بحرينيون مسقطة عنهم جنسيتهم يقلّبون صور الوطن والأبناء في بلاد أُبعدوا إليها

طفرة كبيرة في إسقاط الجنسيات شهدتها البحرين بين عامي 2012 و2019، الذين تحوّلوا بين ليلة وضحاها إلى غرباء عن الوطن، بموجب تهم سياسية.

  • بحرينيون مسقطة عنهم جنسيتهم يقلّبون صور الوطن والأبناء في بلاد مبعدون إليها
    بحرينيون مسقطة عنهم جنسيتهم يقلّبون صور الوطن والأبناء في بلاد مبعدون إليها

يقلّب المواطن البحريني، المسقطة جنسيّته، حسين خير الله محمّد، عدداً من الصور في هاتفه. يُطلعنا على إحداها بحرقة، ويسألنا عمّا إذا كان من العدل أن يغفو طفل في حضن أبيه مساءً، ويصحو صباحاً محتضناً وسادةً تم إلباسها قميص والده. مشهد لربّما يختصر واقع أُسَر بحرينية بأكملها، لا تزال تعاني من جرّاء تداعيات إسقاط جنسيّة معيليها، الذين تحوّلوا بين ليلة وضحاها إلى غرباء عن الوطن، بموجب تهم سياسية.

ترحيل قسري.. وعائلة بلا معيل

طفرة كبيرة في إسقاط الجنسيات شهدتها البحرين بين عامي 2012 و2019، مع تجريد 985 مواطناً من جنسيتهم بصورة تعسفية، بناءً على قرار من المحكمة، أو بأمر ملكي أو وزاري، قبل أن يتناقص العدد لاحقاً إلى 434 في ضوء أمر من ملك البحرين، في 21 نيسان/أبريل 2019، يقضي بتثبيت جنسية 551 فرداً.

عدد كبير من هؤلاء يتبلّغ بالصدفة أنه "لم يعد مواطناً"، بعد معاينته قوائم المسقطة جنسيتهم، والتي ترد في الجريدة الرسمية، وهذا تماماً ما حدث مع حسين خير الله محمد، الذي أكد للميادين نت أنه تفاجأ بالقرار، وأن المحامي الخاص به عمل على متابعة الموضوع في أروقة المحاكم من دون أن يصل إلى نتيجة، ليتم استدعاؤه بعد عامين بصورة مفاجئة، في ساعة متأخرة من اليوم، بذريعة التوقيع على تعهد، ليتبيّن لاحقاً أن الأمر مجرد مكيدة، ويقول: "عند وصولي، تم إغلاق كل الأبواب، وقرّروا ترحيلي بصورة مفاجئة من دون أن يتم تمكيني من وداع عائلتي وأهلي وأولادي". وأكد أن خيارات دول الترحيل كانت محدودة، إمّا العراق وإمّا لبنان، ويقول: "رفضت الوجهتين، وأبديت استعدادي لإمضاء حياتي في السجن، أو حتى مواجهة حكم الإعدام في البحرين، إذا ثبتت الإتهامات ضدي، لكن طلبي تم رفضه. وجاء شخص من العائلة الحاكمة، يقول لي، بكل صراحة، إن ملك البحرين لا يرغب في بقائك هنا. وتم ترحيلي بالإكراه إلى لبنان". 

حسين، الذي يعيش اليوم في لبنان كلاجئ مسجّل في الأمم المتحدة، يؤكد أن تداعيات إسقاط جنسيته انعكست على عائلته في الداخل البحريني، وهو الأب لـ 4 أطفال فقدوا معيلهم بين ليلة وضحاها، إذ تم تصفير حساباته المصرفية، وشُطب اسمه من كل القوائم الرسمية، كأنه لم يُولد بعد، الأمر الذي استدعى من العائلة المباشرة في تأسيس حياة أخرى من الصفر، بلا حقوق أو علاوات أو امتيازات. 

طفل من دون كيان قانوني

على رغم أن الفقرة "ب" من المادة الـ20 من الدستور البحريني، وتحديداً في "باب الحقوق والواجبات العامة"، تنص على مبدأ شخصية العقوبة، فإن هذا المبدأ يسقط عندما يتعلّق الأمر بعوائل المسقطة جنسيتهم، مع امتداد أثر هذه العقوبة إلى جميع أفراد العائلة، وبلوغه مستويات لا مثيل لها في الدول الأخرى.

وفي هذا الصدد، يبيّن المستشار القانوني إبراهيم سرحان للميادين نت أن إسقاط الجنسية عقوبة منصوص عليها في الدستور، لكنها محصورة جداً في تهمة الخيانة. وهي ليست عقوبة سياسية، أو إحدى العقوبات الجنائية في القانون الخاص أو القانون العام، مضيفاً: "إن سلّمنا جدلاً وطُبِّقت على المعارضين، فيجب أن يكون هناك حدود وفق المبادئ المنصوص عليها في الفقه الجنائي، والتي حدّدها في إطار أن العقوبة شخصية، وهذه النقطة أيضاً منصوص عليها في الدستور، بمعنى أنها لا تتعدى الشخص المنَفَّذة بحقّه العقوبة مهما تكن درجة القرابة، وتحت أي ذريعة".

