تسريح آلاف الموظفين.. كابوس يواجه السوريبن في القطاعات الحكومية
الوضع الضبابي الذي يعيشه موظفو القطاع العام والمؤسسات الحكومية في سوريا لا يقتصر على الهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون فقط، إلا أنه يمتد إلى قطاعات الدولة المختلفة.
برغم أنه يمتلك خبرة تتجاوز 14 عاماً في مجال التقديم الإذاعي، إلا أنّ الصحافي خالد الأحفر (اسم مستعار)، وجد نفسه مضطراً للقيام باختبارات إعلامية عديدة للحفاظ على وظيفته ضمن مبنى "الهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون" السوري في العاصمة دمشق، بعد قرارات مثيرة للجدل أطلقتها الإدارة الجديدة للهيئة التابعة لوزارة الإعلام السورية، عقب سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، وما تبعه من إعلان الحكومة الانتقالية إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية وتغيير مدرائها، الأمر الذي تسبب بإبعاد آلاف الموظفين عن أعمالهم والتهديد بشطبهم نهائياً، مثلما حصل مع العاملين في إذاعتي "سوريانا" و"صوت الشباب"، حيث صدر قرار بإغلاق الإذاعتين، قبل أن يتم تعديل القرار لدمجهما في إذاعة واحدة.
يقول الأحفر للميادين نت: "بعد أيام من البقاء في المنزل بطلب من إدارة الهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون الجديدة، ورد للعاملين اتصالات تطلب منهم الحضور للمبنى في ساحة الأمويين لإجراء اختبارات إعلامية حتى يتمكنوا من العودة إلى وظائفهم، لكن المفاجأة أن الاختبارات كانت بدائية ومبتذلة، والشخص الذي يقوم بهذه المهمة غير مؤهل لتقييم الموظفين الذين يملكون سنوات طويلة من الخبرة في المجال الإعلامي، في حين كانت بقية الأسئلة عن الحياة الشخصية والمدينة والمنطقة والقرية التي ينحدر منها الموظف، في محاولة لمعرفة الطائفة التي ينتمي إليها".
ولا يُخفي الأحفر أن الهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون تضم عشرات الموظفين الذين يمكن الاستغناء عنهم، ووصلوا إلى وظائفهم عن طريق الفساد في عهد النظام السابق، إلا أنه يخشى في المقابل أن تكون عملية إعادة الهيكلة مقدمة لفصل مئات الموظفين من أعمالهم وقطع مصدر رزقهم، بناء على توجهات كيدية وانتقامية تستهدف كل من تعتقده الإدارة السياسية الجديدة في سوريا محسوباً أو متعاوناً مع نظام بشار الأسد، لذلك فالأجدر، بحسب الأحفر، "انتظار تشكيل الحكومة الموسّعة في الشهر الثالث للقيام بهيكلة شاملة مبنية على أسس علمية ومحددة بعيداً عن أيّ أهداف انتقامية، خاصّة أن السوريين اليوم يمرّون بمرحلة اقتصادية صعبة للغاية انعكست بشكل مباشر على أوضاعهم المعيشية".
ضبابية في القطاع العام وتسريح الآلاف
الوضع الضبابي الذي يعيشه موظفو القطاع العام والمؤسسات الحكومية في سوريا لا يقتصر على الهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون فقط، إلا أنه يمتد إلى قطاعات الدولة المختلفة، خاصّة مع تأكيد وزير المالية في الحكومة المؤقتة محمد أبازيد شطب أكثر من 300 ألف موظف حكومي لأسباب مختلفة، وهذا الأمر بدأ يثير قلقاً لدى الرأي العام، لجهة نية الحكومة القيام بدور إقصائي لكل موظف يتم اعتباره محسوباً على النظام السابق.
البداية كانت من وزارة الصحة، حيث تم الإعلان عن إعادة هيكلة كاملة، مع إعطاء إجازة لمدة ثلاثة أشهر مدفوعة الراتب لعدد كبير من الموظفين، الأمر الذي رآه أغلب الموظفين مقدمة لتسريحهم بشكل نهائي، كما أكدت مصادر فصل 15% من كوادر وزارة النقل، وكذلك الأمر بالنسبة لكوادر وزارتي الصناعة والتنمية الإدارية، ممن قيل إنهم يتقاضون رواتب ولا يذهبون إلى وظائفهم، فضلاً عن الذين يعملون في غير اختصاصهم.
