من حفلات كالأعراس إلى تهنئة افتراضية.. كيف تغيّرت عادات استقبال الحجّاج في العراق؟
لم تبقَ عادات وتقاليد استقبال وتوديع الحجّاج كما هي، بل تضاءلت وصار حدوثها من النوادر، وتحوّلت في بعض الأحيان إلى مناسبة عائلية فقط تخص الدائرة الضيقة من العائلة.
ما زال الشيخ محمد الميالي (91 عاماً) يحتفظ بذاكرة يستطيع من خلالها استذكار رحلة حجّه إلى بيت الله الحرام قبل 40 عاماً، بل يروي لنا تفاصيل ما قام به أبناؤه وأقاربه وأصدقاؤه من عرس بالسيارات التي تمّ تزيينها بالرايات البيضاء وجابوا به شوارع مدينته. وبقيت هذه المراسيم لعدة أيام قبل ذهابه وتكرّرت حين عودته.
تفتح لنا قصة الشيخ الميالي الباب على استرجاع الماضي القريب الذي كان يحتفل أبناء البلد في العراق بمن يذهب إلى الحج، جاعلين من الحدث موقفاً يعلق في ذاكرة الجميع.
المؤرّخ الشعبي مهدي الصائغ أكد للميادين نت ما قاله الشيخ الميالي قائلاً إنّ "معارف من يروم الذهاب إلى مكة يُنظمون له زفة (عرس) وتجول به السيارات في مدينته وهي تحمل الرايات البيضاء، كذلك يُزيّن دار الحاج أو الحاجة بالرايات البيضاء وسعف النخيل والحنّاء، ويطاف به على جيرانه وأصدقائه يُبرئهم الذمة ويطلب منهم الشيء نفسه، لكي يذهب وهو مطمئن بأنْ لا أحد مدين له ولو بكلمة.
أمّا حيدر الرماحي والذي أسس منظمة لحماية التراث فقال لنا عندما سألناه عن الموضوع ذاته: "من العادات أن يقوم الشخص الذي ينوي القيام لأداء هذه الفريضة من الرجال والنساء بزيارة أقاربه ومعارفه لطلب تبرئة الذمة والسماح لأنّ رحلة الحج كانت محفوفة بالمخاطر، وأغلب رحلات الحجيج تكون عن طريق البر لأنّ الذهاب بالطائرة كان مكلفاً مادياً".
ويضيف: "يقوم الأهل والأقارب بزيارة الأشخاص الذين ينوون الحج وسؤالهم بالدعاء لهم في بيت الله بمكة المكرمة وفي المسجد النبوي الشريف، وفي ليلة السفر يقضي الأولاد والبنات مع أبنائهم في بيت جدهم أو جدتهم أو من يروم الذهاب إلى الحج".
وجرت العادة وفق الرماحي أن يوصي بعضهم الحاج أو الحاجة إضافة إلى الدعاء بهدايا معيّنة من تلك الأماكن المقدّسة للتبرّك بها، كما يطلب بعض المقرّبين (خصوصاً كبار السن) جلب الأكفان لهم بعد غسلها بماء زمزم. وقد تتفاجأ عندما تكتشف بأن هذه العادات تتكرّر عند استقبال الحجاج أيضاً وعودتهم إلى ديارهم.
فبعد أداء الفريضة يستعد أهل الحاج أو الحاجـة قبل وصوله بعدة أيام، يعلّقون على مداخل الدور وسائل الزينة وبعضهم يكتب اللافتات عليها "حج مبرور وسعي مشكور"، ويهيّئ أهل الدار الذبائح ويتجمّع الأهل والأقارب في الدار، ويذهب بعضهم عند محطات وصول الحجاج لاستقبالهم مباشرةً. ويُنظم له العرس ذاته الذي حدث قبيل رحيله، فتطوف به السيارات قبل الذهاب به إلى البيت.
وفي البيت، تزداد المراسيم حيث يجلس الحاج في مكان خاص له ويبقى يستقبل المهنّئين لأيام عديدة، ويعطيهم الهدايا التي جلبها من مكة، ويستلم من المهنئين بعودته سالماً وإكماله لهذه الفريضة، والتي بحسب المعتقد (يعود بلا ذنوب كمل ولدته أمه)، هدايا عُملت خصيصاً له. وبعض الأقارب والأصدقاء كانوا يهدون أكياس الأرز والطحين ودهن الطعام من أجل إعانته على تحمّل تكاليف الموائد التي تقام للزوّار حيث يبقى البيت مليئاً بالضيوف لما يقارب العشرة أيام.
ويتناقل أهل العراق ممّن عاشوا هذه الأيام كيف أنّ باقي أهل الديانات كانوا يشاركون الحجّاج من مناطقهم هذه الاحتفاء والاحتفال كدليل على التعايش السلميّ فيما بينهم.
لم تبقَ هذه العادات والتقاليد كما هي، بل تضاءلت وصار حدوثها من النوادر، وتحوّلت في الغالب إلى مجرّد إرسال التهاني والتبريكات على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي بعض الأحيان تحوّلت إلى مناسبة عائلية فقط تخص الدائرة الضيقة من العائلة.
لقد سهّلت مواقع التواصل أساليب الاتصال مع الآخرين ومعرفة أخبارهم، لكنها سلبت روح العلاقات والألفة التي كان يعيشها المجتمع في السابق، وحوّلت التواصل إلى "لايك، وشير، وتعليق". وبات يُنظر إلى ذلك الزمن على أنه زمن الخير الذي يقتبس منه من عاشوا فيه قصصاً تعينهم على مجاراة حياة السرعة والعولمة التي نعيشها.