أمّا في الواقع، وعلى الأرض، فيبدو أن النص الدستوري لا يُطبَّق، ومعاناة عائلة المواطن البحريني، السيد قاسم مجيد رمضان علوي، الذي جُرِّد من جنسيته في عام 2015، ويعيش حالياً خارج البحرين، نموذج حيّ عن ذلك. فلدى العائلة طفل يُدعى سيد علي، وُلد في عام 2016، ولا يزال حتى اليوم بلا جنسية، باعتبار أن القانون البحريني ينص على أن الجنسية تُمنَح لطفل من أب بحريني وقت الولادة.

وتؤكد والدة الطفل، المحامية البحرينية بلقيس المنامي، للميادين نت،  أنه يعاني ضرراً نفسياً جسيماً، وخصوصاً أنه يلاحظ الفوارق الموجودة بينه وبين شقيقته (9 أعوام)، التي تملك الجنسية البحرينية، وتتمتع بحقوق المواطنة، ولديها حساب مصرفي، ولا تواجه أي عراقيل أو صعوبات عند تسجيلها في المدرسة. وتقول: "حاولت، عبر كل الوسائل، خلال الأعوام الـ 6 التي مرّت، أن أحصّل لولدي على جنسية، من دون أن أتمكن من ذلك. فهو لا يملك أيّ أوراق ثبوتية - باستثناء وثيقة الولادة - الأمر الذي يجعله يواجه كثيراً من العقبات، سواء عند التحاقه بالمدرسة، بسبب عدم حيازته بطاقة شخصية أو جواز سفر، أو عند مرضه وصرف الأدوية الخاصة به (إلاّ نادراً)، باعتبار أن هذه الخطوة تحتاج إلى البطاقة الذكية التي لا يملكها أساساً".

لكنّ المأساة الكبرى، بحسب الأم، تتمثّل بتمكّن الطفل سيد علي من لقاء والده الموجود خارج البحرين، في شهر آب/أغسطس الماضي، لمدة 25 يوماً، للمرة الأولى منذ ولادته، بعد حصوله على وثيقة سفر موقتة، تم سحبها بصورة مباشرة منه فور العودة إلى البلاد. بحرقة كبرى تقول الوالدة، الضالعة في القانون ومهنة المحاماة، إن الحياة بلا أوراق ثبوتية تحوّل المواطن إلى شخص منعدم الكيان القانوني، ولا وجود له. وتعرّج إلى كثير من التداعيات التي أصابت الأسرة من جرّاء إسقاط جنسيّة معيلها، وتقول: "تم إلغاء طلبنا الإسكاني، وعلاوة الغلاء والإسكان. وكل الحقوق ،التي يحصل عليها المواطن والأسرة البحرينيان، نُحرَم نحن منها بسبب إسقاط جنسية معيل الأسرة".

من جهته، يقف مدير العمليات لدى المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أنس جرجاوي، في حديث إلى الميادين نت، عند الشكل العام لسياسة إسقاط الجنسية في البحرين، ويرى أن السلطات استخدمت هذه الورقة بصورة تعسفية وعلى نحو واسع، من أجل معاقبة المعارضين. وطوّعت، في سبيل تحقيق ذلك، القوانينَ ذات الصلة، ولاسيما التعديلات التي أدخلتها عام 2014 على قانون الجنسية، والتي سمحت بسحب الجنسية من المواطنين بناءً على معايير فضفاضة وواسعة، مثل الإضرار بمصالح المملكة، أو التصرف على نحو يناقض الولاء لها.

ويؤكد جرجاوي للميادين نت أن "هذه الممارسة الخطيرة لا تتوقف آثارها على الأشخاص الذين سُحبت جنسيتهم، بل تمتدّ إلى حرمان أطفالهم - الذين يُولدون بعد سحب الجنسية - من حقوق المواطنة المكتسَبة. ويؤدي ذلك بالضرورة إلى الإضرار بحياتهم، على نحو كبير، فهم لا يُمنحون الوثائق الرسمية، بما في ذلك بطاقة الهوية، ولا يحصلون سوى على شهادة ميلاد، الأمر الذي يُعقّد حصولهم على حقوقهم الأساسية في التعليم والصحة والخدمات المتعددة".

