل البحث في ذلك يمكن أن يزوّدنا باستبصارات تسمح لنا بالفهم الجيد لرؤية الجزائر للعلاقات الدولية؟ وما مدى صلاحية مثل تلك الأخلاق في عالم ظل دوماً يحتكم إلى المصلحة والقوة؟ وهل من سبيل إلى تغيير تلك الرؤية على نحو يساعد على جعل المنطلقات تتكيّف مع مصلحة الدولة في القوة من أجل الاستمرارية؟ في البداية يجدر التطرّق إلى مرتكزات المخيال الاجتماعي الجزائري.
المخيال الاجتماعي الجزائري: الصدق في المواقف والوفاء في العهود
يجدر في البدء تقديم تعريف بسيط للمخيال الاجتماعي the sociological imagination ، فكل مجتمع ينشئ لنفسه مجموعة منظمة من التصورات والتمثلات، أي يُنتج مخيالاً، يُعيد من خلاله المجتمع إنتاج نفسه... ويجعل الجماعة تتعرف إلى نفسها. وتمارس هذه التمثلات والتصورات المخيالية سلطتها، ليس في ميدان التصور فحسب، بل أيضاً في مخيال الفعل الاجتماعي، الذي تقوم به كل جماعة بشرية قائمة تعرّف نفسها من خلال المقارنة مع الآخر.
تبعاً لذلك، يمكن ملاحظة ما يمكن أن أسمّيه خاصية المخيال الاجتماعي للجزائريين، من خلال تصورهم للحياة وتصور الآخر لهم، ومما يرونه أخلاقاً تحكم سلوكهم، على غرار الصراحة والصرامة، الشهامة، عزة النفس، نصرة المظلوم، رفض الاحتقار والإصرار على الرأي، حتى إن اقتضى الأمر التضحية بالنفس من أجله. وهي أخلاق ممتدة في تاريخ هذا الشعب، متفاعلة مع معتقدات الدين الإسلامي وأخلاقه. فعزة النفس والكرامة أو "النيف الجزائري" لا يعادله ثمن، بل إن كلفت رزقه "اخسر أو فارق"، بل إن اقتضى التضحية بحياته. ما يذكره ابن خلدون بشأن تعرّض القائد الأمازيغي المسلم أكسيل، عندما سقط أسيراً لدى عقبة بن نافع، بشأن معاملة سيئة مهينة لا تليق بقائد، وصلت إلى مستوى أن أمر عقبة القائد أكسيل بالقوة بذبح الشياه وسلخها خلال غزوه.
ولما رأى (أكسيل) في ذلك إذلالاً وازدراءً، عمد إلى مسح وجهه بجلد الشاة التي يقوم بسلخها، متوعّداً بالانتقام ورد الاعتبار إلى كرامته المهدورة. وظلت هذه الطقوس مستمرة إلى اليوم لدى السكان، على غرار أمازيغ منطقة الأوراس في الشرق الجزائري. وفي الثورة التحريرية، تذكر المصادر أن منطقة الأوراس، مهد الثورة، حوصرت من جانب الحلف الأطلسي، ولم تخضع وتخنع على رغم القتل والتشريد والتجويع، وغنّى في شأنها الشاعر والمغني الجزائري عيسى جرموني، الذي يقول أحد أبيات شعره، في شأن مأساتهم: "لبريا (أي الرسالة) الي جات من التل قالولي الأوراس تسركل (محاصر)، والرجال تموت بلا دفينة"، أو مقولة "يا علي موت واقف"، وهي تعبّر عمّا يسمى "الرجلة الجزائرية"، أي الشجاعة والصلابة لدى الجزائري الذي يرفض الخضوع والانحناء؛ ذلك الشعب الرافض للظلم والاحتقار والعاشق للحرية. فكيف ستؤثر تلك الرؤية في المسار الخارجي للدولة الوطنية.
الدبلوماسية الجزائرية: منطلقات بأخلاق جزائرية وبتكلفة باهظة
على رغم حداثة استقلال الجزائر وقلة إمكاناتها ومواردها، وهي تدخل نظاماً دولياً منقسماً إلى معسكرين، ليبرالي غربي واشتراكي شيوعي، ومحكوم بلعبة المصالح والقوة من أجل الهيمنة، فإن ذلك لم يمنعها من الانخراط منذ بداية استقلالها في 5 تموز/يوليو 1962 في مسار دبلوماسي بدا، منذ الوهلة الأولى، كأنه يستقي من مخياله الاجتماعي الذي أعطى ثورة عظيمة ضد فرنسا الإمبراطورية أعتى قوة استعمارية. فرفض الاحتقار ونصرة الضعيف والمظلوم والوفاء بالعهود ورد الجميل تُعَدّ من مسلّمات أخلاق الجزائريين في نظرتهم وتعاطيهم وتصورهم للحياة. وتبعا لذلك، أقدّر أنها مارست تأثيراً واضحاً في توجهات الدولة الوطنية منذ الوهلة الأولى لاستقلالها.
