أميركا و"إسرائيل"، شراكة التاريخ وسؤال المستقبل

"إسرائيل" هي وديعة الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط، واللوبي الصهيوني نافذ في قرارات الإدارات الأميركية المتلاحقة (ديمقراطيةً كانت أم جمهورية) في المستويات كافة.

  • العلاقات الإسرائيلية الأميركية في ظلّ النظام العالمي الجديد.
    العلاقات الإسرائيلية الأميركية في ظلّ النظام العالمي الجديد.

فور انتهاء عملية طوفان الأقصى، توجّه الرئيس الأميركي جو بايدن إلى "تل أبيب" مبدياً استعداد بلاده لمساندة "إسرائيل" في معركتها المقبلة. اتفق الجانبان على مبدأ مواجهة حركة حماس، لكن بعد مرور أكثر من 6 أشهر على الحرب، لم يعد الجانب الأميركي يرى في الحرب واقعية الطرح الذي يراه الاحتلال بإمكانية القضاء على الحركة عسكرياً وشعبياً؛ إذ سيتطلّب ذلك ثمناً ثقيلاً ليس بمقدور الولايات المتحدة دفعه، لعدة عوامل أبرزها تزايد احتمالات تفجّر أزمة إقليمية، وانخفاض الدعم الشعبي الأميركي لـ "إسرائيل".

مع استمرار المعركة وطول مدتها، ترتفع حالة التوتر بين إدارة جو بايدن وحكومة بنيامين نتنياهو، بسبب رفض نتنياهو المطالب الأميركية، والملاحظات الكثيرة التي تطرحها إدارة بايدن على نتنياهو بخصوص العملية العسكرية في رفح. والتي تأتي ليس حبّاً في الفلسطينيين، بل نتيجة لتزايد الدعم الشعبي الأميركي للفلسطينيين، وانخفاض أسهم بايدن في الولايات ذات الأغلبية المسلمة.

تميّزت دراسة العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل" غالباً بتغليب البعد الوجداني على البعد المنطقي الموضوعي، صحيح أن العلاقة كانت متينة تاريخياً، وأن سبب بقاء "إسرائيل" ونفوذها يعود إلى دعم الولايات المتحدة. لكن مع ذلك، لا يمكن تأطير العلاقة الأميركية الإسرائيلية بإطار واحد، لم تولد "إسرائيل" من رحم الولايات المتحدة، وهي ليست انعكاساً تاماً لها. التقارب، التذبذب، الاتفاق، الاختلاف... صفات رسمت مساراً تاريخيّاً للعلاقة يبن الطرفين. 

تحرّك اللوبي اليهودي وصولاً لتأسيس "إسرائيل"

تمركز التجمّع السياسي اليهودي في عواصم أوروبا قبل أن تنشأ "إسرائيل" ككيان، بدأت الصهيونية كحركة أوروبية، لم يكن عدد أنصارها في الولايات المتحدة الأميركية يتجاوز العشرين ألفاً قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى.

مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، تصاعد الدور العالمي للولايات المتحدة الأميركية، بدأ الصهاينة التحرّك لكسب رجال السياسة الأميركيين. جدّد الرئيس روزفلت بعد انتخابه مطلع عام 1945 تعهّده لليهود بمساعدتهم على إنشاء "دولة" يهودية في فلسطين. وفي 1948، أعلن بن غوريون نشوء الدولة الصهيونية في فلسطين تحت اسم "إسرائيل". لم تمضِ دقائق معدودة حتى بادر الرئيس الأميركي ترومان للاعتراف بها.

حرب 1967 والدور الاستراتيجي لـ "إسرائيل" 

أحدثت حرب 1967 تغيّراً جذرياً في العلاقة الأميركية الإسرائيلية، أصبح لـ "إسرائيل" دور محوري في الشرق الأوسط. وقع تباين كبير، بين عهد جونسون الرافض لاحتلال الأرض باستخدام القوة – والذي تمسّكت به الإدارات الأميركية منذ عام 1949، إلى قبول ما فعلته "إسرائيل" في عام 1967. الولايات المتحدة التي وقفت إلى جانب الاتحاد السوفياتي ومصر في مقابل "إسرائيل" وبريطانيا وفرنسا أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، استنتجت أن الاستثمار بـ "إسرائيل" في الشرق الأوسط بعد 1967 مسألة رابحة. 

تطوّرت الرؤية الأميركية تجاه "إسرائيل"، باعتبارها "مصلحة حيوية أميركية"، انعكس ذلك على تعامل الرؤساء الأميركيين سواء قبل انتخابهم أو بعده، بتأكيد أمن "إسرائيل" ووجودها وضمان تفوّقها العسكري على الدول العربية من خلال حصولها على أرقى نظم التسليح التقليدي وغير التقليدي.

ما بعد حرب 1973

بانتهاء حرب أكتوبر1973 وحتى توقيع معاهدة السلام المصرية ـــــ الإسرائيلية في آذار/مارس 1979، انتقل وضع "إسرائيل" في السياسة الأميركية من حدّ أقصى إلى حد أدنى غير متوقّع، ليعاود الصعود، من دون أن يصل في نهاية المرحلة إلى مستواه الأصلي.