وبناءً على ذلك، يشدّد جرجاوي على أن سياسة إسقاط الجنسيات تُعَدّ انتهاكاً واضحاً لالتزامات البحرين بموجب القوانين والمعاهدات الدولية ذات العلاقة، وخصوصاً المادة الـ15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمعايير الدولية المتعلقة بتجنب حالات انعدام الجنسية، وحظر التمييز، وحظر الحرمان التعسفي من الجنسية، وغيرها من اعتبارات حقوق الإنسان، والتي يجب أن تُؤخذ في الاعتبار عند إسقاط الجنسية.

صحافيون ضحايا

تشير رابطة الصحافة البحرينية، في تقرير نشرته في 28 أيلول/سبتمبر مؤخراً، إلى أن عام 2015 سجّل أكبر حملة تطويق ومواجهة للصحافة والصحافيين في البحرين، مع استهداف السلطات أربعة من الصحافيين والناشطين في ملف الدفاع عن الحريات العامة، الذين تم إسقاط جنسيتهم بموجب مرسوم ملكي.

وبحسب إحصاءات الرابطة، تعرّض 7 صحافيين، منذ عام 2011، إلى سحب جنسيتهم وإسقاطها، يُمضي ثلاثة منهم عقوبات بالسَّجن، ويعيش 4 آخرون في المنفى، وهم علي الديري وعباس بو صفوان وحسين يوسف وعلي عبد الإمام، في حين أدّت هذه العقوبة إلى امتناع أغلبية الصحافيين، وخصوصاً المعارضين، عن نقل الأخبار والمعلومات والتعبير عن آرائهم بحرية، ونشر التقارير والحقائق التي تتناول الشأن السياسي، أو قضايا الرأي العام.

وفي تصريح للميادين نت، يقول رئيس الرابطة عادل المرزوق إن "إسقاط الجنسية عن الصحافيين الأربعة كان بمثابة عملية قتل معنوي لهم ولأُسرهم. وهذا الأمر هو، بلا شك، مخالفة صريحة لأحكام الدستور، وما كان يجب لمثل تلك القرارات أن تصدر، لا بحق الصحافيين ولا غيرهم من الناشطين الحقوقيين والسياسيين"، مؤكداً أن "الأضرار المعنوية والمادية تتراكم وتزداد على هؤلاء الزملاء منذ أعوام. وإذا كان حصر الأضرار المادية ممكناً، فمن الصعب تقدير حجم ما خلّفه قرار سحب الجنسية، من آثار نفسية مدمّرة لهم ولأُسرهم، فهم يعيشون داخل متاهة نفسية، لا يمكن تقدير مدى قسوتها وفظاعة البقاء فيها".

ويرى المرزوق أن إنصاف هؤلاء الصحافيين الأربعة، وردّ اعتبارهم، تأخّرا كثيراً. كما أن الدولة، في مختلف مستويات صُنّاع القرار فيها، مسؤولة عن إعادة الجنسية إليهم وتعويضهم، و"الحكومة الجديدة، برئاسة ولي العهد، مُطالبة بالالتفات إلى هذه القضية، حتى تثبت جديتها واهتمامها بملف حقوق الإنسان، وتعزيز الحريات الصحافية وحرية الرأي والتعبير في البحرين".

سياسات تغريب المواطن

تحوُّل المواطن، بين ليلة وضحاها، إلى غريب عن الأرض التي تربّى فيها أجداده وجذوره، واقع يؤلم جميع ضحايا إسقاط الجنسية في البحرين، بحيث يتم شطبهم من جميع سجلات الدولة، وحرمانهم من ممارسة حقوقهم المدنية والسياسية، وأيضاً من حقوقهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، بينما يواجه معظم من كانوا في البحرين، وقتَ سحب جنسيتهم، المحاكمةَ بسبب إقامتهم بالبلاد بصورة "غير قانونية"، ليتم ترحيلهم في نهاية المطاف.

وفي هذا الصدد، تشير الناشطة الحقوقية والاجتماعية، إبتسام الصائغ، للميادين نت، إلى أن هؤلاء يواجهون مشاكل كبيرة، كفقدانهم الحق في العلاج، والحق في السفر والتنقّل، أو الحق في المشاركة في التصويت في الانتخابات، وسقوط حقهم في التأمين الاجتماعي والراتب التقاعدي، بالإضافة إلى تجميد أصولهم وأموالهم بعد تحوّلهم إلى أشخاص عديمي الجنسية، "كأن هناك ضغطاً جديداً من أجل إجبارهم على مغادرة الأرض والانتقال إلى أي دولة ثانية. ومن المعيب أن يتحول مواطن بحريني، عمل واجتهد وأسس عائلة في بلده، في لحظة، إلى شخص غريب في وطنه".

 لكنّ الغربة القسرية هذه عن الوطن لن تطول، فالارتباط بالأرض مقدّس، والهوية تسري في عروق المواطنين، الذين، على الرغم من إسقاط جنسيتهم، لا تزال عيونهم شاخصة إلى البحرين، متيقنين بأنهم سيعودون إليها يوماً ما، من تحت ركام الإعدام المعنوي.