الاتفاق الإيراني – السعودي يثبّت الصين قوة عظمى جديدة

الاتفاق السعودي -الإيراني يشكّل مؤشراً صارخاً على نفوذ الصين وتقديرها المتزايد مع أكبر قوتين في الخليج.

  • الاتفاق الإيراني – السعودي يثبّت الصين قوة عظمى جديدة
    الاتفاق الإيراني – السعودي يثبّت الصين قوة عظمى جديدة

إن توقيع الاتفاق الإيراني -السعودي أكد ما كانت حذّرت منه مجلة "فورين أفيرز" الأميركية بأن "وباء كورونا سيسجل لحظة سويس أخرى، إذا لم ترتق واشنطن إلى مستوى التحدي الراهن". ففي عام 1956، كشف تدخل فاشل في قناة السويس اضمحلال بريطانيا العظمى، وسجّل نهاية نفوذ المملكة المتحدة كقوة عالمية.

وجاء هذا الاتفاق الإيراني –السعودي، الذي رعته الصين، ليؤكد ما قاله المفكر المصري عبد المنعم سعيد في "ندوة لمؤسسة بطرس غالي: تشاؤم تجاه الحرب الروسية ـ الأوكرانية في رؤى إستراتيجية" (31 كانون الثاني/ يناير 2023) بأن الجديد في العلاقات الدولية الآن هو أن العالم دخل إلى ساحة إعادة ترتيب النظام الدولي بالإعلان عن أن الصين قوة عظمى ثالثة، وأن العالم يدخل إلى أزمة "جيوسياسية" تدور حول الأحلاف وتهديد الحدود.

ويقول سعيد إن الصين ولدت كقوة عظمى، بطريقة مختلفة عن تلك التي ظهر بها القطبان الاَخران، فالولايات المتحدة أصبحت قوة عظمى بعد دخولها وانتصارها في الحرب العالمية الأولى عام 1917، والاتحاد السوفياتي أصبح قوة عظمى بعد مشاركته في الانتصار في الحرب العالمية الثانية 1945.

وحسب سعيد، فإن ميزة الصين أنها أصبحت قوة عظمى من دون إطلاق رصاصة واحدة، معلنة بذلك نوعاً جديداً من القوى العظمى. ويرى سعيد أن تتويج الصين كقوة عظمى كان في 4 شباط/ فبراير 2202، عندما تم الإعلان الصيني-الروسي في بكين الذي طالب بنظام دولي جديد.

وقد جاء هذا الإعلان/ الاجتماع كجزء من الرد على "استمرار تمدد حلف الناتو"، والإدانة لتحالف "أوكوس" العسكري بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا. 

لقد كان من علامات ذلك أن الصين وقوى الجنوب العالمي لم تعد بحاجة بعد الآن إلى الاعتماد على إجراءات واشنطن والغرب، إذ باتت الصين تتبع اليوم السيناريو ذاته الذي كانت روسيا تتبعه؛ من خلال تنظيم تعاون مع تركيا وإيران، عبر عملية "اَستانا" في إدارة الأزمة السورية، وكذلك تسعى لكي تقيم تعاوناً بينها وبين باكستان وروسيا وإيران لكيلا تكون أفغانستان دولة مضيفة للإرهاب. وقد طرحت الصين مبادرة سلام لتسوية الأزمة الأوكرانية.

ويشكل الاتفاق السعودي -الإيراني مؤشراً صارخاً على نفوذ الصين وتقديرها المتزايد مع أكبر قوتين في الخليج. فقد عملت الصين على زيادة نفوذها السياسي الإقليمي بشكل مطرد على مدى عقدين من الزمن، فاقتنصت الفرصة لإنجاز هذا الاتفاق من مناسبات ثلاث: الأولى إعلان "العلا" عن قمة مجلس التعاون الذي صدر في 5 كانون الثاني/ يناير2021، ودعا إلى التهدئة وتخفيف حدة التوتر في النزاعات الإقليمية، ونتج من الإعلان، وبوساطة عراقية، الحوار بين طهران والرياض، وبعد ذلك دخلت عُمان إلى الحوار لكي تصل به إلى قضية اليمن. والثانية زيارة الرئيس شي جين بينغ في كانون الأول/ديسمبر 2022 لترؤس القمم الإقليمية في المملكة العربية السعودية. والثالثة زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى بكين الشهر الماضي.

فمنذ سنوات، وواشنطن قلقة من ضعف نفوذها في الشرق الأوسط، فقد نقلت صحيفة "واشنطن بوست" عن إدارة الرئيس جو بايدن قوله عن تعاظم دور الصين بأنه "أكبر تحد جيوسياسي للقرن الـ 21". ويرى الدبلوماسي والمفكر الأميركي ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية أن "الهيمنة الأميركية في طريقها إلى الاضمحلال، ليس بسبب تدهورها، بل بسبب ما أطلق عليه الكاتب الأميركي فريد زكريا "صعود البقية"-أي تطور الدول والكيانات الأخرى اقتصادياً وعسكرياً، وبروز عالم من سماته انتشار القوة على نطاق أوسع.

فالتحالف الذي نشأ إبان حرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت من الغزو العراقي عام 1990) بقيادة الولايات المتحدة، وضم دولاً عديدة أبرزها روسيا والصين، أظهر أن استخدام القوة لتغيير الحدود الدولية عنصر أساسي في النظام العالمي. غير أن شيئاً من هذا القبيل لا يمكن أن يحدث اليوم، ولعل أبرز مثال على ذلك الأزمة الأوكرانية التي انحازت فيها الصين إلى جانب روسيا، في حين رفض العديد من الدول الالتزام بالعقوبات التي فرضتها واشنطن على موسكو.

