مدينة صنعاء... جمال عمراني وتاريخ يكتنز شمسها العتيقة
صنعاء القديمة هي المعجزة البشرية، والشاهدة على حضارة اليمن، وبطاقة تعريفية للثقافة اليمنية، ومثالاً حيّاً على تمسُّك اليمنيين بما تركته أجيال من الأجداد.
"صنعاء يا أخت الزمن/ إن لم تكوني من يهد الظلم/ في عزٍ وإصرارٍ فمن؟!/ نهر الحضارة يا يمن/ وظلالها بالحب دانية عليك/ فكيف تسقيك الحزن؟" (شعر خالد الطبلاوي).
مدينة صنعاء القديمة متحف هندسي، ولوحة نادرة من العجائب، تجذب من رآها. إن زرتها مرة تصبح أسير هواها، ومتيّماً في حب أزقتها، ومغرماً بتاريخها وعاشقاً لألوان عمرانها، ومندهشاً من سورها وأسواقها وبساتينها ومساجدها وبراعة إتقان تفاصيلها، التي تشهد على أنها إحدى العجائب.
التاريخ العريق
صنعاء ضاربة في جذور التاريخ، بحيث إنها تعود إلى عهد سام، ابن نبي الله نوح، عليه السلام، وسُمِّيت "مدينة سام"، وعُرفت باسم مدينة آزال، نسبة إلى آزال بن يقطين بن العبيد بن عامر بن شالح، حفيد سام بن نوح. وبحسب منظمة اليونيسكو، التي صنّفتها ضمن أهم 25 مَعْلَماً سياحياً عام 1986، فإن المدينة بُنيت في وادٍ جبلي يرتفع إلى 2200 متر، وأصبحت آهِلة بالسكان منذ أكثر من 2500 عام، وتحوّلت في القرنين السابع والثامن إلى مركز مهم لنشر الإسلام.
أسواق صنعاء المتنوعة
أسواق صنعاء قديمة قِدَمَ الحضارة اليمنية، فهي موجودة منذ عهد الدولتين السبئية والمعينية، وتُعَدّ أقدم أسواق الجزيرة العربية، والسبيل الأول والأخير إلى تلبية مختلف الاحتياجات، بحيث توجد فيها 45 سوقاً، منها سوق المعطارة، وتُباع فيها أدوية الأعشاب، لعلاج كثير من الأمراض المتعددة، والبخور والعود والعطور والعسل البلدي.
وهناك أيضاً سوق الحدادة، وسوق الحبوب، وتُباع فيها أنواع الحبوب البر (القمح البلدي)، الشعير، الدخن، الذرة البيضاء والصفراء، العدس، البقوليات والبهارات.
كذلك سوق الملح، وسوق القماش، وسوق الفتلة (بيع لوازم الخياطة)، وسوق الجنابي (الخناجر اليمنية)، وسوق المدر (الأواني الفخارية والحجرية)، وسوق الفضة، وسوق النجارة، وغيرها مثل الأسواق الخاصة ببيع العنب، المسباغة، الحدادة، العسوب، الحلقة، المنقالة، الكوافي، المدايع، القص السلب، البز، المخلاص، الذهب، الزبيب، النظارة، البقر، العرج (الحمير)، الحناء، النحاس، السراجين، الصرافة، الختم (القرآن الكريم)، المعدن، الحطب، القشر (البن والقهوة).
ويقول أحمد العزيري، أحد العاملين في سوق الجنابي: "في كل سوق معلم، يكون المتحدث باسم العاملين فيها، والمسؤول الأول أمام الجهات المختصة عن أي حالة غش أو سرقة".
ويلفت علي المحبشي، أحد عمال سوق الزبيب، إلى أن "ما يميز الأسواق في صنعاء القديمة، هو أنها غير متداخلة بعضها ببعض".
أبواب صنعاء وما تبقى منها
يقول علي ناصر الحاج، أحد سكان المدينة، إن لصنعاء القديمة أربعة أبواب رئيسة، هي: باب اليمن وباب شعوب وباب السبح وباب ستران. ولها خمسة أبواب غير رئيسة، هي: باب خزيمة وباب الشقاديف وباب البلقة وباب الروم وباب القاع.
ولم يتبقَّ من تلك الأبواب إلّا باب اليمن، الذي يُعَدّ مَعْلَماً تاريخياً وسياحياً، عمره أكثر من ألف عام، ويُعَدّ من أجمل أبواب المدينة صنعاً، وأكثرها عرضاً وترتيباً. وهو الباب الوحيد المتبقي بصورة سليمة، ولم يتعرض للهدم والتخريب كسائر الأبواب الأخرى. وتعود فكرته إلى تقاليد حربية في تحصين المدن.
