ديانة قامت على "تأليه" ملك إثيوبيا.. ماذا تعرف عن الراستافارية؟
اضمحلت ديانة الراستافارية وانخفض بريقها بعد الانقلاب الشيوعي، وموت الإمبراطور الذي حكم إثيوبيا 60 عاماً. ومع مرور الأعوام، لم يتبقَّ من آثار الديانة الراستافارية إلا قلة من الجامايكيين المقيمين بإثيوبيا.
تخلّلت عهد إمبراطور إثيوبيا السابق هيلا سيلاسي، آخر ملوك الحبشة، غرائب من ممارسات واعتقادات دينية واجتماعية ظلت مرتبطة به، نتيجة لعهده الذي استمر فترة طويلة (60 عاماً)، نصّب نفسه "ملك الملوك". وما إن وضع تاج اللقب على رأسه في أديس أبابا، حتى ذاع صيته كمُخلّص في جامايكا، فتطلّعت إليه نفوس الجامايكيين ورقابهم في أميركا اللاتينيّة، وكانت قصة ديانة الراستافارية، التي لا تزال لها آثارها الاجتماعية في إثيوبيا.
ينحدر الإمبراطور هيلا سيلاسي من عائلة السلالة السليمانية، التي ظلّت الحاكمة في إثيوبيا عهوداً طويلة، والتي يدّعي أهلها أنهم من نسل نبي الله سليمان وبلقيس ملكة سبأ.
وُلد في 23 يوليو 1892. وكان وصيّاً على العرش في الفترة بين عامي 1916 و1930. كان اسمه تفاري ماكونين، وحين أصبح الملك في عام 1932 حمل اسم هيلا سيلاسي.
إثيوبيا حالة متفردة
وصف المؤرخ المستشرق الإيطالي المعروف كارلو كوننتي روسييني (1872-1949) إثيوبيا بأنها متحف الشعوب. ومن مميزات هذا المتحف أنه يغلب عليه الطابع الشرقي، وهذا ما دفع بعض الرحالة والكتّاب إلى القول إن جغرفيا إثيوبيا تتبع أفريقيا، لكنها ليست منها. وفي هذا الوصف الدقيق كثير من الصحة والواقع، فوجودها في أفريقيا جغرافياً أمر مسلّم به، إلا أن روابط الحبشة الحضارية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، خلال مسيرتها التاريخية الطويلة، كانت دائماً مع البلاد المطلة على البحر الأحمر أكثر مما كانت مع جاراتها الأفريقيات إلى الجنوب.
يقول ممتاز عارف، في كتابه "الحبشة بين مأرب واكسوم": "في شرقي البحر الأحمر بزغت شمس حضارتها الأولى (إثيوبيا)، وعبر هذا البحر سارت قوافل تجارتها إلى العالم، مُحمّلة بالتوابل والطيوب والذهب والعاج والزباد. ومن وراء البحر الأحمر غشيت هضبتها الديانات السماوية الثلاث: اليهودية ثم النصرانية ثم الإسلام، لتترك بصماتها".
ونتيجة هذه العلاقة، التي تربطها بالجزيرة العربية واليمن وفلسطين، عبر البحر الأحمر، ارتبط تاريخها بالأديان، وتأثّر الإنسان الإثيوبي بها. وتتصدر الديانة المسيحية، عبر مختلف مذاهبها، معتقدات الإثيوبيين، كونها مؤثراً كبيراً يمتد من الولاية الدينية للملوكية الإثيوبية منذ عهود قديمة، وتمثّل الديانة الأورثوذكسية مقدمة المذاهب المسيحية٠
الإسلام في إثيوبيا
في مستوى ثانٍ، يأتي الإسلام - شأنه شأن الديانة المسيحية، فيما تركه من أثر في حياة الإثيوبيين - وكما كان تأثير الكنيسة الأورثوذكسية المصرية عميقاً في المجتمع الإثيوبي على مر السنين، وأثرت كذلك هجرات المسلمين من الجزيرة العربية واليمن ومصر وبلاد النوبة في الحياة الدينية للإثيوبيين.
