البناء الطيني في الجزيرة السورية.. عودة تفرضها الظروف الاقتصادية
ارتفعت أسعار مواد البناء في سوريا بشكلٍ جنوني، وخاصّة المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية شمال شرق البلاد، حيث تضاعفت أسعار الإسمنت والحديد والرمل والبلوك والدهان أكثر من مرة، وأمام هذا الواقع وجد الأهالي أنفسهم مضطرين للعودة إلى البناء الطيني.
يرتبط وجود العمارة الطينية في الجزيرة السورية خلال العصر الحديث، ببدء نشوء المدن والتجمعات السكانية الكُبرى، والتي كانت نتيجة حتمية لتحول السكان في المناطق الريفية من حياة البداوة والتنقل المستمر إلى الاستقرار المعيشي والزراعي، ويعد مطلع القرن الماضي هو الحقبة الزمنية التي نشطت فيها هذه العمارة شمال شرق سوريا.
وأمام التحول الكبير في نمط معيشة السكان آنذاك، كان لا بدّ لهم من البحث عن مواد لصنع أماكن سكن تؤمن لهم الاستقرار الدائم، فكانت المادة الأولية المستعملة هي التراب، ليتم مزجه بالماء وبعض المخلّفات الزراعية، فيتحول إلى "طين" أو ما يُعرَف باسم "اللِبن"، وهي المادة الأساسية اللازمة لصناعة البيت الريفي وملحقاته.
وللدقة التاريخية، فإن الجزيرة السورية عرفت البناء الطيني قبل تلك الحقبة بكثير، حيث يؤكد الباحث التراثي خلدون عطا الله للميادين نت أن البحوث الأثرية وبقايا التلال الأثرية المكتشفة حديثاً، دلّت على أن أهل المنطقة بنوا بيوتهم وقصور ملوكهم من الطين قبل آلاف السنين، ويكاد لا يخلو تل أثري في تلال الجزيرة السورية من المنازل الطينية، التي حرصت البعثات الأثرية السورية والأجنبية على كشف معالمها قبل الحرب على سوريا، وكشفت الدراسات بحسب عطا الله أنها تعود للألف الثاني قبل الميلاد لحضارات قديمة كالآشورية والأكادية، وصولاً إلى الحضارات العربية الإسلامية بعصورها المختلفة.
ويضيف عطا الله: "بقيت البيوت الطينية أمراً واقعاً في الجزيرة السورية طيلة السنوات الممتدة منذ مطلع القرن الماضي حتى نهاية التسعينيات من القرن نفسه، حيث سيطر البناء الطيني على العمران في أرياف الجزيرة، ولكن مع مطلع الألفية الجديدة وانتشار مادة الإسمنت والحديد المسلّح وتوفرهما بأسعار رخيصة نسبياً، توجه الأهالي نحو البناء الحديث، واستمرت النهضة العمرانية حتى بداية الحرب على سوريا".
الحرب تعيد البيوت الطينية مجدداً
منطقة الجزيرة السورية، تضم محافظات دير الزور، الرقة والحسكة شمال وشمال شرق سوريا، وتشكّل سهباً زراعياً فسيحاً، يمتد لأكثر من 50 ألف كيلو متر مربع، وهي منطقة غنية بالثروة الزراعية والحيوانية، حيث أُطلق عليها "سلّة سوريا الغذائية"، إضافة إلى وجود أبرز وأكبر حقول النفط والغاز، لكنها تقع بمعظمها اليوم تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، والقوات الأميركية التي تتواجد قواعدها داخل وقرب حقول النفط السورية في منطقة الجزيرة.
خلال السنوات الأخيرة ارتفعت أسعار مواد البناء في سوريا بشكلٍ جنوني، وخاصّة المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية شمال شرق البلاد، حيث تضاعفت أسعار الإسمنت والحديد والرمل والبلوك والدهان أكثر من مرة، وترافق ذلك مع تدهور الثروة الحيوانية، وانهيار الواقع الزراعي الذي يشكّل البنية الأساسية في الجزيرة السورية، وأمام هذا الواقع وجد الأهالي أنفسهم مضطرين للعودة إلى البناء الطيني مجدداً.