سماسر تجارية
وهنا، كما هي حال تنوع الأسواق في صنعاء القديمة، كذلك تتنوع أيضاً السماسر التجارية. فالسماسر الموجودة، منها لوكندات (فنادق شعبية) لإقامة الغرباء من التجار في أثناء نزولهم السوق وتنقلهم لعرض بضائعهم والإقامة بها بأجر، والبعض كجمرك لأصناف معيَّنة مثل جمرك الزبيب والقشر (القهوة والبن)، وأصبحت مراكز تجارية، مثل سمسرتي الكبوس والرجوي. وتحوّل البعض إلى مراكز للفنون التشكيلية والحِرَف اليدوية، وهي سمسار النحاس والمنصورة والذماري. وهناك سماسر أخرى، تمّت إعادتها كمساكن وبيوت أو مخازن للتجار، مثل سمسرة سمينة في سوق المدر. والبعض سماسر لبيع أجود أنواع القهوة كسمسرة وردة.
المساجد العبادية
مساجد صنعاء القديمة، أو ما يُسمى بالجوامع في اليمن، انفردت بالطابع المعماري الإسلامي القديم، والذي اندثر في أغلبية البلاد العربية، وفيها أول مسجد في اليمن، وثالث مسجد في عهد رسول الله، النبي محمد. وهو الجامع الكبير الذي بُني بأمر من رسول الله.
وتتوزَّع المساجد داخل سور المدينة ضمن ثلاثة أحياء، منها 16 مسجداً في حيّ القطيع، و21 مسجداً في حيّ السرار الشرقي، و6 في حيّ السرار الغربي. وهذه المساجد هي: الجامع الكبير، جامع البكيرية، جامع الحيمي، المعروف بمسجد الباشه، جامع نصير، جامع موسى، جامع الأنبر، ويدعى قديماً مسجد الأبزر، جامع القلعة، جامع مراد، جامع المتوكل، جامع الجناح، وإلى جانبه مسجد المذهب في سوق الملح.
وهناك أيضاً جامع صلاح الدين، جامع المفتون، جامع المدرسة، جامع الطواشي، جامع خضير، جامع الزمر، جامع عقيل، جامع الخراز، جامع الرضوان، جامع الأبهر، جامع معاذ، جامع طلحة، جامع الطاووس، جامع علي بن أبي طالب، جامع الفليحي، جامع الجلا، جامع العلمي، جامع أحمد بن الحسين، جامع غزل الباشا، جامع بروم، جامع القاسمي، جامع الوشلي، جامع الجديد، جامع النهرين، جامع قبة المهدي، جامع التقوى، جامع سمرة، جامع جمال الدين، جامع محمود، جامع داؤود، جامع الشهيدين، جامع معمر، وجامع الحرقان.
هندسة بيوتها وجمال حاراتها
شُيّدت منازل صنعاء القديمة قبل قرون طويلة، وفق أسس علمية في التصميم البيئي، بحيث تقاوم تأثيرات المناخ، والعزل الحراري، وعوامل التعرية، وتؤمّن المتانة والثبات.
وتُعَدّ المنازل جزءاً أصيلاً من التراثين اليمني والعالمي، وبُنِيَت من الحجر والطين والطوب والخشب ومادة النورة (مادة طلاء طبيعية) والجص.
وتتكوّن البناية من ثماني طبقات عادةً، وتُستخدم الطبقة الأرضية في العادة مخزناً. وفي الطبقة الأولى دواوين كبيرة واسعة مخصصة للاجتماع في المناسبات. أمّا الطبقة الثالثة فمخصّصة للنساء والأطفال، والطبقات الأخيرة والمرتفعة مجهّزة للرجال فقط.
وتوجد في معظم منازل صنعاء القديمة حجرات في أعالي المنازل، تدعى مفرجاً أو طيرمانة، وهي مستطيلة الشكل، وذات نوافذ واسعة ومنخفضة، ليتمكّن الجالسون فيها، في أثناء المقيل، من رؤية حقول صنعاء وبساتينها وأزقتها الضيقة. وكانت تراعى في تصميم هذه الغرف أمور متعدّدة، منها تقلب المناخ، الأمر الذي يجعل هذه الحجرات معتدلة الحرارة والبرودة، صيفاً وشتاءً.
وقال أحمد المطري، عامل بناء،: "نستخدم مواد بناء محلية من وحي طبيعة المدينة من أجل تخزين الحرارة نهاراً، وتقليل فقدانها ليلاً، بحيث تجعل المنزل دافئاً طوال الليل. ونستخدم مواد بناء تقاوم التفتت والتحلل، ونقوم باستخدام مادة القضاض والجص لتغطية أسطح المنازل كي يسهّل عملية تصريف المياه عبر الميازيب (منظومة التصريف)".
