"هبّة الكرامة" في ذاكرة فلسطينيين من الجليل: حرّرنا البلاد لأيام وراكمنا لنصر أزليّ
هُنا في قرى الجليل، وخصوصاً قرى الشاغور، كانت المشاهد تبعث الأمل كما في كلّ البلدات. أذكر جيداً كيف التحم أبناء قريتَي البعنة ودير الأسد، وهما قريتان مجاورتان، رفعوا أعلام فلسطين، وبدأوا الهتافات. وما ميّز هذا التلاحم، هو الحضور والحراك الشبابيَّين.
ثمّة مَشاهد لا يمكن نسيانها؛ مشاهد تفرض نفسها على الذاكرة. وسط قرية البعنة في الشاغور الجليلي، في "ساحة السوق" تحديداً، مكان يعرفه كل كبير وصغير في البلدة، يقف أبي صامتاً مكتوف اليدين، متأمّلاً ما يجري أمامه، وأرى الدمع في عينيه، ثمّ بسمة افتعلها من أجلي، لإخفاء ما أراد إخفاءه! أنا اخترت الصمت، وألّا أنهال عليه كعادتي بالأسئلة حتى يبدأ الحديث وحده: "صحيح دمعت عيني، فكّرت هذا اليوم مش رح يِجي، أو أنا مش رح ألحق أشوفه. أحفادي وأولاد صغار حاملين علم فلسطين وعم يلعبوا ويركضوا براحتهن. بتعرفي إني أنا كنت أخاف أرفع العلم؟ إنتوا أجرأ مننا يابا. إنتو جيل جريء وعارف شو بيحكي". كان هذا يوم الـ18 من أيار/مايو العام الماضي؛ يوم الإضراب العام في فلسطين.
قبل نحو عامٍ من اليوم، انطلقت "هبّة الكرامة"؛ هبّة الدفاع عن الحقّ في المكان وهويّته الفلسطينيّة؛ هبّة توّحّدت فيها جغرافيا فلسطين والكلّ الفلسطيني، وحرّرنا البلاد لأيام، واستعدنا الحيّز العام، وانتزعنا كرامتنا من بين فكّي آلات القهر والقتل الاستعماريّة، بالتزامن مع معركة "سيف القدس"، التي خاضتها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، دفاعاً عن أهالي حيّ الشيخ جرّاح في القدس، وتصدّياً لاعتداءات المستوطنين المستمرة في المسجد الأقصى المبارك.
انطلقت أحداث الهبّة بداية من باب العمود، حيث حاولت سلطات الاحتلال فرض واقع جديد، دخيل ومستهجَن، بحيث حاولت تقنين الحضور الفلسطيني في مدينة القدس، ونصبت السواتر الحديديّة لمنع التجمّع فيه، بالإضافة إلى المواجهات في حيّ الشيخ جرّاح ومحاولات اقتلاع أهله وإحلال المستوطنين مكانهم، ثمّ المواجهات العنيفة في المسجد الأقصى واقتحامه من جانب أفراد شرطة الاحتلال، والاعتداء على المصلين العزّل خلال شهر رمضان المبارك، تلتها هجمات للمستوطنين من اليمين المتطرّف، تحت حماية الشرطة، على الأحياء العربيّة في المدن الساحليّة داخل الأراضي المحتلة عام 1948، الأمر الذي أدّى إلى امتداد الهبّة إلى سائر القرى والمدن، وخروج الآلاف إلى المظاهرات والمواجهة المباشرة مع الشرطة والجيش، ثمّ الإضراب العام في الـ18 من أيّار/مايو.
مشاهد نصر أزلية
هُنا في قرى الجليل، وخصوصاً قرى الشاغور، كانت المشاهد تبعث الأمل كما في كلّ البلدات، ويتلاشى الخوف، كلّ الخوف، إلّا أنّ خروج الآلاف إلى التظاهر والمواجهة المباشِرة مع الشرطة ليس بحدث عادي. فعادةً، أغلبية الاحتجاجات تكون داخل المدن الكبيرة، كحيفا والناصرة.
