"ما أطيب ريحتك يا ابني".. أمهات سوريا يستذكرن أبناءهنّ الذين قضوا في الزلزال
أمهات ثكلى فقدن أبناءهن وأبناء حرموا أمهاتهم، سيناريو جديد يضاف إلى ذاكرة السوريين وهمومهم، وذلك من جراء الزلزال الذي ضرب سوريا الشهر الماضي، إذ تتجدد جراح الفاقد خلال الأعياد والمناسبات وتنشط الذكريات، وتختلف طريقة التعبير عن الحزن والألم من شخص لآخر.
من حيّ بستان الباشا في حلب، وبعد أن كانت المقابر هي وجهة الأمهات اللواتي فقدن أبناءهنّ في الحرب، أصبحت في هذا العيد وجهتهن نحو الأنقاض، بقايا أحياء وبيوت خسرت كل معاني الحياة والذكريات من جراء الزلزال الذي ضرب سوريا، ومع ذلك ذاكرة الأمهات تلهف وتحنّ إلى أبسط التفاصيل.
وداد حسناوي (55 عاماً) أم لأربعة أبناء قضوا تحت الأنقاض في حلب، انتقلت مع باقي أحفادها للعيش في مأوى لمنكوبي الزلزال، تأخذها أقدامها كل صباح إلى ركام منزلها بعد موت أسرتها هناك. تقول للميادين نت: "لا أعلم لماذا أجيء إلى هنا، لكنني آتي كل فترة، أجول في الشارع وأحاول سحب شيء من ملابس أبنائي لأصطحب معي رائحتهم وأعود إلى المأوى".
تبكي وداد وهي تحمل قميصاً وفستاناً لأبنائها، وتقول: "جئت لأخبر أولادي أنهم أخذوا العيد معهم فبعد رحيلهم لم أعد أماً.. سلامتك يا ابني هدول تيابه، ما قدروا يطالعوك يا أمي.. وهذا الفستان لبنتي، ما أطيب ريحتك بالفستان يا أمي".
تصف الجدة مرارة الفقدان وحزنها على أولادها من جهة، وعلى أحفادها الذين تُركوا من دون معيل أمانة في عنقها، وتقول: "الله المعيل أولاً وأخيراً، بس فقدوا أمهم وأبوهم، يعني ناموا وفاقوا مالقوهم".
اليتم لا يطاق
عندما يصمت الإنسان من شدة الألم ويقبع في مكانه لا يستطيع الحراك ولا الصراخ والبكاء، ويظنه الآخر قبولاً ورضى أو هدوءاً وسكينة، فالبركان الذي يُحضّر في القلوب سيكون قوياً.
"عيد الأم هو أكبر جريمة ارتكبها العالم بحق اليتيم"، بهذه العبارة بدأت ريم علوش (23 عاماً)، والتي فقدت والدتها تحت ركام الزلزال في إدلب حديثها للميادين. وتصف أنّ لا شيء يعوَّض أمام خسارة الروح، ولا شيء يعبّر عن ألم الفراق. تقول ريم وهي تحمل صورة والدتها بيدها: "فقدت أمي فأي ألم يحكى بعد ذلك، أشعر بالغصة كلما وقعت عيني على هذه الصورة ويعتصر قلبي ألماً لا دواء له".
وتضيف: "ذهبت من كانت أساس سعادتي في الحياة وقدوتي، ذهبت قطعة من روحي. لا أستطيع نسيان تلك اللحظات، فكلّما أغمضت عينيّ أراها، حقاً أفتقدها وأشتاق إليها. أريد أن أسمع صوتها وضحكتها ورائحتها التي كانت تملأ البيت، وأكلها ودعاءها لي، أفتقد كل شيء، كلما رأيت صورها أنهار، لم أتقبل الأمر بعد، فلولا الإيمان لفقدنا عقلنا، أمي لم تذهب وحدها بل ذهب معها كل مكان يذكرنا بها إنها أصل بيت العائلة".
الأمهات الثكالى يستذكرن عيد الأم
بعد أن سيطر مشهد الألم على نفوس الفاقدين، يولد الأمل ويرسم طريقاً جديداً للناجين الذين تخطوا كارثة الزلزال بمرور الوقت، ولكن يبقى الحنين في نفوس من بقي من الفاقدين والمكلومين.
"من تحت ركام الموت نهضت وعدت لأعمل وأُعيل من تبقى من أطفالي، بالرغم من كسرة قلبي على رضوان المرضي".. بهذه العبارات بدأت هناء موسى (48 عاماً) حديثها إلى الميادين نت، والتي فقدت ابنها الشاب في الزلزال، وهي تعمل في صناعة خبز التنور لتطعم المارّة في ريف اللاذقية، وتقول: "في عيدي السابق، قدّم لي رضوان حزمة كبيرة من الحطب، وقال: بدي خلّي هالباقة تسمع فيها الدنيا مشان تكفيكي شهر للتّنور يا أمي".
تغصّ هناء بحديثها، وتقول: "هذا العيد أنا رح آخدلك باقة ريحان يا حبيبي، ارتاح إنت تعبت كتير وتألمت تحت السقف يلي أخدك من حضني، كنت أنتظر اليوم الذي سيعمل فيه رضوان وأرتاح من دخان التنور، لكن القدر سبقني وخطفه إلى دنيا ربما أفضل من عناء حياتنا".
