"كفو نطلع على صْلُنفة؟".. السؤال الذي تحوّل إلى عبء على السوريين
كانت مدينة صلنفة السورية في محافظة اللاذقية قِبلة لأبناء المحافظات الأخرى، شكّلت البلدة مقصداً للسياحة العربية والخليجية على نحوٍ خاص قبل الحرب. لكن نقطة التحول الأساسية كانت تحديداً عام 2013، حين شهد ريف اللاذقية الشمالي واحدةً من أبشع المجازر.
بعد كلّ امتحانات، أو في أيام العطل والأعياد، كانت العبارة التقليدية التي يقولها كثير من الناس، "كفو نطلع على صْلُنفة"؟ لم يكن يحتاج الأمر منهم إلى التّمهل والتفكر للإجابة.
من الذي سيقول لا لـ"قاسيون اللاذقية"؟
البلدة التي خُلقت لتكون مصيفاً، تقع شمالي محافظة اللاذقية، وترتفع 1120 متراً عن سطح البحر، بنيت عام 1929 إبّان الاحتلال الفرنسي، لتكون دار سكن الحاكم ومصيفه، نظراً إلى ما تتمتّع به من موقع جميل، ومناخ معتدل، ومناظر خلابة، وإطلالة رائعة، على السهل والبحر والأودية والسفوح الخضر المتجهة نحو الغرب.
إضافة إلى أنها كانت قِبلة لأبناء المحافظات الأخرى، شكّلت البلدة مقصداً للسياحة العربية والخليجية على نحوٍ خاص قبل الحرب، ما رفع مستوى السكان المحليين الاقتصادي والمعيشي. لكن نقطة التحول الأساسية كانت تحديداً عام 2013، حين شهد ريف اللاذقية الشمالي واحدةً من أبشع المجازر التي راح ضحيتها المئات بين شهيد ومخطوف.
حُرِّر ريفا اللاذقية الشمالي وحماة القريب، لكن السياحة الداخلية لم تعاود نشاطها حتى عام 2019 تقريباً، معتمدةً هذه المرة على سكان المحافظة بدرجة أولى.
نعيش على الموسم!
بعيداً من وسط المدينة، تتوزّع على طرفي أحد الشوارع الجانبية أكشاكٌ وأفران تنور بسيطة اتخذتها سيدات ليخبزن فيها الفطائر والمناقيش على اختلاف أنواعها.
ترقّ أم علي العجين، بخفةٍ لافتة، فيتسع حجم الرغيف، قبل أن تضعه على الكارة، وتدخله إلى التنور وتقول لـلميادين نت: "أعمل في هذا التنور منذ عشرين عاماً، أتسلّم أنا الوردية الصباحية، وزوجي يتسلّم الوردية المسائية، لم يكن يكفينا راتبه، وهو على رأس عمله في الوظيفة الحكومية، فما بالك براتبه التقاعدي اليوم في ظل هذه الظروف؟".
تُعدّل السيدة الخمسينية الوشاح الذي تحيط به رأسها لحمايته من وهج نار التنور ورطوبة الجو، وتتابع حديثها: "لولا هذا التنور لما استطعت إدخال ابنتي إلى الجامعة، ولا توفير مستلزمات حياتنا اليومية، نحن نعيش على الموسم ومصيرنا مرتبط به، ننتظر القادمين من المدينة والمحافظات الأخرى، ليشاهدوا الثلج، أو ليستمتعوا صيفاً بالجو المعتدل، وكلا المشوارين لا يكتمل من دون تناول الفطائر".
تُسقِطُ أم علي من حساباتها احتمال الاعتماد على زبائن من السكان المحليين، لأن "الأيام لم تعد مثلما كانت من قبل" بحسب تعبيرها، وسكان القرية أصبح مشوارهم العائلي إلى التنور رفاهية، وهناك حاجات أولى بالإنفاق عليها.
"نار مكبرتة"، بهذه العبارة تصف ابنة قرية عين الوادي أسعار مستلزمات الإنتاج، وتُعدّدُ على أصابعها: "صرت أبيع الفطيرة المحمرة بـ1000 ليرة، والجبنة بـ1500 ليرة، فالكيلوغرام من الجبنة المشللة تجاوز سعره الـ19 ألف ليرة وكيس الطحين الـ100 ألف ليرة، هذا كله لا يعد مشكلة مقارنة بانعدام القدرة على توفير الحطب، الذي تجاوز الكيلوغرام منه 1000 ليرة".
تمسح أم علي دموعاً نسبتها إلى البصل الذي تقطّعه قبل أن تضيفه إلى حشوة فطيرة المحمّرة وتقول: "حين هاجمت المجموعات الإرهابية المسلحة قرى ريف اللاذقية الشمالي، هَجَرتُ هذا التنور وأسرتي كي ننجو بحياتنا، يعلم الله كم تعني لي عودتي إلى هنا، على الرغم من الحياة المرهقة والمتقشفة".
من خير الله وخير الأرض
على مدخل شارع "العشّاق"، يضع أبو علي طاولةً صغيرة ملأها بأنواع متعدّدة من الأعشاب البرية.