ترك الإسلام بصمات واضحة في إثيوبيا، والإثيوبيون يفتخرون كأمة وحضارة ودولة كونهم مثلوا أرض الهجرة الأولى للإسلام، وتقف شواهد ذلك في النفوس والآثار.
وتعيش إثيوبيا حالياً حالة متقدمة في انتشار المساجد والمزارات الإسلامية في مختلف المدن والقرى، في أقاليم أوروميا، وهرر، وولو، وتيجراي، وعفار، وبني شنقول، وغيرها. وهناك ضرائح وقبب المشايخ المتصوفة في مناطق جما، وبالي، ودسي. كذلك، تُقام طقوس الأعياد والمناسبات الدينية التي تعطي إثيوبيا طابعها الحقيقي، فتتكامل فيه الديانتان المسيحية والإسلامية في تشكيل البيئة الثقافية للمنطقة وفي الإثيوبيين.
كيف ظهرت الراستافارية؟
يُعَدّ الإمبراطور هيلا سيلاسي (هيلا سلاسي تعني القوة الثلاثية: الأب والابن وروح القدس) من أشهر ملوك الحبشة، ويوصف بكونه ساهم، إلى جانب الملوك السابقين، في بناء الدولة المركزية لإثيوبيا، التي كانت ممالك مشتتة، اشتهر على المستويين الأفريقي والعالمي، وكانت له تصرفات غريبة في إحاطة نفسه بأسدين حين استقباله ضيوفه.
بعد عامين من اعتلائه العرش، حمل لقب الإمبراطور، وأضفى على اسمه لقب "الأسد القاهر من سبط يهوذا المختار من الله". وفي ستينيات القرن الماضي، نصّب نفسه "ملك الملوك". ومن هنا تبدأ قصة طائفة ديانة الراستافارية.
نبوءة غارفي
كان أحد الناشطين السود في جامايكا، ويدعى ماركوس غارفي، ذا نفوذ، وقال لمريديه في عام 1920 إن عليهم "التطلع إلى أفريقيا، حيث يتوَّج بها ملك الأسود ويصير يوم الخلاص في متناول اليد". وبعد فترة امتدت أعواماً متعددة على مقولته، صادف أن توّج الإمبراطور هيلا سلاسي نفسه "ملك الملوك"، وحينها وجد الجامايكيون نبوءة مدعيهم تتحقق، وضالتهم في أقصى الشرق الأفريقي، فتوجهت أعناقهم صوب إثيوبيا ونحو "إلههم" الجديد الإمبراطور هيلا سلاسي، الذي أخذ صفة التعميد، وأصبح "قوة الثالوث". وعلى بُعد آلاف الأميال في جامايكا تجسد كالإله أو "جاه" (بديل من المسيح) وصارت إثيوبيا أرض الميعاد.
منذ ثلاثينيات القرن العشرين، وفي أثناء طغيان الاستعمار وما خلفه من آثار سيئة في حياة السود، نشأت بين المجتمعات الفقيرة المحرومة اجتماعياً في جامايكا توجهات "الأفريقانية"، كمشاعر تنشد الخلاص من هيمنة الرجل الأبيض، وكردّة فعل على الحضارة الاستعمارية البريطانية التي كانت سائدة هناك. وانتقلت روح الثورة لتعمّ أفريقيا بأسرها، ودول أميركا اللاتينية. والراستافارية، كحركة اجتماعية دينية تنادي بالعودة إلى أفريقيا، روّجتها شخصيات وطنية من السود، لترتبط في مسيرتها بإمبراطور إثيوبيا هيلا سيلاسي.