أما الحارات فصُمِّمت وفق تقنية تصريف بيئية ملائمة للمياه الناتجة من المباني السكنية، والمباني العامة، ومياه الصرف الصحي، وكذلك المياه الناتجة من المساجد (مياه الوضوء). كل هذه المياه تذهب جميعها، في نظام، لري البساتين والمقاشم المنتشرة في الحارات.
حارات صنعاء القديمة
أهم حارات صنعاء القديمة هي: حارة الأبزر، الأبهر، الباشا، البكيرية، الجديد، الجلاء، الجوافة، الحرقان، الحسوسة، الحميدي، الخارجية، الخراز، الدفعي، الزمر، السائلة، الشراعي، الشهيدين، الطبري، الطواشي، العلمي، الفليحي، القبة، القزالي، الكدس، المدرسة، المذهب، المصباغة، المطيط، المفتون، المنصورة، الميدان، النظارة - الجديد، حارة النهرين، الوشلي، باب السباح، باب السلام، باب اليمن، بحر رجرج، بروم، بستان السلطان، بستان شارب، حارة الجامع الكبير، حارة قبة المهدي، حارة محمود، خضير، خضير صرحة الوادي داود، سبأ، سمرة، سوق البقر، سوق المخلاص، سوق الملح، سوق سيلان، شعوب، شكر، صلاح الدين، طلحة، عقيل، غرقة القليس، غمدان، كباس، محمود معاذ، معمر، موسى، نصير، نعمان، وياسر.
الزي الأصيل
يمتاز سكان صنعاء القديمة بتفردهم بالزي الأصيل التقليدي والتراثي، والذي لا يتخلون عنه في مناسباتهم، أو في حياتهم اليومية.
فنساء صنعاء القديمة يتزينّ في المناسبات بفستان يسمى الزنة، عليه العصبة أو المصر، التي توضع على الرأس. وهو مزين بالحلي الفضية. وكذلك الملابس التي ترتديها في المنزل، تتميز بالبساطة.
أمّا عند خروجها من منزلها، فترتدي الستارة، وهي عبارة عن قطعة قماش قطنية مربَّعة الشكل، كان لون أرضيتها أبيض في البداية، ثم زُخرِفت بأشكال هندسية، باللونين الأحمر والأسود. وتميزت بنقوشها وزخارفها المزدحمة في الوسط والحواف والأركان. وتُعَدّ هذه الستارة من أبرز ملامح الزي التقليدي للمرأة.
يقول مبروك الصنعاني، خياط أزياء تراثية: "إن للأزياء القديمة ميزة مغايرة، تعيدنا إلى هويتنا وثقافتنا المتميزتين من سائر الشعوب. وتُثبت أن الأناقة جزء من حضارة اليمنيات منذ آلاف الأعوام. ولكل مناسبة زي مغاير، وأسعار الأزياء تتباين، بحسب جودة المواد المستخدمة في القماش، وبحسب الترصيع بالفضة والذهب والتطريز الموجود فيها".
أمّا ملابس الرجال فلا يقتصر ارتداؤها فقط على المناسبات الاجتماعية، بل يرتدونها في أغلبية الأوقات، كالمعوز أو الثوب، والعسيب والكوت والشال، والتي يفضّلون ارتداءها في أوقات المقيل.
الحمامات الطبيعية
ولا تكتمل زيارة صنعاء القديمة إلّا بزيارة الحمامات الطبيعية، التي تخلو من الساونا والجاكوزي. وهذه الحمامات تخضع لمعايير هندسية معينة متوارثة على مدى عصور، أشهرها حمام السلطان، الذي يُعَدّ من أقدم حمامات صنعاء القديمة، ويعود بناؤه إلى عام 1397م – 593هـ، بالإضافة إلى حمام شكر، الذي بُني عام 1569م – 977هـ، وحمام الطواشي ( 1619م-1028هـ)، وحمام الميدان وحمام الجلاء وحمام المتوكل وحمام سبأ وحمام ياسر
وذكر الحاج علي صابر، الساكن إلى جوار حمام السلطان، أن هناك أياماً مخصَّصة للرجال، وأياماً أخرى للنساء.
ستظل صنعاء القديمة هي المعجزة البشرية، والشاهدة على حضارة اليمن، وبطاقة تعريفية للثقافة اليمنية، ومثالاً حيّاً على تمسُّك اليمنيين بما تركته أجيال من الأجداد.