يبيع أبو علي باقات من الأقحوان لفتاتين قادمتين من دمشق، بعد أن شرح لهما بإسهاب فائدة هذه النبتة للشعر، ويقول لـلميادين نت: "أبيع أي باقة بألف ليرة، هذا كله من خير الله وخير أمّنا الأرض، هي الوحيدة التي تحس بألمنا وما وصلنا إليه من فقر".
يستثمر الرّجل الأربعيني الموسم الصيفي لتحقيق مدخولٍ مادي، يُمكّنه من مواجهة الظروف المعيشية الصعبة، فيبيع إضافةً إلى الأعشاب البرية، ما تيسر له من محاصيل صيفية كالخوخ والتين والذرة المسلوقة. ويتابع: "تُقشّر زوجتي الذرة صباحاً، ثم تفرزها بحسب صلابتها كي تحصل على عرانيس متجانسة قدر الإمكان، ثم أرتبها أنا في الحلّة، ثم أضيف الماء وأوقد النار حتى تنضج، وأقدّمها إلى الزبون ساخنة مع رشة ملح أو بهارات مختلفة إلى من يرغب، مثل الزبدة والكاري".
فحم، "منقل" معدني، "مهواية"، هي الأدوات التي يستخدمها أبو علي في زاويته الصغيرة، كي يقدم "الذرة المشوية" ذات المذاق الذي لا ينسى بحسب وصفه.
يشعل الفحم في "المنقل" ويشرح: "طعم العرنوس المشوي يختلف عن طعم العرنوس المسلوق، فهو ألذّ، ومن يتذوّقه لا بد أن يعيد التجربة، مرة ثانية، وثالثة، لكن أغلى سعراً، ويحتاج إلى وقتٍ طويل نسبياً كي نقدّمه ساخناً إلى الزبون، فعلينا أن نشوي أمامه، الزبائن هنا ينتظرون، فهم أساساً قادمون للسياحة، ووقتهم معهم".
يؤكد ابن صلنفة، أنْ لا داعي إلى أن يصيح بالعبارات التقليدية مثل: "ساخنة طرية يا درة"، و"صفرة وشعرك دهب يا درة"، كي يجذب الزبائن فالرائحة وحدها تؤدي الغرض.
تقترب شابة ثلاثينية، وهي تحاول كفّ ابنها الصغير عن البكاء بصعوبة، وتطلب شراء عرنوس واحد له وتقول لـلميادين نت: "أنا وزوجي موظفان حكوميان، نسكن في اللاذقية، ولا قدرة لنا على استئجار شقة للاصطياف هنا، لذا قرّرنا أن نأتي لنروّح أنفسنا كأسرة في يوم عطلتنا الأسبوعية، لكن أول ما واجهناه هو ابتزاز أصحاب سيارات الميكروباص وأخذهم ضعفي الأجرة، لأن المحافظة لا تخصص لهم مازوت يوم الجمعة حسبما قالوا".
يأخذ الطفل صحن الذرة بيد، ويمسك بالأخرى يد والدته التي تنهّدت وقالت: "حتى مشوار صلنفة روحة رجعة صار لازم نحسبله قبل بشهر".
حلّ أزمتي المحروقات والمواصلات.. مفتاحُ الموسم الجيد
يُسلّم أحد السياح، مفاتيح الشقة التي انتهى من استئجارها وأسرته، لغياث ضاهر صاحب أحد أشهر المكاتب العقارية في وسط مدينة صلنفة، يغلق ضاهر دفتر الحسابات ويقول للميادين نت: "ليس لدينا تسعيرة إيجار ثابتة، فالرقم يرتفع وينخفض تبعاً لدرجة الإقبال، وأيام الأسبوع، حيث يشهد هذا السعر تحسّناً في أيام العطل مقارنةً به في باقي الأيام".
يرى ضاهر أن مؤشرات الحصول على موسم سياحي جيد هذا العام منخفضة مستنداً إلى الحركة العامة في المدينة ويشرح: "كل شيءٍ زاد سعره أربعة أو خمسة أضعاف عما كان عليه في العام الماضي، ما عدا الشقق، ما زلنا نؤجّرها بالسعر نفسه".
يردّ ضاهر تحية سائق أحد سيارات "الميكروباص" التي تحمل لوحة حلب، ويتابع: "لدينا خط صلنفة-حلب، لكنه خفض رحلاته إلى رحلة واحدة أسبوعياً فقط، كانت معيشة أهل صلنفة تعتمد بنسبة 95 في المئة على الحلبيين والـ5 في المئة الباقية يتقاسمها أهل الخليج وباقي المحافظات السورية، لكن اليوم أوضاع غالبية الحلبيين الاقتصادية صعبة كسائر السوريين، والذين كانوا في بحبوحة منهم غادروا إلى خارج البلاد".
حركة القدوم إلى صلنفة، اقتصرت هذا العام كما في العام الماضي على سكان مدينتي اللاذقية وجبلة، بحسب ضاهر الذي ختم قائلاً: "إذا حُلت أزمتا المحروقات والمواصلات حلاً جذرياً، فيمكن أن نحظى، نحن والسكان المحليون، بموسمٍ سياحي أفضل وفائدة اقتصادية أعلى".