مضافة جبل العرب في السويداء: ضيفها سلطان وقهوتها المرّة جليسة منتدى العشائر
تؤدي المضافة في جبل العرب في السويداء دوراً اجتماعياً كبيراً في حياة السكان من أبناء الجبل، فالناس الذين يرتادونها عادةً يكونون من مستويات وأعمار مختلفة. وقد تتحول المضافة إلى مكان لفضّ النزاعات وإنشاء التحكيم في حل الخلافات.
دخلت المضافة جبل العرب مع انتقال أهالي الجبل إليه، وكانت المضافة ملكاً للشيخ أو وجهاء القوم القادرين على الإنفاق على الضيافة فيها، وقد يشترك أكثر من رجل من الإخوة أو الأقرباء في نفقاتها، لكن مع تقدم الزمن وتغير تركيبة الناس الاجتماعية والاقتصادية، أصبح في كل دار مضافة خاصة بالبيت.
تؤدي المضافة دوراً اجتماعياً كبيراً في حياة السكان من أبناء الجبل، فالناس الذين يرتادونها عادةً يكونون من مستويات وأعمار مختلفة،وهي نادٍ مفتوح يتداول فيه الناس مختلف الأحاديث عن الزراعة والتجارة والاقتصاد والسياسة، ويمرّ الجالسون بأحداث مشكلاتهم اليومية، يحلّلون فيها ما سمعوا أو عرفوا ويبحثون خلافاتهم ويقترحون حلولاً لها.
وقد تتحول المضافة إلى مكان لفضّ النزاعات وإنشاء التحكيم في حل الخلافات، يكون فيها المحكمون وجهاء القوم الذين يرومون إصلاح ذات البين، فتصبح المضافة مدرسة يسمع الناس فيها الحكايا والمواعظ والأشعار والقصائد التي تُمجّد الفروسية والوطنية والمناقبية.
وكانت المضافة المنطلق لأول رصاصة ضد الاحتلال، لذا عمد بعض الحكام الفرنسيين في الجبل إلى إغلاق بعض المضافات،وحاول بعضهم شراء المضافة بتقديم القهوة وواجبات المضافة مجاناً ودفع كل نفقاتها، لتكون موالية للمستعمرين، لكنها أعطت عكس الغاية التي أرادوها لها.
ما تقسيمات المضافة وقواعدها؟
"وين راحوا المعازيب"، هي العبارة التقليدية التي ينادي بها ضيوف السويداء إشعاراً لمضيفيهم بوجودهم، ليرد أصحاب المضافة بمختلف الجمل الترحيبية التي تبدأ بـ"حيّا الله"، ولا تنتهي بـ"أهلاً وسهلاً تفضلوا يا ضيوف".
يدخل الضيف غرفةً واسعة، مدخلها مستقلٌّ عن مدخل الدار ، وعادةً تكون أكبر الغرف، فعندما يمتدح ابن جبل العرب رجلاً لكرمه يقول عنه: "صاحب البيت الواسع"، أي إنه كريم مضياف، وللمضافة مواصفات معينة يتحدث عنها الباحث في التراث، كريم حمزة للميادين نت، ويقول: "يُستَحسن أن يكون طول المضافة ضعف عرضها، ومتقابلة النوافذ وعالية السقف، في وسطها طاولة تحمل أصناف الحلوى والفواكه للضيوف، وفي زاوية من زواياها "معاميل القهوة المرة"والفناجين، وفيها مصطبة تلازم ثلاثة جدران من الغرفة وتدور معها على يمين وشِمال المدخل والجهة المقابلة للباب، تسمّى "تواطي" في اللهجة المحلية في جبل العرب، وتشكل المقاعد الخاصة بالجلوس فيما تكون الجدران الملاصقة لها هي المسند الخلفي لهذه المقاعد".
وتحكم المضافة عادات تتمثل في مجموعة من الآداب والقواعد المتعلّقة بالتعامل بين الناس داخلها، مثل آداب الضيافة والاستقبال وقواعدالحديث والدخول والجلوس، ويحفظ هذه العادات أبناء السويداء ويقومون بتعليمها للأصغر سنّاً عن طريق الممارسة.