العاملون في القطاع الصحي ردّوا على القرارات الحكومية من خلال تظاهرة في مدينة طرطوس، أمام مديرية الصحة، طالبت الحكومة بإعادة النظر في قرارها، وإيضاح المعايير التي تم بناءً عليها تقييم هؤلاء الموظفين. وتفيد المعلومات بأن نحو ستة آلاف موظف متضررون من قرارات الحكومة السورية المؤقتة، ويرون في قراراتها أنها تأتي في إطار "الفصل التعسفي" من العمل وتحمل في طياتها أهدافاً غير معلنة، وأظهرت بعض اللقطات المصورة من طرطوس متظاهرين يفترشون الأرض، ويقولون: "بدنا ناكل.. بدنا نعيش".
تظاهرات طرطوس سبقتها احتجاجات في درعا، تنديداً بفصل نحو 700 موظف في مديرية الصحة التابعة للمحافظة، وحمل المتظاهرون لافتات مكتوب عليها: "لا للقرارات الجائرة بحق الموظفين الذين مازالوا على رأس عملهم" و"قطع الأعناق لا قطع الأرزاق".
احتجاجات درعا جاءت بعد طلب وزارة الصحة السورية من مديريتها في درعا إعداد دراسة بالأعداد الفعلية للعاملين، بحيث يتم حذف المعارين والمنتدبين والمكلفين في جهات أخرى خارج المديرية.
وأشارت المعلومات إلى أن عدد العاملين الفعليين وصل بعد إجراء الدراسة إلى 1781 موظفاً، لكن الوزارة طالبت بتخفيض العدد إلى 900 موظف، "وهو ما لا يكفي" للوفاء بالأعمال في الجهات التابعة للمديرية في درعا، والتي تتضمن 91 مركزاً صحياً، وثلاثة مجمعات طبية، وستة مستشفيات إلى جانب المقر المركزي للمديرية، كما أن الجهات الطبية تعاني بالفعل من قبل تلك القرارات من نقص في الكوادر البشرية، وأن الموظفين يعملون بالطاقة الكاملة من أجل توفير الخدمات للمواطنين.
وتتصاعد أيضاً مشكلة رواتب عناصر الجيش السوري السابق، حيث تتحدث بعض الإحصائيات عن وجود أكثر من 400 ألف منتسب للقطاع العسكري ما بين جنود عاملين واحتياطيين وعقود، وهؤلاء لا يعلمون حتى اللحظة كيف سينتهي الحال بهم.
وبحسب وكالة رويترز فإن الحكومة السورية المؤقتة تريد إجراء تقييماً شاملاً لما يصل إلى 1.3 مليون موظف مسجل في القطاع العام "بهدف حذف أسماء موظفين وهميين من كشوف الرواتب"، بالتوازي مع نية الحكومة رفع الرواتب بنسبة 400% للموظفين الحكوميين، مع وضع استثناءات عديدة لا تشملها الزيادة المرتقبة وهو ما زاد القلق لدى الرأي العام.
وتقدر تكلفة تلك الزيادة في الرواتب بنحو 1.65 تريليون ليرة سورية (ما يعادل نحو 127 مليون دولار)، سيتم تمويلها من خزانة الدولة، بالإضافة إلى مساعدات إقليمية واستثمارات جديدة، إلى جانب التعويل على فك تجميد الأصول السورية الموجودة حالياً في الخارج.
في المقابل، يؤكد كثيرون أنّ خطوة الحكومة المؤقتة بالأصل غير قانونية كونها حكومة "تسيير أعمال"، ولا تملك الصلاحيات للقيام بخطوات مماثلة، وإنما يقتصر دورها على متابعة العمل في القطاعات المختلفة إلى حين تشكيل حكومة دائمة، من دون اتخاذ قرارات استراتيجية أو سن قوانين أساسية.