وجدت الولايات المتحدة الأميركية نفسها بعد حرب أكتوبر 1973، أمام ضرورة جديدة تقتضي تهيئة الظروف اللازمة للحيلولة دون نشوب حرب عربية إسرائيلية كبرى. علاوة على وجود صلة بين النزاع الشرق أوسطي وبين النفط، بما يعني أن واشنطن أمست تتظاهر بعدم الاعتماد على قوة "إسرائيل" لأنه لا بدّ لها أن تحيّد العوامل التي تضرّ بمصالحها، وذلك باعتماد سياسة جديدة تأخذ في حسبانها المطالب العربية.

بوصول الرئيس الأميركي "جيمي كارتر" إلى الرئاسة عام 1977، تحدّدت سياسة الإدارة الجديدة في الشرق الأوسط في إطار تحسين صورة الولايات المتحدة الأميركية كقوة عظمى مسالمة، تُشجّع على المشاركة السياسية والتقدّم الاقتصادي والاجتماعي ولا سيما حقوق الإنسان. إضافة إلى الاستجابة للحاجات الأساسية لكلّ طرف من الأطراف، فيما يتعلق بمشاكل الشرق الأوسط.

العلاقات الإسرائيلية الأميركية في ظلّ النظام العالمي الجديد (1993 – 2001)

مع انفراد الولايات المتحدة الأميركية في قمة النظام العالمي، تبنّت سياسة خارجية لتحقيق مصالحها القومية، حدّدت عبرها أهدافها الاستراتيجية تجاه "إسرائيل"، من خلال ضمان أمن وتفوّق "إسرائيل" عسكرياً وتكنولوجياً وحضارياً. وركّزت على تطوير القدرات العسكرية الإسرائيلية، لكونها قدرات محسوبة ومضافة للقدرات الأميركية المخصصة لمنطقة الشرق الأوسط، خاصة في مجالَي الردع وبناء النظام الدفاعي المضاد للصواريخ.

وفي إطار عملية السلام التي شهدتها المنطقة حتى عام 2000، يمكن القول إن هناك ثوابت في العلاقة الإسرائيلية الأميركية في إطار التوصّل إلى اتفاقات إطار للتسوية السياسية، انحسر فيها الدور الأميركي عبر تقديم المقترحات والتسهيلات لتحقيق التقارب والتفاهم.

العلاقة في العقدين الأخيرين

عَدَّت الولايات المتحدة الأميركية "إسرائيل" شريكاً أساسياً لها في "الحرب ضد الإرهاب"، وأكدت التزامها بأمن "إسرائيل"، ورفضها العنف الموجّه إليهاـ كما طالبت السلطة الفلسطينية بتهدئة الأوضاع بهدف استئناف التفاوض. وإرضاءً لـ "إسرائيل"، صنّفت الولايات المتحدة الأميركية المنظمات الفلسطينية المناضلة من أجل تحرير الأرض منظمات إرهابية، وأعطت "إسرائيل" الضوء الأخضر للقضاء على هذه المنظمات من خلال إعادة احتلال الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية.

وخلال العقدين الماضيين، فرضت المتغيّرات الحادة نفسها على المنطقة والعالم، غزت الولايات المتحدة أفغانستان والعراق. شنّت "إسرائيل" أيضاً عدواناً على لبنان، وعدة حروب متلاحقة على المقاومة الفلسطينية في غزة، إلا أن العلاقات السياسية بين الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل"، ارتبطت بمقوّمات رئيسية تبنّاها النظام السياسي الأميركي ذاته، قامت على الحفاظ على أمن "إسرائيل"، والجاهزية للتصدّي للتهديدات الرئيسية الموجّهة إليها.

العلاقة المستقبلية

على الرغم من الخطاب الإسرائيلي الساعي إلى إرساء قاعدة جديدة للعلاقة مع الولايات المتحدة، تشدّد على "الانفراد الذاتي". وعلى الرغم من الانتقادات الأميركية المتكرّرة لـ "إسرائيل" خصوصاً في الفترة الأخيرة، إلا أن ذلك يبقى حبراً على ورق. 

تعدّ "إسرائيل" أكبر متلقٍ للمساعدات الخارجية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، بلغت المساعدات الإجمالية المقدّمة من الولايات المتحدة لـ "إسرائيل" بين عامي 1946 و2023 نحو 158.6 مليار دولار. وبحسب بيانات "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" فإن حجم المساعدات أكبر بكثير مما جاء في التقديرات الرسمية، إذ وصل إجمالي المساعدات في الفترة ذاتها إلى نحو 260 مليار دولار. وعلى الرغم من أن المستوطنين في "إسرائيل" يشكّلون ما نسبته 2.5% من سكان الشرق الأوسط، إلا أنّ "إسرائيل" تستهلك نحو 20% من الصادرات الأميركية إلى المنطقة. وهذا مؤشّر على الارتباط "العضوي" بين الطرفين.

"إسرائيل" هي وديعة الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط، واللوبي الصهيوني نافذ في قرارات الإدارات الأميركية المتلاحقة (ديمقراطيةً كانت أم جمهورية) في المستويات كافة.

في خطاب له عام 1986 قال الرئيس الأميركي جو بايدن "إذا نظرنا إلى الشرق الأوسط، لو لم تكن هناك إسرائيل، لكان على أميركا خلق إسرائيل لحماية مصالحها في المنطقة". يلخّص هذا القول علاقة الطرفين البارحة، اليوم، وغداً. فمهما بلغ التوتر بينهما، "إسرائيل"      ستبقى "طفل أميركا المدلّل".