على نحو ذلك، قام الرئيس الجزائري أحمد بن بلة بزيارة لدولة كوبا، من أجل إعلان التضامن مع الثورة التي تشهدها كوبا، على رغم استقباله قبل ذلك من جانب الرئيس الأميركي جون كينيدي في 1 تشرين الأول/أكتوبر 1962، والذي كان له موقف إيجابي من الثورة حين كان عضواً في الكونغرس الأميركي، بحيث انتقد في عام 1957 السياسة الفرنسية في الجزائر، واصفاً سياسة بلاده تجاه الثورة الجزائرية بعدم الوفاء لوثيقة الاستقلال الوطني. وحين تولّى رئاسة الولايات المتحدة، دعا، عام 1961، صراحة فرنسا إلى منح الاستقلال للجزائريين.
ويبدو أن السبب الذي جعل السلطة الجزائرية لا تعير اهتماماً لمواقف كينيدي مرده إلى اعتبار موقفه متأخراً، ولا يرقى إلى التأييد والمساعدة اللذين حصلت عليهما الثورة التحريرية من الصين والاتحاد السوفياتي، أكبر قوتين في المعسكر الاشتراكي. وفوق ذلك، تأكدت حتمية استقلال الجزائر، فضلاً عن استمرار دعم أميركا للسياسة الفرنسية، التي رأت فيها الحليف الذي سيضمن لها السيطرة على منطقة شمالي أفريقيا؛ المنطقة التي تحولت إلى هدف قوى المعسكر الاشتراكي. أيضاً، وتأكيداً لتوجهها المتميز والمناهض لسياسات المعسكر الغربي الرأسمالي، دعمت الجزائر الثورة الفيتنامية في حربها ضد الغزو الأميركي.
وفي سياق تأكيد خياراتها الاشتراكية ونزعتها المتسمة، إلى حد ما، بالاستقلالية، نشطت الدبلوماسية الجزائرية في منظمة عدم الانحياز، بحيث طالب الرئيس الجزائري هواري بومدين، من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، باسم مجموعة الـ77، بإقامة نظام اقتصادي دولي جديد. كما ساهمت في إبرام اتفاقية حدودية بين العراق وإيران في آذار/مارس 1975. وبسبب مساعيها لإيقاف الحرب بين الدولتين، أُسقطت الطائرة المقلة لوزير الخارجية الجزائري محمد الصديق بن يحيى والوفد المرافق له (13 دبلوماسياً مرافقاً له) عند الحدود الفاصلة بين العراق وإيران (أقدّر أن الوفد استُهدف بالقتل كون المخطط كان يمنع إيقاف الحرب، من أجل تدمير القوتين الشرق أوسطيتين).
أيضاً، واستمراراً لدورها النشط، نجحت في عام 1981، عقب انتصار الثورة الإسلامية، في إطلاق سراح 52 موظفاً أميركياً كانوا محتجَزين في السفارة الأميركية في طهران. وتكريساً لنزعتها الثورية (الشعب الجزائري ثائر بامتياز)، تحولت الجزائر إلى قلعة للثوار، من منطلق مناهضتها للاستعمار، في كل أشكاله. وتبعاً لذلك، احتضنت القيادات الثورية الأفريقية ودعمتها وساندتها، على غرار رموز النضال الأفريقي وآبائه، كنكروما وباتريس لومبيبا ونيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، وقيادات من أنغولا والكونغو وموزمبيق وغينيا.
واستمرت في ذلك النهج في فترة الثمانينيات، غير أن زخمها تراجع منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وهذا نتيجة لجملة من التحولات الداخلية والدولية التي شهدتها الجزائر (أقدّر أنها بفعل سياسات القوى الليبرالية)، فدخلت الجزائر في عدد من الأزمات، لعل أخطرها انخراط الجزائر، بعد انتفاضة الخبز والزيت في تشرين الأول/أكتوبر 1988، في إصلاحات سياسية كرسها دستور شباط/فبراير 1989، والتي أفضت إلى تبني ديموقراطية في غير بيئتها. وكادت تُودي بالجزائر إلى حالة من الدمار على الطريقة الأفغانية والصومالية والعراقية.
