الخطاب التطبيعيّ استثمار جديد للصهاينة في لبنان
للجاسوسية أسباب متعددة، كأن يكون الجاسوس يحمل ثقافة سياسيّة معادية لوطنه، أو من أجل الحصول على المال، أو نتيجة تعرّضه للابتزاز.
يعتبر هارولد أدريان راسل كيم فيليبي (1912 – 1988) من أخطر الجواسيس في العالم، حيث كان ضابطاً في المخابرات البريطانية وعميلاً مزدوجاً للاتحاد السوفياتي، خلال مرحلة حسّاسة جداً في الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة.
وكما هو متعارف عليه فالجاسوسية هي الحصول على معلومات تعتبر مصنّفة سرية تخص دولة لصالح دولة معادية لها أمنية، عسكرية، اقتصادية، وحتى اجتماعيّة.
ومن الممكن أن تكون بين شركات تتنافس فيما بينها أو بين المخترعين والمطوّرين في مجالات الطب والتكنولوجيا والابتكارات الحديثة. وعلى مدى العقد الماضي، بدأت أجهزة الاستخبارات كافة الصغيرة منها والكبيرة تستخدم أكثر فأكثر وسائط التواصل الاجتماعي في عمليات التجسّس. مع ذلك، يبقى العملاء الأشخاص هم الوسيلة الأكثر أهمية.
وللجاسوسية أسباب متعددة، كأن يكون الجاسوس يحمل ثقافة سياسيّة معادية لوطنه، أو من أجل الحصول على المال، أو نتيجة تعرّضه للابتزاز.
وأجهزة المخابرات تعرف جيداً كيف تلعب على هذه الغرائز، ولا سيما أمام ضعاف النفوس، أو الناس الأكثر حاجة. فكثير ممن سقط في فخ التجنيد غلبه فقره، أو العوز الشديد. ومنهم من وقعوا في الفخ لأن مصاريفهم فاقت مداخيلهم، وتطلّعاتهم فاقت إمكانياتهم. لذلك نجدهم يسقطون في الفخ ويتمادون فيه، ولا يعرفون كيف يخرجون.
ونظراً لوجود الصراع العربي الإسرائيلي الممتد منذ فترة طويلة، فإن منطقة الشرق الأوسط كانت ساحة نشطة ومركزاً لتنجيد العملاء. في لبنان مثلاً، ومع اشتداد الصراع الداخلي على السلطة والنفوذ والخلافات الطائفية أصبح البعض يهاجم المقاومة ضد العدو الإسرائيلي، ويتهمها باستفزاز المحتلّ، مطلقاً حملات إعلامية منظّمة لشيطنتها والتقليل من أهميتها ودورها وإنجازاتها في خطاب يتماهى كلياً مع خطاب العدو.
وأصبح هؤلاء يعلنون جهارة استعدادهم لعلاقة جيّدة مع الكيان المحتل عبر اتفاقيات أمنية لإرضاء جهات خارجية. وهذه الأصوات التي ارتفعت مؤخراً كظاهرة جديدة فتحت المجال أمام ضعفاء النفوس للعمل لصالح العدو بطريقة أو بأخرى. ومع هذه الظاهرة جهدت الأجهزة الأمنية للكشف عن عدة شبكات تعمل لصالح العدو عبر عدّة وسائل منها الأجهزة التكنولوجيّة المتطورة التي حصلت عليها من جهات خارجيّة، والرّصد والمراقبة.
واللافت في الأمر أن العدو الإسرائيلي لم يعد فقط يستعين بالعملاء المجنّدين المتعارف عليهم، كأنْ يجنّد شخصاً لالتقاط الصور ويدفع له مقابل ذلك، لأن المعلومات لم تعد فقط مرتبطة بالإحداثيّات على الأرض والأماكن أو سكن الأشخاص المطلوبين للعدو بوجود تقنيّات حديثة وعالية الدقة يملكونها وتستطيع القيام بهذه المهام وينحصر دور العملاء فقط بتأكيد هذه المعلومات بالنظر.
ولكن اليوم يوجد نوع آخر من العمالة يتمثّل بالخطاب التطبيعيّ والذي يستطيع الصهاينة الاستثمار به كون تأثيره يكون كبيراً على مجموعات كبيرة اجتماعية، دينية أو سياسيّة لخدمة الترويج لمشروعهم الهادف إلى توسيع الحفرة بين اللبنانيين وتحضير جزء كبير منهم لقبول الصهاينة أو المحتلين كجيران مسالمين، ويوجد الكثير منهم وهم من أغلب الفريق الذي عمل منذ العام 2005 ضد المقاومة.
وكثرٌ من أصحاب هذا الخطاب يعملون خلف ستار العمل السياسي والدبلوماسي أو الصحافي أو رجال الأعمال، وتتيح لهم تلك المُسمّيات الاتصال بأشخاص من ممثلي الأوساط السياسية والاقتصادية الذين يمكنهم الوصول إلى المعلومات الحسّاسة والمهمّة واستخدامها في خدمة التطبيع، وكلّ ذلك يصبّ في إطار العمالة.
وجزء من هؤلاء ليس بالضرورة أن يكون على تواصل مع الصهاينة مباشرة ليخدمهم، يكفي أن يروّجوا له ويقلّبوا الناس ضد المقاومة ويعملون على تشويه صورتها، تماماً كما يريد العدو.
وتدخل ضمن هؤلاء جماعات سياسية أو دينيّة أو مجتمع مدني، تستخدم مواقعها لخدمة مشروع التطبيع، على سبيل المثال كما يفعل اليوم بعض رجال الدين الذين يزورون الأراضي المحتّلة بحجة أن العملاء الفارّين من لبنان خلال الانسحاب الإسرائيلي هم «رعية» ويساعدون عائلاتهم في لبنان من خلال إرسال مبالغ ماليّة يتولّى نقلها رجال دين، كما حصل مع المطران موسى الحاج.
وللمفارقة أن هؤلاء، أصحاب خطاب التطبيع والعمالة، لم يتعظوا من التجارب التي أثبتت كيف يتعامل العدو مع عملائه. وهناك الكثير من الصور الحاضرة في الأذهان، منها وقفة العملاء أذلاء خائبين على الحدود بعد انسحاب "إسرائيل" من الجنوب عام 2000. هذا غير الشهادات التي أدلى بها العملاء أنفسهم.
والمثال على ذلك العميل أمين عبّاس الحاج الذي خدم الصهاينة كثيراً قبل وخلال وبعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وهو بنفسه يقول في مقابلة مع الصحيفة الإسرائيلية "يديعوت أحرنوت": "لقد رمتني المخابرات الإسرائيليّة كالكلب بعد أن خدمتها لفترة طويلة، واليوم أنا أعيش في إسرائيل ببطاقة منتهية الصلاحية بلا تأمين صحيّ ومن دون أي مدخول مادي، فأنا أعيش من حسنات بعض الأصدقاء الذين يمدونني ببعض المبالغ الصغيرة".