أمطار البركات
في عام 1966، زار الإمبراطور هيلا سيلاسي جامايكا. وبمجرد هبوطه أرض المطار، احتشدت جموع غفيرة من الجامايكيين المؤمنين به. حينها، هطلت أمطار غزيرة كانت انقطعت عن البلاد منذ عدة أعوام، لتؤكد "نبوءة" ماركوس غارفي. وقالت ريتا، زوجة مغني "البوب" الشهير، بوب مارلي، وكانت بين مستقبلي الإمبراطور، إنه عندما لوّح لها هيلا سيلاسي بيده شاهدت آثار المسامير على كتفه، مشيرةً إلى أن مشاعرها الدينية تأججت تلك اللحظة، لتدخل هي وزوجها في طائفة الراستافاريين، وبعد ذلك بثلاثة أعوام، بدأ الراستافاريون في الانتقال إلى إثيوبيا، حيث منحهم الإمبراطور هيلا سلاسي قطعة أرض، وامتيازات مدنية أخرى، من إقامة ودخول للبلاد. وقُدِّر عددهم آنذاك بـ300 شخص كطلائع للمؤمنين بالديانة الراستافارية الجديدة.
وتتّصف حياة الراستافاريين الاجتماعية بحبّ الموسيقى والرقص والهيام، ووجدوا ضالتهم في التعاليم والأقوال لشخصيات مقدسة تنادي بالانعتاق الأفريقي من الاستعباد الغربي كـ"غارفي"، وموسيقى "الريغي". ولهم تفسير خاص للإنجيل، واحترام للديانات الأخرى.
وفي عام 1974 حدث الانقلاب الشيوعي في إثيوبيا، وتولّى الرئيس منغستو هيلا ماريام السلطة. ولم يمض وقت طويل حتى مات الامبراطور هيلا سيلاسي في 27 آب/أغسطس 1975، عن عمر 83 عاماً (يقال إنه قتل مسموماً)، ودفنت السلطات الشيوعية جثته تحت حمام القصر الرئاسي.
انحسار الراستافارية
اضمحلت ديانة الراستافارية وانخفض بريقها بعد الانقلاب الشيوعي، وموت الإمبراطور الذي حكم إثيوبيا 60 عاماً. ومع مرور الأعوام، لم يتبق من آثار الديانة الراستافارية إلا قلة من الجامايكيين المقيمين بإثيوبيا، ونذر من الإثيوبيين المتأثرين بإطلاق الشَّعر وارتداء الملابس ذات الألوان الصارخة، تجدهم فرادى وفي جماعات صغيرة لهم حياتهم المنعزلة واهتماماتهم فيما بينهم. وعلى مدى تعاقب الحكومات في إثيوبيا، لا يزالون يحتفظون بالحقوق الخاصة التي منحها لهم الامبراطور هيلا سيلاسي، ويمارسون طقوسهم.
يُصنّف البعض الديانة الراستافارية على أنها ضمن المعتقدات الإبراهيمية في كونها تشير إلى الإنجيل، وتبني معتقداتها على تفسير خاص للكتاب المقدس. كما يأتي الجامايكي ماركوس غارفي كونه "نبيّها" الأول، وبعده الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي على اعتقاد أنه "الرب" في روحية هذه الديانة، بينما يُعَدّ المغني بوب مارلي الناقل بموسيقاه وألحانه تعاليم "الإله" إلى الجمهور.
ويشير بعض المصادر إلى أنه ليس للديانة الراستافارية طقوس دينية محددة للعبادة، لكن لأتباعها جلسات يطلقون عليها تسمية "جلسات التفكير"، يتبادلون فيها الأحاديث، ويُصلّون، ويغنّون ويناقشون قضاياهم، ولا يُستبعد تدخينهم الحشيش لإضفاء أجواء روحانية وتأملية على الجلسات. وتُصنَّف ديانتهم كحركة دينية واجتماعية في آن واحد، ويتنوع أعضاؤها سواء في أميركا اللاتينية أو أفريقيا، وليس لها سلطة مركزية متحكِّمة.