إردوغان سلطان في البلاط الأميركي
حرب غزة قدمت إردوغان في طبعة جديدة تراوحت بين "داعية إنساني"، كما في خطابه في القمة العربية الإسلامية، ومحاضر في التاريخ العثماني على طريقة مسلسلات الدراما التركية.
منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر والأنظار تشخص إلى الموقف التركي الذي يعده مهندس السياسة الخارجية الجديدة الجنرال هاكان فيدان. ويسوّقه زعيم العدالة والتنمية بما أوتي من قدرات بلاغية على إطلاق مواقف أغلبيتها شعبوية الطابع والطبيعة.
لكن هذه الأنظار بدأت تشيح عن الرجلين بكثير من الزغل المصحوب بالصدمة. وفي حيرتها سؤال واحد: لماذا؟ وما تستبطنه لماذا من أسئلة أكثر جذرية وسياسية وجيوسياسية وجيوبوليتكية .
أليست معركة غزة في بعدها الجيوسياسي تكريساً لمنطق فرض الوقائع في صراع خطوط النفط والغاز. بتغليب مصالح أطراف على أطراف أُخرى على منطق التفاوض والحلول السياسية الذي يراعي الحدود المشتركة لمصالح المعنيين بهذا الملف. سواء أكان هذا الفرض بتركيب أحلاف جديدة أم بنتائج حروب محدودة.
وذلك بعد أن اكتشف اللاعبون الكبار أن لتلك الخطوط دوراً حاسماً في الصراع الجيوبولتيكي الجديد والمتجدد؟
ألم تصل تركيا إلى طريق مسدود وفقاً للمنطق الأول. واكتشفت سلبيته بعد كل الحروب التي خاضتها في ليبيا لقطع طريق ترسيم الحدود البحرية لقبرص. مروراً بتهديداتها المتزايدة الوتيرة. والتي قاربت الخطوط الحمر. لشريكتها اليونان في النفوذ على بحر ايجه.
وصولاً إلى فشل خيار قلب الانظمة العربية، وتحديداً مصر. لإجبارها على تغيير مواقفها حيال ترسيم الحدود البحرية. وما صاحب ذلك كله من دعم لامحدود لإثيوبيا في بناء سد النهضة على الرغم مما يحمله من تهديد للأمن الغذائي المصري. وما يطرحه من تحديات حيال حصة مصر من مياه النيل، أي بخلاصة ما يشكله من تهديد للأمن القومي المصري!!!
بل إن المسألة تتعدى اكتشاف سلبية منطق فرض الخيارات. إلى حدود أنه ممنوع على تركيا أن تستثمر في إنجازاتها العسكرية. غير المنجَزة أصلاً. وتوظيف تلك الإنجازات في حفظ مكانتها ودورها في رسم خرائط النفط والغاز في شرقي البحر الأبيض المتوسط
وسؤال "لماذا" الذي طرحناه ابتداءً ينطلق من هاتين النتيجتين. اللتين يبدو أن لعنة الجغرافيا زادت في مراوحتهما القاتلة.
فتركيا. بحكم الجغرافيا. تقع بين آبار كبرى للنفط والغاز. سواء تلك الموجودة في روسيا وجمهوريات آسيا الوسطى وايران،. أو تلك المكتشفة حديثاً في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. وأغلبية هذه الحقول المكتشفة والمحتملة تقع في المياه القبرصية - اليونانية. أو المياه الإسرائيلية.
كما أن حفّارات الغاز التركية،. كما أعلن الرئيس إردوغان أكثر من مرة. اكتشفت احتياطياً كبيراً من الغاز في البحر الأسود تكفي حاجة تركيا المتزايدة من تلك السلعة التي تُعَدُّ الفاتورة الأكثر استنزافاً لاحتياطي العملات الاجنبية في البلاد.
