صناعة القوارب في الساحل السوري.. رفاق البحر يحيون مهنة الأجداد
تُعَدّ مهنة صناعة المراكب والسفن صناعة فينيقيّة تاريخية، تناقلتها عدّة عائلات سورية كإرث قيّم تتوجّب المحافظة عليه. إذ يختار الصيادون في مدينة اللاذقية السورية قواربهم بعناية فائقة.
يُعَدّ الساحل السوري مهداً لعدد من الصناعات والحِرَف التقليديّة، التي ارتبطت به وتجذَّرت عبر التاريخ، ولاسيّما تلك المتعلقة بالصناعات البحريّة، بحيث انطلقت صناعة السفن من جزيرة أرواد إلى الموانئ السورية، ومنها مدينة اللاذقية.
يُعَدّ الفينيقيون أوائل من خاض مخاطر الإبحار من شواطئ أرواد الطرطوسيّة إلى العالم، على متن السفن الخشبيّة التي صنعوها قبل 3500 عام، حاملين معهم أبجديتَهم الأولى وعلومهم وصناعاتهم الحِرَفية، فأذهلوا شعوب العالم القديمة بحضارتهم، وعلّموها الإبحار وصناعة السفن.
تُعَدّ مهنة صناعة المراكب والسفن صناعة فينيقيّة تاريخية، تناقلتها عدّة عائلات سورية كإرث قيّم تتوجّب المحافظة عليه، بحيث انتشرت على شكل وِرَش في الساحات العامة والأزقة وقرب الشواطئ. كما سادت صناعة المراكب الشراعيّة الكبيرة التي تنقل البضائع إلى الخارج، وصناعة اليخوت الكبيرة التي تضاهي الصناعات الأجنبية، من حيث رخص ثمنها وإتقان صنعها، وتُعَدّ مصدر فخر للحِرَفيين في المحافظة.
رحلة القوارب بين التصنيع والعمرة
يختار الصيادون في مدينة اللاذقية السورية قواربهم بعناية فائقة، كمن يختار شريكة عمره، "على الحلوة والمُرّة"، كما يقول الريّس وحيد شلحة، مالك زورق "الفاروق ب" في حديثه إلى الميادين نت.
ويقول: "أعمل في البحر منذ خمسة وأربعين عاماً.. لدي علاقة وثيقة بالبحر والسمك، وأصطاد في المياه الدوليّة، بحسب الرخصة التي أملكها.. عند اقتنائي زورقَ الصيد، أهتم بأدقّ تفاصيله، فهو سيرافقني مدة زمنيّة طويلة، وسيكون مؤتمَناً على روحي وأرواح الصيادين الموجودين على متنه".
وبشأن صناعة القوارب في مرفأ اللاذقية، يضيف شلحة: "تقوم الورشات الموجودة ضمن الميناء بصناعة قوارب خشبيّة وحديديّة عالية الجودة، كما تقوم بإصلاحها بصورة مستمرة. فكل مركب يحتاج إلى الصيانة الدوريّة، أو ما يدعى "العمرة"؛ أي إعادة تأهيل الزورق وصيانته من الداخل والخارج، بحيث يُرفَع إلى الشاطئ، ويقوم عمّال الورشة بتجهيزه وإعداده بصورة كاملة، ميكانيكياً وهيكلياً، للتأكّد من سلامته وجودته والمحافظة عليه".
ويكمل شلحة حديثه: "لدينا أيادٍ حِرَفيّة مهمة في صناعة القوارب، سواء الخشبيّة أو الحديديّة، تضاهي صناعاتها الصناعات الأجنبية، وتتفوّق عليها في كثير من الأحيان". ويقاطعنا أحد الصيادين قائلاً: "ما صُنِع بأيدٍ سورية لا يضاهيه شيء، يا ريّس".
مطرقة وإزميل
للشمس حكايتها على وجوه مَن امتهن البحر، وصاغ تفاصيله لقمةَ عيش لأولاده. فالحِرَف البحريّة لها طابعها الخاص، الذي تمهر به أبناءَها بلونهم الأسمر، فكيف إذا اجتمعت العناصر الثلاثة، الماء والخشب والنار، ضمن مهنة زكوان عيشو، الذي يعمل في صناعة القوارب الخشبيّة منذ سبعة وعشرين عاماً، ولم يفارق خلالها الميناء البحريَّ يوماً.
يقول عيشو، في حديثه إلى الميادين نت: "تحتاج هذه المهنة إلى صبرٍ وقوة تحمُّل جسدية. فالعمل مستمرّ بالقرب من مياه البحر بنسبة رطوبة عالية لا توفّرنا نحن ولا أخشابنا".