ويتابع الباحث حمزة قائلاً: "يقف جميع الحاضرين احتراماً للداخل، سواء أكان كبيراً أم صغيراً، إلا إذا كان من أصحاب المنزل، فلا وقوف له لأنه: لا يكرم المرء في بيته. ولا يستحب من الجالس أن يضع رجلاً فوق رجل، ففي ذلك كِبَر، وألا يستأثر بالاتكاء على الوسائد الموضوعة إلى جانبه وحده، وأن يجلس في المكان اللائق به، فصدر المضافة للضيوف والمسنين والمقدمين بين قومهم، أمّا "المعازيب" (أي أصحاب البيت) فيبقون قرب الباب ليستطيعوا خدمة الضيوف، ولا يجوز لفظ الشتائم، ولا الإسفاف في الحديث، ولا التعرض لأعراض الناس حاضرين كانوا أم غائبين".
وللضيف لدى أهالي جبل العرب قُدسية خاصة، تشابه تلك التي لدى شيوخ قبائل العرب الأصيلة، فمع أن الضيف يأكل أحسن ما لدى مضيفه، وينام على أفضل فراش، يظل "المعزّب" خجلاً منه، ويخشى أن يُلام على تقصيره بحق ضيفه. ويشرح حمزة: "يُجار الضيف إن كان مُستجيراً، فُيؤمّن من خوف ويُطعم من جوع، وقد يُعان على سداد دينه، أو جمع دِية يطلبها من أقربائه، وجرت العادة أنّه إذا حلَّ ضيف على مضافة، ينادي "المعزّب" على جيرانه طالباً منهم الحضور للسلام على الضيف، ويحضر الناس ويطلبون من الضيف أن يزورهم في مضافاتهم، وهكذا يسير الضيف في زيارات متتالية لمن دعاه، إلى أن يحين موعد الطعام، فيلتقي الجميع على مائدة الطعام لدى المعزّب الأول الذي حل الضيف في بيته، ويتنافس الحاضرون على دعوته، وهكذا يصبح الضيف ضيف كل البلدة وكل يحتفل بإطعامه وإكرامه".
لا مضافة من دون قهوةٍ مُرّة
يستيقظ العم أبو أسامة باكراً يومياً، ليقوم "بتعمير" القهوة حتى تكون جاهزة للتقديم ساخنةً في الساعة السابعة صباحاً ضمن المضافة قبل أن يقصدها العابرين والأقرباء، فتقديم القهوة المرة أساس مهم في العادات والتقاليد في السويداء، لأنها أول واجبات الضيوف ويجب أن تكون جاهزة وساخنة دائماً، بحسب تعبيره .
وعلى الرغم من تغير شكل وأدوات صنع القهوة، وتصدُّر المطحنة الكهربائية، فإن الرجل الستيني لا يزال يفضل استخدام الجرن والمهباج، ويستعمل إبريق الضغط بدل المعاميل، والترمس بدل الغلاية، ويشرح للميادين نت قائلاً: "أحمّص القهوة بالمحماصة التي تشبه الصحن وتصنع من الحديد ولها يد طويلة وساعد على شكل ملعقة طويلة لتحريك حبات البن، ثم أضعها في وعاء خشبي لتبريد حبات القهوة بعد التحميص قبل دقّها في المهباج لتنعيمها ووضعها وغليها في دلال أو معاميل تصنع من النحاس الأصفر، وعددها من ثلاث إلى خمس دلال، وتكون بأحجام مختلفة لحفظ الخميرة وصب القهوة بالفناجين، التي يكون عددها اثنين في يد المضيف وذات شكل واحد".
شرب العم أبو أسامة فنجاناً من القهوة قبل أن يناول ضيوفه فناجينهم، نظر بعضهم إلى بعض باستغراب، وكل واحد منهم يتساءل في قرارة نفسه: "أليس من اللائق أن نشرب نحن الضيوف أوّلاً؟".