ومع ذلك، فإن تحولاً ذا طابع استراتيجي لم يحدث في هذا المجال، فلا تركيا تحولت إلى محطة ترانزيت للنفط والغاز لسد حاجة السوق الأوروبية،. ولا حتى إلى معبر لتصدير هذه السلعة من روسيا وإيران إلى خارج الحدود المرسومة أميركياً بموجب استثناءات تمنح على العقوبات المفروضة على هاتين الدولتين. ولا بدأت أعمال حفر جدية في آبارها لتأمين اكتفائها.
كما أنه ممنوع عليها أن تندرج جدياً في الهياكل والمؤسسات التي ترعى إنشاءها الولايات المتحدة في شرقي المتوسط لتنظيم شؤون الطاقة الجديدة، إنتاجاً وخطوطَ نقل ومحطات تسييل.
فالولايات المتحدة الأميركية حالت دون انضمام تركيا إلى "المركز الأميركي للطاقة" في شرقي المتوسط، الذي يضم ، بالإضافة إلى الولايات المتحدة، كلاً من اليونان وقبرص و"إسرائيل". كما أن الولايات المتحدة لم تسمح لتركيا بالانضمام إلى " منتدى شرقي البحر المتوسط للغاز والطاقة " والذي يجمع، بالإضافة إلى الدول السابق ذكرها، أيضاً مصر والأردن والسلطة الفلسطينية.
لم تكتفِ الولايات المتحدة بذلك. بل إنها عارضت بشدة مشروعاً تركياً إسرائيلياً لمد أنبوب بحري للغاز ينطلق من شواطئ "إسرائيل" مروراً بالجزء التركي من قبرص ومنه إلى تركيا فدول شرقي أوروبا، وصولاً إلى وسط القارة.
الأمر الوحيد الذي سمحت به الولايات المتحدة لتركيا هو أن تبقى تقاتل وتناور وتهدد على كل خطوط الغاز العابرة للبحر المتوسط. وترفض حدود المنطقة الاقتصادية التي حددتها اليونان في بحر إيجه، مهددة بحرب مباغتة إن اقتضى الأمر.
تنازع بشأن حصة قبرص التركية في ثروات الجزيرة التي ترى أنها للجزيرة كلها لا لبعضها، ثم ترفض منح قبرص الجزيرة ما للدول من حقوق الجرف القاري. إذ للجزر حدود بحرية لا تتجاوز 12 ميلاً. بينما للدول حدود جرف هي 200 ميل. هذا المنطق سيفقد اليونان مساحة فيما حددته من منطقة خالصة بحرية لها في جزيرة كريت لمصلحة ليبيا. ويفسر بشكل واضح لماذا سارع طيب إردوغان إلى توقيع اتفاقية مع حكومة الوفاق الليبي وقاتل إلى جانب قواتها حفظاً لمصالح بلاده في ثروات المتوسط.
إذاً، إن الخيار الوحيد المتاح أمام تركيا هو أن تدير مصالحها الطاقوية بسياسة سلبية. كونه المسموح به أميركيا. لاعتبارات متعددة، أولها أن الولايات المتحدة لم تطور حتى الآن مقاربة شاملة ومتجانسة للتوازن الإقليمي الذي تفرضه خرائط الغاز. ومن سيرسم هذا التوازن؟ قوة عالمية أحادية، أم تعددية قطبية، أم مجلس إدارة جديد بزعامة أميركية؟ ثم من سيكون ضامن هذا التوازن الاقليمي وموزع الأدوار فيه؟
وكيف سيتم ذلك؟ بالأمر الواقع والحروب المستمرة أم بإطلاق حوار بشأن تسوية إقليمية!
وثانيها أن الولايات المتحدة ترى أن إطلاق يد تركيا في ملف الطاقة تحديداً. من شأنه أن يحولها بسرعة إلى قوة عظمى. بالنظر إلى موقعها الجغرافي الذي يسهل عليها أن تكون عقدة طرق مواصلات هذه السلعة.