حامد العكيدي من أهالي منطقة الشدادي في ريف الحسكة الجنوبي، يقول للميادين نت: "مع بداية المعارك في الشدادي اضطررت للنزوح مع عائلتي نحو الحسكة، وعند تحسّن الأوضاع الأمنية عُدنا إلى المنطقة، لكن منزلنا كان مدمّراً بشكل كامل، ولم نملك القدرة المادية لإعادة بناء منزل إسمنتي حديث مجدداً، لذلك كان الخيار الوحيد المُتاح أمامنا هو بناء بيت طيني".
ويضيف العكيدي: "بالرغم من أن تكلفة البيت الطيني منخفضة إلا أنّ عمليات الترميم المستمرة في كل عام تشكّل عبئاً مادياً كبيراً على الأهالي، خاصّة خلال فصل الشتاء عند هطول الأمطار بغزارة".
تقارب قيمة بناء منزل حديث من البلوك والإسمنت والحديد نحو 7000 دولار في مناطق الجزيرة السورية، بينما ينخفض المبلغ إلى نحو 1000 دولار إذا قام أصحاب البيت بصناعة اللِبن بأنفسهم وبناء البيت بأيديهم، وهذا ما يفسّر لجوء المدنيين إلى البيوت الطينية بكثافة خلال السنوات الماضية.
وهناك عوامل إضافية دفعت الأهالي في الجزيرة السورية للعودة إلى البناء الطيني، وهي تراجع الواقع الخدمي في المنطقة، وعدم توفر الكهرباء، والمحروقات اللازمة للتبريد صيفاً والتدفئة شتاءً، فمن المعروف أنّ البناء الطيني عازل جيد للعوامل الجوية، إذ تنخفض فيه درجات الحرارة صيفاً إلى ما دون عشر درجات مقارنة بمنازل الإسمنت، وترتفع بما يقارب ذلك شتاءً.
نظام البيت الطيني
يَستخدِم أهل الجزيرة السورية "اللِبن" كمادة رئيسية لبناء المنازل، وهو تراب نقي مخلوط بالماء، وبكميات قليلة من مادتي "التِبن" و"السفير" التي تَنتُج عن مخلّفات حصاد القمح والشعير، حيث يتم خلطها جيداً، وتُصَب بعد ذلك بقوالب طولها يقارب 100 سم، وبعرض يقارب 50 سم.
وبعد الانتهاء من قطع كميات "اللِبن" المناسبة، تُترك لتجفّ تحت أشعة الشمس عدة أيام، وبعد ذلك يبدأ بناء المنزل تدريجياً من الأساس الذي يجب أن يكون متيناً ومحكماً، لكي يحمل الجدران التي تُبنى أيضاً بدقة وتراعي وجود الأبواب والشبابيك، أما السقف فيتألف من عدة أعمدة خشبية سميكة، غالباً ما تكون من شجر الحور، ويَفصل بين العمود والآخر مسافة 40 سم، حيث يتم تثبيت الأعمدة الخشبية على طرفي الجدران المتقابلة، ويوضع فوقها حصير من مادة النايلون، وفوقها كميات من مادة التِبن والقش بارتفاع نحو 50 سم، وبعد ذلك يتم تغطيتها بطبقة من الطين، الذي يترك ليجفّ حتى يأخذ البيت الطيني شكله المعروف.
فيما بعد، يباشر صاحب المنزل بتركيب الأبواب والشبابيك، التي عادة ما يتم شراؤها من الأسواق، وتكون مصنوعة من الخشب أو من الحديد، وهناك من يدهن المنزل بمادة الجبس الأبيض لكي يعطي الجدران لوناً جميلاً مغايراً للون التربة، وفي الوقت ذاته يحافظ عليها من عملية الحَتْ وتآكل مادة "اللِبن".
في السنوات الأخيرة أصبحت مادة "اللِبن" تُصنع وتُباع من قبل ورشات متخصصة في الأرياف، إذ تَحرص على صناعة كميات كبيرة منها في فصل الصيف، وبيعها لمن يرغب على مدار العام، كما أصبحت العوائل تستأجر بعض العمال المختصين لقطع وتصنيع "اللِبن" وإتمام عملية البناء من دون إجهاد نفسها بذلك مقابل أجر مادي.