وكأن ابن قرية حوط في ريف السويداء قد قرأ ما يجول في خاطرهم، فضحك قليلاً وقال: "نقدم ثلاثة فناجين، لكل منها اسم خاص يحمل معنىً، فمثلاً فنجان الهيف الذي يحتسيه المعزّب أو المضيف قبل أن يمد القهوة للضيوف، ليختبر جودتها وصلاحيتها وليطمئن الضيف إلى عدم وجود عيب فيها، فيما يطلق على الفنجان الثاني الضيف، وهو الفنجان الأول الذي يقدم إلى الضيف وهو واجب الضيافة، ويجب شربه وإذا امتنع فالسبب صحي، وإذا اكتفى من الشرب يرفعه بيده اليمنى ويهزّه، أما الثالث فهو فنجان الكيف ولا يضير المضيف إن لم يشربه الضيف، ويوصف من يشربه بأنه صاحب كيف ومعتاد شرب القهوة".
هز الضيوف فناجينهم، وارتفعت أصواتهم بالقول: "دايمة"، رد العم أبو أسامة: "إن شاء الله.. لكن لست أدري إلى متى"، وختم قائلاً: "ارتفاع الأسعار الجنوني حرم الكثيرين تحضير القهوة وتقديمها للزوار كما جرت العادة".
"مضافة أهلنا" التي تحوّلت إلى متحف
قرب مدرج شهبا الأثري، يلفتك بناءٌ بازلتيٌّ قديم، تعاينه عن قرب ليتبين أنه مضافةٌ تعود إلى أكثر من مئة عام، تتقدم قليلاً لتبهرك آلاف الأدوات التراثية والعملات القديمة المعروضة. إذاً، هل هي مضافة أم متحف؟
"مضافة أهلنا"، التي كانت تعود إلى أحد مجاهدي الثورة السورية الكبرى، تطلبت من عائلة أبو زين الدين أكثر من ثماني سنوات من العمل والبحث والتكاليف المادية العالية، كي تتحول إلى متحف افتتح في تموز/يوليو 2018.
يشير عصمت أبو زين الدين بيده إلى بندقية "أم صوان"، وهي واحد من الأسلحة القديمة التي كانت بيد الثوار السوريين، في أثناء الاحتلالين العثماني والفرنسي، ويقول للميادين نت: "يضم صدر المضافة الأسلحة القديمة والنادرة، كما نجد السلاح الأبيض، خصوصاً السيوف والبلطات التي كان منها بلطة رومانية، إضافة إلى بعض المقتنيات الحربية التي غنمها الثوار من أعدائهم أيام فرنسا والاحتلال العثماني، ثم مقابل صدر المضافة نجد القطع القديمة التي استخدمها الإنسان القديم في الزراعة والصناعة وحياته اليومية، كأدوات الخيول، والطبخ، والإنارة، والخياطة، وحياكة الصوف، وتحتل أدوات المرأة جانباً خاصاً من المتحف، ولا سيما أدوات الزينة، والماكينات التي كانت تستخدمها، وشغل القش، والمكواة القديمة المخصّصة لكيّ الثياب على أنواعها".
ينتقل الرجل الأربعيني إلى قسمٍ تجمّع حوله عدد من الزوّار الأطفال، منهم ابنه ريان الذي يشرح لزملائه ماهية المقتنيات، يبتسم الأب ويقول: "هنا أكثر المعروضات جذباً.. لقد كان موضوع القطع النقدية صعباً، وتطلّب مني سنوات من البحث، تجدون هنا أغلب القطع النقدية التيكانت تستخدم في سوريا التي يعود بعضها إلى العصور البيزنطية والرومانية، ولدينا أختام تعود إلى مئات السنين، ومنها ما هو تابع لشخصيات قديمة كان لها شأن في المنطقة، ونعرض مجموعة نادرة من الطوابع، منها عائد إلى بداية ما سمي دولة "جبل الدروز" في العشرينيات من القرن الماضي".
يؤمن ابن شهبا أن هذه القطع ليست ملكه، بل هو وصي عليها لأنها ملكٌ للأجيال ويتمنّى أن يكون ابنه في المستقبل حريصاً وقادراً على حماية هذه القطع أكثر منه، لأن "تاريخنا شيء مشرف، ولا هوية لهذه البلاد من دون تراث"، بحسب تعبيره.