بين ضربات تركيا وعجز "قسد".. الانهيار الاقتصادي يعصف بشمال شرق سوريا
بين الهجمات التركية المتلاحقة والانهيار الاقتصادي المتواصل في مناطق سيطرة "قسد"، يبقى المدنيون هم الضحية الأبرز للصراع المتفاقم بين تركيا والفصائل الكردية.
يواجه الفلاح خورشيد محمد (59 عاماً) من أهالي بلدة عامودا بريف القامشلي في أقصى شمال شرق سوريا خطر فقدان محصوله الزراعي هذا العام، نتيجة عدم توّفر مادة المازوت اللازم لتشغيل الآلات الزراعية، حيث قلّصت "قوات سوريا الديمقراطية - قسد" قبل أسابيع كميات المشتقات النفطية الموزعة للفلاحين، بحجة عدم توفر المادة لديها، على الرغم من أن المنطقة تعتبر خزاناً استراتيجياً للنفط والغاز، وتضم أكبر الحقول في سوريا، لكن المشكلة الأكبر التي ترعب الأهالي هذه الأيام هي عملية القصف الجوي التي نفّذها الجيش التركي مؤخراً على شمال شرق سوريا، واستهدفت البنى التحتية والمنشآت الاقتصادية، وسط مخاوف شعبية من أن تؤدي هذه العملية لتقليص إضافي في المشتقات النفطية، ما سيفاقم الأوضاع الاقتصادية على المدنيين في المنطقة.
يقول محمد للميادين نت: "قبل عام شنّت تركيا غارات مماثلة على المنطقة وبدل أن تتضرر قوات سوريا الديمقراطية، وقع الضرر على المزارعين والمدنيين في المنطقة، حيث اختفت المشتقات النفطية من الأسواق، وفرضت قسد تقنيناً كهربائياً قاسياً على المنطقة، بينما تضاعفت أسعار المواد الأولية والمواد الغذائية والاستهلاكية في مدن وبلدات الجزيرة السورية".
ويضيف محمد: "منذ سنوات نواجه في عامودا خطراً ثنائياً؛ الأول من قوات سوريا الديمقراطية التي تفرض إجراءات قمعية على الأهالي، وتفرض أتاوات مالية كبيرة على الفلاحين والتجار، والخطر الثاني هو الجندرما التركية (قوات حرس الحدود) التي تعتدي بشكلٍ مستمر على المزارعين في الأراضي الموجودة عند الشريط الحدودي، لتأتي عمليات الجيش التركي الجوية وتضيف مشكلة جوهرية إضافية على الأهالي".
أكثر من 1000 غارة استهدفت النفط والكهرباء
منذ فجر الأربعاء 23 تشرين الأول/ أكتوبر عمد الجيش التركي إلى شن سلسلة من الهجمات الكثيفة على مواقع في شمال شرق سوريا وتحديداً في أرياف الحسكة والقامشلي والرقة، حيث تركزت الغارات على البنى التحتية والمنشأت الحيوية والمراكز الخدمية، وتشير المعلومات إلى أن عدد الغارات بلغ 1031 غارة.
وركزت الهجمات التركية الأخيرة على قطاعين رئيسيين:
- القطاع النفطي: استهدفت الغارات التركية محطة تل عدس النفطية بمنطقة رميلان والتي تضم خزانات كبيرة لتجميع النفط الخام، ومحطة السويدية، ومحطة طفلة لتجميع وتحويل النفط، ومحطة السعيدية بريف المالكية، ومعمل غاز السويدية، ومحطة عودة وسعيدة بريف القحطانية، ومحطة باباسي للنفط شمال القحطانية، ومحطة البترول الثالثة، ومحطات تجميع الوقود وتكرير النفط في حقل رميلان، إضافة إلى مركز توزيع المحروقات "سادكوب" بحي قناة السويس في القامشلي، ومصفاة نفط بقرية بيازي بريف القحطانية، حيث تعرّض كل موقع لأكثر من خمس غارات تركية ما أدى لخروج معظمها من الخدمة.
- القطاع الكهربائي: طالت الغارات التركية محطة كهرباء مدينة عامودا التي تغذي المدينة وريفها بريف القامشلي، ومحطة كهرباء شمال القامشلي، ومحطة كهرباء عين العرب بريف حلب، علماً أن جميع هذه المحطات تعرّضت لهجمات تركية مشابهة ولم تتم صيانتها، وهو ما أدى إلى عمليات تقنين كهربائي في عموم مناطق شمال شرق سوريا.
كما استهدف الطيران التركي أهدافاً أخرى كصوامع الحبوب في القامشلي وعين عيسى وعين العرب، والفرن الآلي في مدينة عامودا، وأبراج الاتصالات بالدرباسية، والمصرف الزراعي في بلدة تل تمر، ومعمل أجبان وألبان في مدينة المالكية.
سلسلة الغارات التركية الواسعة شمال شرق سوريا جاءت بعد هجوم استهدف شركة صناعات الطيران والفضاء في العاصمة التركية أنقرة من قبل مسلحين مجهولين، ما أدى إلى مقتل 5 أشخاص وإصابة 22 آخرين، لتسارع أنقرة إلى اتهام حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه الحكومة التركية على أنه منظمة إرهابية بالمسؤولية عن الهجوم.
وبرغم نفي الحزب مسؤوليته عن الحادثة إلا أن تركيا استخدمت الهجوم كذريعة لشن عملية عسكرية جوية ضد مواقع الكرد شمال شرق سوريا، لكن المتضرر الأول من هذه العملية كان المدنيون.