إن اللحمة الصينية على الجانبين: السعودي من خلال وفاق سياسي ومصالح إستراتيجية متوافقة قوامها النفط السعودي والمشاركة في أكبر عملية استثمار عرفتها الجزيرة العربية في التاريخ المعاصر. والإيراني من خلال توافق إيران مع الصين فتقوم الثانية بإعفاء الأولى من آثار العقوبات الأميركية؛ وتقوم الأولى بإمداد الثانية بالنفط بعقود ميسّرة مع فرص استثمارية إيرانية، سمحت للصين بإقناع كل طرف أن هناك ما يكفي، وفق الظروف السائدة في العالم، لتحقيق مصالحه الرئيسية، وفوقها تحقيق عدد من المنافع، ودفع عدد من الأخطار.

لقد فاجأ الدور الصيني الجديد "حتى المحللين الصينيين"، كما نقلت كاميل لونس، الباحثة في مكتب الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، إذ تؤكد أن "الاتفاق السعودي-الإيراني يبعث برسالة رمزية قوية جداً؛ نظراً إلى توقيعه قبل أيام فقط من الذكرى العشرين للغزو الأميركي للعراق"، مفادها أن الصين هي المنافس الأول لأميركا في العلاقات الدولية، وأنها بدأت تمارس مهامها كقوة عظمى. وقد تزامن التوقيع مع يوم إعادة انتخاب شي جين بينغ رئيساً للبلاد لولاية ثالثة مدتها 5 سنوات. 

ورأت صحيفة "واشنطن بوست" أن التركيز على الدور الذي قامت به الصين في هذا الاتفاق ربما يستهدف توجيه رسالة إلى القوى العظمى، ومن بينها الولايات المتحدة، "مفادها أن محور الشرق الأوسط يتغير".

وهنا، من الطبيعي أن يفرض سؤال نفسه حول موقف الولايات المتحدة من اتفاق بالغ الأهمية في الشرق الأوسط مثل الاتفاق السعودي – الإيراني؟ 

لقد أبلغت السعودية الولايات المتحدة بالمفاوضات مع إيران، والسعي للاتفاق بوساطة الصين، ورحبت الولايات المتحدة بالاتفاق عبر الناطق باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي، في تصريح صحفي جاء فيه، "إننا نرحب بالاتفاق الدبلوماسي بين السعودية وإيران في إطار الجهود الرامية إلى إنهاء الحرب في اليمن، وتهدئة التوتر في الشرق الأوسط". وأضاف أن بلاده "على علم بالتقارير المتعلقة بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران". وأكد "أن بلاده شجعت منذ فترة طويلة السعودية وإيران على الدخول في محادثات مباشرة في محاولة لتخفيف التوتر".

الأكيد أن الولايات المتحدة ستحاول الاستفادة من الاتفاق من خلال الالتفاف عليه واستغلاله. فعلى رغم احتقانها وغيرتها من الاتفاق، وهذا ما بدا واضحاً من خلال دراسات ومقالات الباحثين الأميركيين، وبالأخص معهد واشنطن للشرق الأدنى الذي رأى أن "جهود الصين الدبلوماسية في الشرق الأوسط منذ سنوات لم تثمر ما يستحق الذكر، مكتفية بتجربة المنتدى الصيني – الأفريقي والمنتدى الصيني العربي". 

لكن، في الأبعاد الإستراتيجية الأميركية وأولوياتها في المنطقة، فإن الاتفاق لن يمنع حرباً فقط، وإنما سيتيح فتح نوافذ جديدة لاستئناف المفاوضات حول السلاح النووي الإيراني. الصين هنا سوف تكون ذات فائدة أخرى للوساطة ما دام لا أحد يريد مواجهة مع إيران في المنطقة. 

والأكيد، أن الاتفاق سوف يكبح آمال أميركا في مزيد من "اتفاقات أبراهام" التي كانت تتطلع إلى إبرامها مستقبلاً. وإلا ما معنى الخبر الذي نقلته صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية قبل أيام عن تقارير سعودية، أن الإمارات تدرس تقليص مستوى تمثيلها الدبلوماسي في "إسرائيل"؟ وبحسب الصحيفة، فإن وزارة الخارجية الإماراتية أمرت سفيرها لدى "إسرائيل" محمد آل خاجة بعدم مقابلة أي مسؤول إسرائيلي. وقد عدّ هنري كيسنجر أنه: "يتعين أن تضع أي ضغوط تُمَارَس على إيران الآن حساب مصالح الصين". 

يبقى التحدي الأكبر للاتفاق الإيراني – السعودي هو تطوير آليات الاتفاق وتنفيذها، والعمل على دراسة الأسباب التي أفشلت تفعيل الاتفاقية العامة للتعاون في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب، المُوقعة في عام 1998، واتفاقية التعاون الأمني المُوقعة بينهما في عام 2001.

يجدر الانتباه إلى أن الاتفاق ليس "اتفاقية سلام" بل صدر عن خصمين بهدف تهدئة التوترات، وإعادة فتح السفارات بعد مرور 7 سنوات على انقطاع العلاقات. فقد أوضح البيان الثلاثي الذي صدر في بكين أن دور الصين اقتصر على "استضافة المحادثات ورعايتها". ولم يلمّح البيان بأي شكل إلى أنها تعتزم تأدية دور الضامن للاتفاقية أو التأثير في إبقائها في المسار الصحيح.