لذلك، تعمد الولايات المتحدة إلى اختبار مسارات برية وبحرية لا برمائية أخرى للجم اندفاعة حليفها التركي كما حليفها المصري. واعتماد استراتيجية الغموض الاستراتيجي في إدارة هذا الملف. وهي السياسة المفضلة أميركياً في هذه الحقبة التاريخية الفاصلة بين نظام عالمي آفل وآخر في مخاض التشكل. وهذه السياسة هي المعتمدة بالتعاطي مع الطموحات التركية في غاز المتوسط، فأخرجتها من كل مؤسساته حتى الآن. وهي التي أملت على الولايات المتحدة أن تطلق المعبر الهندي غير مبالية،. لكنها مدركة ما له من تأثير سلبي في وظيفة قناة السويس .
هذا الغموض الاستراتيجي الأميركي. الواضح لناحية استمرار ستاتيكو الفوضى الخلاقة. والمترقب لناحية ما ينتظر من تراكم وقائع استراتيجية كبرى من حرب أوكرانيا إلى الحروب الباردة المتنقلة مع الصين. يخضع لامتحان كبير في معركة غزة، والتي هي استمرار. مفصلي لحروب الغاز المشتعلة في المنطقة والعالم..
فهل هو يحشد أساطيله لفرض ما يريد من توازنات في هذه المعادلة تمهيداً لتعميمها. أم أنها إشارة واضحة إلى الأهمية الجيواستراتيجية للحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، والذي من غير المسموح تغيير قواعد اللعبة فيه بصورة مفاجئة!!
وفي كلتا الحالتين. نستعيد "لماذا" التركية: لماذا وقفت تركيا حيال حرب غزة هذا الموقف المتردد والمراوح بين خطابية شعبوية بأدبيات إمبراطورية تستعيد أمجاداً لا تمت إلى السياسة بصلة. ومبادرات دبلوماسية مترددة؟
أليست من أكثر الدول تضرراً من فرض الأميركي كل خياراته واستعادته القرار منفرداً في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، مع ما يحمله ذلك من دلالات مباشرة على طريقة التعاطي في ملفات متصلة بالشأن التركي المباشر، كالقضية الكردية، وخصوصاً أن هذا الموقف كان صارماً حيال محاولة تركيا تغيير موازين القوى في صفوف القوات التي تقاتل لمصلحة الولايات المتحدة بتغليب العنصر العربي على العنصر الكردي!
تتكاثف الأسئلة لأن حدث غزة ليس محدود الدلالات. فعلى ضوء نتائجه ستتحدد أمور كثيرة. أبرزها الأمر لمن في رسم مستقبل هذه المنطقة وخرائطها وثرواتها.
فهل وقف إردوغان وإدارته هذا الموقف بعد قراءة دقيقة لنتائج الانتخابات الأخيرة في تركيا، والتي أجبرته على خوض غمار الدورة الانتخابية الثانية، وهو القائد الذي يستفتى بشأنه ولا ينتخب؟ أم هي الأزمة الاقتصادية التي أعادته إلى بيت الطاعة؟
أم هو التقدير الاستراتيجي، ومفاده أن في الأمر عاصفة تشبه تداعيات أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر،. فلنَكُن في منأى عن أنوائها حتى لا تجرف في طريقها مواعيد محددة في اتفاقية مونترو؟!
أياً تكن الحسابات التي تحكّمت في الموقف التركي. فإن حرب غزة قدمت إردوغان في طبعة جديدة تراوحت بين "داعية إنساني"، كما في خطابه في القمة العربية الإسلامية، ومحاضر في التاريخ العثماني على طريقة مسلسلات الدراما التركية.
وأسقطت عنه بصورة سافرة صفة الزعامة الإسلامية. وقدمته كحليف عميق للولايات المتحدة يناقش معها، من خلال وزير خارجيته. وخليفته، صفقة طائرات f 16 وانضمام السويد إلى الاتحاد الأوروبي، من دون أن تسمح له هذه المرة بأن يغطي كل ذلك بتهربه من استقبال وزير خارجيتها.