ثم مرّ عقدان من حكم بوتفليقة اتسما باستشراء فساد عام. وبعد ذلك، وبعد حراك سلمي، دخلت الجزائر عهداً جديداً عنوانه "التغيير من أجل التجديد"، عقب وصول الرئيس عبد المجيد تبون إلى الحكم في كانون الأول/ديسمبر 2019، بحيث أعلن جملة من الأفكار والمبادئ التي تحكم رؤيته وتصوره للشؤون الدولية، فهل ستشكل رؤية الرئيس تبون للسياسة الخارجية تحولاً نحو التغيير، أم أن لمخيالها الاجتماعي، الذي تحكّم في أداء دبلوماسية الجزائر في السبعينيات والثمانينيات، دور في تقييدها وضبطها؟
راهن الدبلوماسية الجزائرية: أوفياء لمبادئنا وصادقون مع حلفاء الأمس
على رغم استمرار وجود شكوك في إمكان تقديم الصين وحلفائها نظاماً شاملاً بديلاً من النظام الليبرالي الغربي، الذي لا يزال يمارس ضغوطاً جدية على الشعوب وحكومات الدول، والتي وصلت إلى حد الزج ببلدان في أتون نزاعات وحروب داخلية، كانت تكلفتها باهظة على غرار ما عاشته الجزائر خلال عشرية الحرب والدم على الإرهاب. على هذا النحو، كنت من الذين يعتقدون أن الدبلوماسية الجزائرية، من منطلق استيعاب الدروس ولتفادي سحر الليبرالية المسموم، وأيضاً من منطلق براغماتي، ستتقدم بطلب الانخراط في نظام الصين وحلفائها، وأنا واحد من أولئك المتمنين ذلك.
لقد أفصح الرئيس تبون عن ذلك عقب انتخابه في كانون الأول/ديسمبر 2019، إذ صرح بالقول: "نساند حق الفلسطينيين المشروع في بناء دولتهم، وعاصمتها القدس". في السياق ذاته، وبصراحة الجزائري (مع ما يقتضيه واجب التحفظ في المسائل الدولية)، استنكر الرئيس تبون مسار التطبيع مع "إسرائيل"، والذي انخرطت فيه عدة دول عربية، داعيا إياها، في الوقت ذاته، إلى توحيد رأيها بشأن ضرورة إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية في إطار القرارات واللوائح لمنظمة الأمم المتحدة. وفي ظلّ اتسام موقف الجزائر بالحيادية والاحترام والثقة، من جانب فرقاء المسألة الفلسطينية، نجحت القيادة الجزائرية في عقد لقاء بين الفرقاء الفلسطينيين بمناسبة الذكرى الستين لاستقلال الجزائر. وبالنسبة إلى حق الشعوب في تقرير مصيرها، التزم الرئيس تبون الدعم والمساندة لقضية الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، وقال في هذا الشأن، إن "قضية الصحراء الغربية هي مسألة تصفية استعمار في عهدة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي".
أيضاً، عبّر الرئيس تبون عن رغبة الجزائر في الانضمام إلى مجموعة البريكس BRICS (تشكلت من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، وهي تكتل اقتصادي وسياسي محل اهتمام دول كثيرة، كإيران والسعودية. وعلى خلاف التكتلات الغربية التي تفرض شروطاً، فإن البريكس لا تفرض شروطاً وإملاءات قد تمس باستقلالية القرارات والمواقف للجزائر. ومما قاله في كلمته في قمة البريكس، في حزيران/يونيو 2022، عبر تقنية التحاضر عن بعد، وهو يتحدث عن أزمة ما تسوّقه قوى العولمة بخصوص "الحوكمة العالمية" وطبيعة مختلف التحديات التي تواجه جهود إنهاء الحروب والنزاعات وإحلال السلم، داعيا إلى إعادة تشكيل موازين قوى جديد يسمح بإعادة هندسة معالم نظام دولي جديد، فضلاً عن إعادة تنشيط محور فنزويلا وكوبا وصربيا، وإبرام اتفاقيات متعددة في هذا الشأن.
وأقدّر أن هذه الرؤية، حتى إن حدثت وفق كيفية مغايرة، أو لم تحدث، في عهد الرئيس الراحل بومدين، سيلتزمها الرئيس تبون. ومردّ ذلك أن مرجعيته هي مخياله الاجتماعي، وهي التي وجّهت سلوك مرحلة بومدين وستوجه سلوك تبون ومن يأتي من بعده لحكم الشعب في هذه الجغرافيا الجميلة. وهو المخيال الذي ظل يُملي عليّ من حيث لم أكن ارغب وأريد، وأنا أكتب مقالاتي وألقي مداخلاتي مدافعاً عن رؤية بلدي الجميل، والمستندة إلى قيم الرجولة والنيف ونصرة المظلوم وفضح المتآمر وكشف وكلائه وأدواته.
وأخلص إلى القول إن الأزمات والمحن التي تعرضت لها الجزائر، في الأعوام الثلاثين الماضية، كانت في جانب كبير منها نتيجة للخط الذي تبنته الجزائر المستقلة، بحيث دفعتها أخلاق مخيالها الاجتماعي إلى الانضمام إلى المعسكر الاشتراكي (رمز جماهير البروليتاريا المقهورة)، وأدّت فيه دوراً محورياً، وناصرت النضالات والكفاح للشعوب في الاستقلال والتحرر، كما الحال مع قضية الشعب الفلسطيني والشعب الصحراوي والشعوب الأفريقية. لكن، للأسف، فإن الأخلاق لا تجد مكاناً لها في قاموس العلاقات الدولية، كما تعمل الإمبراطوريات والدول الطامحة إلى الهيمنة، وحيث لا شيء يعلو فوق القوة والمصالح المتحكّمة في المواقف.