ويضيف عيشو أن رحلة تصنيع القوارب الخشبيّة تبدأ من الصفر عبر تطويع الخشب ومدّ "البريم"، أي العمود الفقري، أو الحامل الذي توضَع عليه أضلاعٌ خشبيَةٌ في شكل عرضي، كالقفص الصدري. وهي أول قطعة توضع من أجل بدء بناء جسم القارب، وتُثَبَّت بالبراغي والمسامير، ثُمّ تُفرَش الألواح التي تغطّي فراغات البناء الهيكلي للزورق، وتمنع تسرّب الماء إلى داخله. ويراعى الزورق المصنوع من الخشب، بحيث يُدهَن سطحه بالزيوت والمعجون والدهان الخاص بالبحر ومناخه، والمقاوم لرطوبة البحر. ويُخَصّ بهذا الدهان الجزء السفليّ من الزورق، والذي يُدعى "الغاطس".
ويوضح أن "كل ما أحتاج إليه مطرقة وإزميل، بالإضافة إلى البراغي والمسامير، لأتعامل مع الخشب كمادةٍ خام، وأصنع منها أجمل القوارب الخشبيّة وأمتنها". يتحدث عيشو بكل ثقةٍ، فخبرته وتاريخُ عمله يشهد لهما بحّارة اللاذقية، بالإضافة إلى مئات القوارب التي تطفو على سطح البحر، وتحمل خَتمه.
وفيما يخص صيانة القوارب الخشبيّة، يقول عيشو: "لا يتوقف عملنا عند التصنيع فقط، فنحن نرافق ما قمنا ببنائه، حتى يصل الماء ويتم التأكد من جودته ومتانته، وتضمّنه شروط السلامة المتوجّب علينا اتّباعها، والموضوعة من جانب مديريّة الموانئ في اللاذقية. وبعدها، نقوم بصيانته، بصورة مستمرة، كل ستة أشهر تقريباً، أو في حال تعرُّضه لحادث أو خلل خلال الاستخدام".
عائلة حريشية.. صُنّاع السفن الحديدية
بين جزيرة أرواد ومحافظة اللاذقية تنقّلت عائلة حريشية، التي تُعَدّ من أقدم العائلات التي تمتهن صناعة السفن في سوريا، بحيث توارثتها "أباً عن جد"، حتى وصلت إلى أحمد حريشية، الذي أكد، خلال حديثه إلى الميادين نت، استمراره في هذه المهنة التراثيّة وإتقانه حِرَفيتها". ويقول: "ورث والدي المهنة عن جدي، الذي كان يصنع القوارب الخشبيّة، "اللنشات"، ويمد القوارب الكبيرة للشحن بطريقة بدائيّة وبمجهود يدوي. وأنا تعلّمتها منه".
تم تطوير هذه المهنة إلى صناعة القوارب الحديديّة ضمن ورشة حريشية، ويقول: "طورّنا العمل، وأصبحنا نصنع جميع أنواع الزوارق، من زوارق "النزهة" و"الصيد" و"الشحن" و"القاطرة" و"اليخوت". وصدّرنا عدداً من الزوارق التي صنعناها إلى كثيرٍ من بلدان العالم ".
يكمل حريشية حديثه: "ضمن الورشة التي أملكها، نقوم ببناء السفينة من الألف إلى الياء، حتى تصبح جاهزة لخوض غمار البحر، ويشرف عليها مهندس متخصّص ببناء السفن، يقوم بإنشاء المخططات التي يتمّ بناء السفينة بالاعتماد عليها. وتقوم لجنة من مديريّة الموانئ بالكشف عليها، في كل مراحلها، إلى حين وصولها إلى المياه ". ويتابع حريشية: "قمنا بمدّ زوارق، وصل طولها إلى أربعين متراً، مخصَّصة للشحن، في حين نعمل حالياً على زورق "شنشلة"، وهو مخصَّص للصيد، ويبلغ طوله نحو اثنين وثلاثين متراً".
"كل قطعةٍ نعمل عليها بكل محبةٍ وفرحٍ، كأنها ملكنا. ويغمرنا الفرح حين نشاهد الزورق يشقّ عُباب البحر ويأخذ مساره ضمن المياه"، بهذه العبارات ختم أحمد حريشية حديثه.
على الرَّغم من بدائيّة الأدوات المستخدَمة، وصعوبة العمل التي تواجهها هذه المهنة، بسبب الحصار الاقتصادي المفروض على سوريا، فإنهم مستمرون في هذه الصناعة التراثيّة، التي تُعَدّ سمةً بارزة للساحل السوري، ولاسيما مدينة اللاذقية، لتبقى هذه المهنة أمانة بين أيدي صُنّاعها، الذين يقومون بتعليمها لجيلٍ شابٍّ جديدٍ، من أجل أن تستمرّ بدمٍ وروحٍ جديدَين، مفعمَين بالمحبة والعطاء لمهنة الأجداد.