سمر ولين طفلتان بعمر الزهور، لجأتا إلى بيت جدهما في قرى جبلة، قالتا للميادين نت: "أمي وأبي رحلا إلى الجنة، وحصّالتنا كانت مليئة بالنقود كي نشتري لأمي هديتها، ذهبت أمي والحصّالة، ولم يعد هنالك عيد أم عندنا، حتى لم نودع أمنا، أيامنا باردة كاليوم الذي هبط فيه بيتنا، كانت أمي تفرد شعرنا في كل صباح وتودعنا قبل ذهابنا إلى المدرسة، رحلت من دون أن توصينا بأن نأكل عروسة الزعتر".
عيد الأم يفتح جرح السوريين
تتجدد جراح الفاقد خلال الأعياد والمناسبات وتنشط الذكريات، وتختلف طريقة التعبير عن الحزن والألم من شخص لآخر.
رؤى الأبرش (39 عاماً)، اختصاصية نفسية، تقول للميادين نت: "تحتاج الأمهات والأبناء الذين فقدوا أبناءهم إلى الدعم النفسي والمعنوي، وخصوصاً أن هول الكارثة ما زال يرافق الكثيرين في هذه الأيام، فالتقرب من الأمهات الثكالى والأطفال اليتامى وترك المجال لهم لسماعهم والتعبير عمّا يدور في داخلهم من مشاعر الحزن والغضب هو من السلوكيات المفيدة لتخطي الحزن، كي لا يشكل ذلك خطراً على الجهاز العصبي في المستقبل، وإن كانت الحالة لا ترغب في التعبير والحديث فيجب عدم الإصرار عليها".
وتضيف أنه غالباً ما يحظى الشخص الفاقد بأشخاص يحاولون بحسب معرفتهم المتواضعة أن يكثروا من عبارات المواساة ورفع المعنويات، فتأتي هذه الكلمات بمفعول عكسي تعمّق الجرح.
وتشرح الأبرش أن "أعراض اضطراب ما بعد الصدمة تظهر بعد مرور شهر من حدوث الكارثة أو حتى سنوات، وقد تؤدي الإصابة به إلى الاضطرابات والمشكلات النفسية كالقلق والاكتئاب، واضطرابات الأكل، ومن الممكن أن تصل إلى السلوكيات الانتحارية، وهذه الأعراض قد يصاب بها من عاش واقع المأساة أو شاهدها عن بعد عن طريق الصور والأخبار التي تنقل مشاهد المآسي المروعة، وهذا يشكل خللاً في الجهاز العصبي يُنتج ضغطاً نفسياً، خاصة أن حجم الكارثة يفوق قدرة تحمل الكثيرين، وكل ما يمكن فعله هو محاولة التخفيف في سبيل درء الإصابة بأمراض نفسية شديدة لاحقاً".
عادةً ما تتقلص مشاعر الحزن والأسى خلال أيام قليلة وتبدأ بالتلاشي على مدى أسابيع، وعندما يحظى الفاقد بمحيط داعم له فهذا يسرّع من العلاج والتشافي والخروج من الحزن، لكن إذا ساءت الحالة مع الزمن، ولم يستطع الفاقد التعامل مع الصدمة يجب الحصول على استشارة نفسية، من هنا جاءت أهمية زيادة الوعي والتدريب الصحيح لكل من احتضن شخصاً من عائلته أو معارفه، فالأمر أكبر من استضافة وإعالة عادية"، بحسب تعبيرها.
يشار إلى أن الزلزال الذي ضرب سوريا فجر 6 شباط/فبراير تسبّب بخسائر مأساوية في تركيا وسوريا في أعقاب موجة الزلازل المدمرة بحسب التقرير الذي أصدره البنك الدولي، وتسببت الخسائر في مضاعفة الدمار والمعاناة والمشقة التي يعاني منها الشعب السوري منذ سنوات، وقدّرت الخسائر البشرية في سوريا بنحو 6 آلاف ضحية، وتركزت الأضرار في حلب وإدلب وحماة واللاذقية وطرطوس، ودمر الزلزال مناطق واسعة من هذه المحافظات، وقدر البنك الدولي خسائر سوريا بـ5.1 مليارات دولار، أي ما يعادل 10% من نتاجها المحلي، وقد شملت الأضرار الواسعة نطاق 4 محافظات، يعيش فيها نحو 10 ملايين من سكان سوريا.
وسجلت حلب التي يبلغ تعداد سكانها 4.2 مليون نسمة أشد المحافظات تضرراً، ما نسبته 45% من مجمل الأضرار التقديرية (2.3 مليار دولار)، تلتها إدلب (بنسبة 37% أو 1.9 مليار دولار)، واللاذقية (بنسبة 11% أو 549 مليون دولار). وقد تسبب الزلزال اللاحق الذي وقع في 20 شباط/فبراير بأضرارٍ إضافية في المناطق الحدودية في اللاذقية وإدلب وحماة وحلب، فيما كانت إدلب واللاذقية الأكثر تضرراً.