ضغط لتحريض المدنيين
في العام 2019 سيطرت القوات التركية على منطقة رأس العين شمال غرب الحسكة حيث توجد محطة "علوك" للمياه والتي تغذّي أكثر من مليون إنسان في الجزيرة السورية، لتكون هذه المحطة ورقة ضغط تركية على المدنيين و"قسد" في المنطقة، ولطالما عمدت القوات التركية إلى قطع المياه عن الأهالي لأيام وأسابيع بغية ممارسة الضغط السياسي على قوات سوريا الديمقراطية.
لكن، ومنذ أواخر عام 2022 اتبع الأتراك سياسة جديدة في التعامل مع مناطق سيطرة "قسد" شمال شرق سوريا، من خلال استهداف المنشآت الاقتصادية الحيوية التي تشكّل شريان الحياة لقوات سوريا الديمقراطية ومصدر دخلها الرئيسي، حيث تسيطر "القوات" على نحو 70 بالمئة من حقول النفط والغاز في سوريا، لذلك سعت أنقرة إلى تجفيف منابع التمويل الخاصّة بالكرد، فكانت الضربات تركّز على البنى التحتية بهدف التضييق على المدنيين ودفعهم للخروج ضد "قسد".
أبرز العمليات التركية على مواقع "قسد" كان الهجوم الذي شنّه الجيش التركي في نهاية العام الماضي واستهدف فيه 85 هدفاً خدمياً دمّر خلالها 15 محطة نفطية في الجزيرة السورية، إضافة إلى 8 محطات كهربائية، وقالت "قسد" حينها إن الأضرار التي خلّفتها الهجمات التركية بلغت نحو مليار دولار أميركي.
"قسد لن تخسر بهذه الطريقة؛ الخاسر هم الأهالي الذين لا حول لهم ولا قوّة"، يقول بشير المحيمد (34 عاماً) من أهالي مدينة القامشلي للميادين نت، ويتابع: "قسد لم تتأثر سابقاً بالضربات التركية على المناطق الحيوية، فهي تستأثر بالثروات وحقول والنفط والغاز، وتحقق أرباحاً خيالية من بيع المشتقات النفطية أو تهريبها بالتعاون مع القوات الأمريكية إلى خارج سوريا، لكنها بالمقابل تفرض تقشّفاً شديداً على المدنيين في المناطق الخاضعة لسيطرتها".
ويضيف المحيمد الذي يعمل مدرّس لمادة الرياضيات في مدرسة القامشلي: "مع بدء الضربات التركية ارتفعت أسعار مختلف أنواع المواد الغذائية في الأسواق، كما ارتفعت أسعار المشتقات النفطية إلى مستويات غير مسبوقة، حيث ارتفع سعر أسطوانة الغاز المنزلي من 115 ألف ليرة سورية (13 دولار أميركي) إلى 350 ألف ليرة، بينما شهدت محطات الوقود ازدحاماً كبيراً للسيارات التي تنتظر لساعات من أجل الحصول على الوقود، وفي كثير من الأحيان لا تحصل على مبتغاها نتيجة عدم توّفر المادة في المحطات، في حين شهدت أسعار الخضار والفواكه ارتفاعاً جنونياً بشكلٍ لا يتناسب مع قدرة الأهالي، الذين يعانون أصلاً من تدني الأوضاع المعيشية في ظل حالة الانهيار الاقتصادي الذي تشهده مناطق سيطرة قسد منذ أشهر".
"قسد" تستغل الغارات
بعد انتهاء العملية العسكرية الجوية التركية الأخيرة شمال شرق سوريا، أعلنت "الإدارة الذاتية" التابعة لقوات سوريا الديمقراطية أن أضراراً كبيرة لحقت بحقول النفط والغاز ومحطات توليد الطاقة الكهربائية، وعليه قررت "الإدارة" إيقاف توزيع أسطوانات الغاز المنزلي للمدنيين، وإيقاف توزيع المازوت الخاص بالتدفئة، وتخفيض كميات الوقود التي ستوزع لمولدات الطاقة الكهربائية المنتشرة في المدن والتجمعات السكانية، وأيضاً تخفيض كميات المشتقات النفطية الخاصّة بالمواصلات والمخابز الأساسية في عموم شمال شرق سوريا، وهذا الأمر من شأنه أن يفاقم معاناة الأهالي مع دخول اقتراب الشتاء وانخفاض درجات الحرارة.
هذه الإجراءات ليست الأولى من نوعها، حيث عمدت "الإدارة الذاتية" العام الماضي إلى اتخاذ إجراءات مماثلة عقب الغارات التركية التي استهدفت منشآت النفط والغاز ومحطات الكهرباء في المنطقة، ويرى مراقبون أن "قوات سوريا الديمقراطية" تعمل على استغلال الضربات التركية لتبرير حالة الانهيار الاقتصادي الحاصل في شمال شرق سوريا، وفشلها في إيجاد الحلول للمشاكل الخدمية المتفاقمة.
وبين الهجمات التركية المتلاحقة والانهيار الاقتصادي المتواصل في مناطق سيطرة "قسد"، يبقى المدنيون هم الضحية الأبرز للصراع المتفاقم بين تركيا والفصائل الكردية، فهم يعيشون حالة من الرعب الدائم في أيّ صراع عسكري بين الطرفين، وهنا تبرز الحاجة إلى عودة سيطرة الحكومة السورية على منطقة شرق الفرات وانتشار الجيش السوري فيها لإنهاء الذرائع التركية بالاعتداء على البُنى التحتية في المنطقة التي تعد رافداً اقتصادياً وزراعياً وبشرياً للدولة السورية.