أما أحجام الغرف فتختلف بحسب الحاجة والاستخدام؛ الأكبر حجماً تسمى "الديوان" وفيها يتم استقبال الضيوف، وغالباً ما يكون قياسها 10 أمتار طولاً وخمسة أمتار عرضاً، كما يوجد غرف المعيشة التي تكون في الغالب أصغر من "الديوان".
خالد المحمد (52 عاماً) من قرية البعّاجة في ريف الحسكة يعمل في مجال البناء، يقول للميادين نت: "منذ عام 2000 توقف الأهالي بشكل كامل عن بناء البيوت الطينية، وخاصّة فئة الشباب التي بدأت بالتوجه نحو المنازل الإسمنتية الحديثة، لكن بعد مرور بضع سنوات من الحرب عاد الطلب من قبل الأهالي على البيوت الطينية نظراً لتكلفتها المنخفضة، إضافة إلى أن هذه البيوت توفّر المازوت اللازم للتدفئة مقارنة بالبيوت الحديثة التي تستهلك كميات كبيرة، ونظراً لعدم توفر الكهرباء ومازوت التدفئة، ازداد التوجه بين الأهالي نحو العودة إلى البيوت الطينية".
ويكشف المحمد أن 99% من سكان المناطق الريفية في الجزيرة السورية يعتمدون على البيوت الطينية في سكنهم في الوقت الحالي، نظراً لتكلفتها المنخفضة، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن أدوات بناء المنزل تطورت مقارنة بالماضي، وأصبح الزمن اللازم لبنائها أقصر.
سهولة البناء وانخفاض التكلفة
ولعلّ أبرز ما يميّز البيوت الطينية سهولة بنائها، إذ يمكن لأيّ شخصٍ أن يبني بيته بالتعاون مع عائلته أو جيرانه، من دون الحاجة لورشة بناء متخصصة، ناهيك عن توفر مواد البناء بكثافة وقلّة تكاليفها مقارنة بالبيوت الإسمنتية الحديثة، التي تحتاج إلى جهد كبير وورشات عمل متخصصة وإمكانيات مادية مرتفعة.
إضافة إلى ذلك، تتميز البيوت الطينية بأنها لا تؤثر على الأراضي الزراعية التي تُبنى عليها، فعملية البناء لا تحتاج إلى أكثر من 30 سم حفر في الأرض، على عكس البيوت الإسمنتية التي تحتاج إلى حفر عدة أمتار، ووضع أساسات إسمنتية في عمق الأرض، وهذا ما يؤثر سلباً على التربة الزراعية في حال الهدم.
وبعيداً عن العوامل الاقتصادية التي أفرزت الحاجة إلى البيوت الطينية توفيراً للمال، فإن هذه المنازل تشكّل جزءاً من المخزون الاجتماعي والثقافي لأهالي المناطق الريفية في عموم الجزيرة السورية، كونها تعبّر عن ثقافة المجتمع، لذلك تحاول العائلات توريثها من جيل إلى آخر لتكريس الارتباط بالأرض.
وعلى الرغم من التكلفة المادية القليلة التي وفرتها البيوت الطينية على الأهالي في منطقة الجزيرة السورية مقارنة بتكاليف البناء الحديث، إلا أن تلك المنازل لها جوانب سلبية عديدة، فهي لا تقارن من حيث الجودة والتحمل مع منازل الإسمنت الحديثة، وهذا ما يؤكد حاجتها المستمرة للإصلاح والترميم، فاللِبن من المواد التي تتأثر سريعاً بالعوامل الجوية من الرياح القوية والأمطار الغزيرة، مع احتمال تعرّضها للتآكل والتشقق، لذلك تحتاج إلى إجراء صيانة بشكلٍ دوري.
ومن المتعارف عليه في مختلف مناطق الجزيرة السورية، أن العائلات تبدأ خلال شهر أيلول/سبتمبر من كلّ عام بترميم بيوتها الطينية قبل حلول موسم الشتاء وبدء هطول الأمطار، حيث يتم سدّ الشقوق في الجدران، ووضع أغطية بلاستيكية على الأسقف، والتأكد من دعائم المنزل، وتتم عمليات الترميم باستخدام القشّ والتبن والتراب والماء ودعامات من الخشب والقصب.