أذكر جيداً كيف التحم أبناء قريتَي البعنة ودير الأسد، وهما قريتان مجاورتان لا يفصل بينهما حتى شارع، وتتشاركان في المدخل ذاته. تجمّع أبناء قرية البعنة في نقطة تقاطع للقريتين، رفعوا أعلام فلسطين، وبدأوا الهتافات، منتظرين أبناء دير الأسد، الذين جاءوا من أعالي القرية (هي قرية جبلية) حتى نقطة الالتقاء، ثمّ أكملوا المسير معاً في تظاهرة حاشدة حتى مدخل القريتين. وهناك، كانت تنتظرهم وتتربّص بهم القوات الاسرائيليّة لتبدأ رميَ القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي، حتى قبل الوصول نهائيّاً إلى مدخل القريتين، إلّا أنّ الاحتجاج استمرّ قرابة ساعتين، وتم اعتقال عدد من الشبّان.
إنّ أبرز ما ميّز هذا التلاحم، هو الحضور والحراك الشبابيَّين عبر قيادة التظاهرات والنشاطات الرفضوية، وإعادة النبض إلى الشارع. والحراكات لم تكن تقتصر على الناشطين السياسيين داخل الأحزاب السياسيّة، بل شملت كلّ الأطياف الاجتماعية والّلاسياسيّة، التي تنظّم عناصرها من دون انتظار أوامر من أي جهة عليا، ووحّدتهم الكوفية والهتافات وخرجوا الى الشوارع كاسرين هيبة القوات الإسرائيلية التي وضعت حول نفسها هالة "الوحش الذي لا يُقهر".
روز أسدي، ناشطة سياسيّة من قرية دير الأسد، تقول إن "كلّ شيء شاهدناه العام الماضي ما زال مستمرّاً حتى اليوم عبر أساليب وأشكال متعددة، وهذا جزء من المعاناة المستمرّة للشعب الفلسطيني". وتضيف: "ما زلت أذكر العدد الهائل من الشبّان والشابات الذين شاركوا في التظاهرة. منذ أعوام لم نشهد زخماً كهذا، وخصوصاً أن الاحتلال يحاول دائماً استهداف فئة الشبّان من أجل سلخهم عن هويتهم وثوابتهم الوطنية. كأن هذه الهبّة أتت لتذكّرنا بوحدتنا كشعب، وبأحقية وجودنا وبقائنا على الرغم من كل ما يمتهنه الاحتلال لطمس هويتنا وتاريخنا وإرثنا".
وفي قرية مجد الكروم المجاورة لقريتَي البعنة ودير الأسد، يسترجع الناشط والمصوّر الفوتوغرافي فريد ناصر ما حدث قبل عام، ويقول إن "من المشاهد الجميلة التي شاهدناها في فترة هبّة الكرامة، عودةَ الأمل إلى أبناء الشعب الواحد، وتذكيرنا وتذكير العالم أجمع أننا لم نطبّع مع الاحتلال الموجود من أكثر من 70 عاماً. أذكر أننا بدأنا نتكلم على شكل الحياة بعد التحرير، وبدأنا نتساءل كم من الوقت تبقّى لهذا الاحتلال تحت ظروف كهذه؛ ظروف خلقناها نحن على الرغم من الاحتلال. استشعرنا كم يمكننا أن نتحكّم في مصيره حتى لو لفترة قصيرة. ما دفعني إلى المشاركة هو عدم وجود جهة سياسيّة مسؤولة عن كل ما يحدث، ولا حدود لأفعالنا. كل الشعب انتفض. اليوم أنا على يقين من أن حاجز الخوف انكسر عند كثير من الناس، وخصوصاً الجيل الناشئ، الذي كان يسمع سردياتٍ عن وحش لا ينكسر، كيف انكسر أمام العالم. اليوم صرنا نرسم خطوطنا الحُمر، ونمشي إلى بعيد أينما تأخذنا أحلامنا".