بطالة متزايدة وركود في الأسواق
لم تخفِ تقديرات الأمم المتحدة عن معدلات الفقر في سوريا حجم المأساة التي يعيشها السوريون منذ سنوات، حيث تؤكد الإحصاءات أن 90% من السكان يعيشون تحت خط الفقر، في ظل صعوبة الحصول على أدنى مقومات الحياة البسيطة وحاجتهم الملحّة للحصول على مساعدات عاجلة، ورفع العقوبات الاقتصادية الغربية التي تمنع إنعاش الاقتصاد وانطلاق عجلة إعادة الإعمار.
أمام هذا الواقع، تأتي خطوة الحكومة المؤقتة بفصل الآلاف من الموظفين الحكوميين لترخي بظلالها على المشهد العام في البلاد، وتزيد من حِدة المعاناة التي يعيشها السوريون، وهو الأمر الذي يهدد أيضاً بتفاقم معدلات البطالة ووصولها إلى مستويات خطيرة، بما ينذر بكارثة اجتماعية ومعيشية جديدة على السوريين.
في أسواق دمشق، بدأت ملامح الفقر تظهر على وجوه السوريين، فعلى الرغم من انخفاض أسعار معظم السلع الغذائية والاستهلاكية والخضار والفواكه، إلا أن ذلك يترافق مع تدني القدرة الشرائية لمعظم السوريين إلى مستويات كبيرة، كما أن الأسواق تشهد حالة متفاقمة من الركود، يقابلها وجوه مُتعبة وعقول حائرة تنتظر الحلول لمعاناتهم المستمرة.
وفي هذا السياق يؤكد الخبير الاقتصادي محمود ويس للميادين نت أن خطوة تسريح 300 ألف موظف من القطاع العام سيقابلها تدهور حتمي في الواقع المعيشي داخل سوريا، فالدولة بحاجة إلى تأمين فرص عمل جديدة وليس إلى زيادة معدلات البطالة، التي تفاقمت أصلاً بعد سقوط نظام بشار الأسد، نتيجة توقف العديد من الشركات التجارية المحسوبة على رجال أعمال سابقين عن العمل.
ورأى ويس أن الانفتاح الاقتصادي الواسع على سوريا حالياً يجب استثماره للبدء بمرحلة إعادة الإعمار وإطلاق مشاريع إنتاجية ضخمة تكون كفيلة بتأمين آلاف فرص العمل للشباب السوري، مع ضرورة الاستفادة من الخبرات السورية المقبلة من الخارج لدمجها في السوق المحلية، عبر وضع خطط اقتصادية نوعية قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد، لإخراج الاقتصاد السوري من حالة السُبات التي يعيشها منذ سنوات.
تبريرات حكومية
تقول الحكومة المؤقتة في سوريا إنها ورثت من النظام السابق مؤسسات حكومية فاسدة غير رابحة، في حين أن متوسط الرواتب يتراوح بين 20 و25 دولاراً فقط، وأن غالبية الشعب السوري تحت خط الفقر، لذلك فإن الحكومة تسعى لإعادة الهيكلة الوظيفية لمعالجة الترهل في المؤسسات الحكومية.
وفي هذا السياق، اتهم وزير المالية السوري محمد أبازيد النظام السابق بالتعامل بالفساد والمحسوبية في تعيين الموظفين، وكشف أن بعضهم كان مسجلاً على الورق فقط لأخذ الراتب بدون عمل.
وبشأن الديون، قال الوزير إن ديون سوريا الخارجية تتراوح بين 20 و23 مليار دولار، إضافة إلى مليارات الديون المحلية، مشيراً إلى أن نظام الأسد لم تكن لديه أي سجلات يمكن العودة إليها.
وأكد أبازيد أن "الحكومة المؤقتة لا تملك عصا سحرية لحل مشكلات سوريا الاقتصادية، حيث أن 70% من الشركات والمؤسسات الحكومية خاسرة، وستعمل الحكومة على إعادة النظر في هذه الشركات، وسيتم إغلاق الشركات التي لا جدوى اقتصادية منها أو سيتم خصخصتها".