170 ألف نازحٍ في جباليا أمام فوّهات الموت: عاش المخيّم
في صباح يوم السبت الماضي، تحقق ما كان يخشاه أكثر من 170 ألف نازحٍ في جباليا، ألقت طائرات الاحتلال منشورات ورقيّة طالبت الأهالي بالنزوح إلى مناطق غرب غزة، لأنّ محافظة شمال القطاع وفي القلب منها جباليا، ستتحوّل إلى منطقة قتال خطيرة.
هذه هي المرة الأولى التي أعجز فيها عن ترجمة الشعور الذي تنبئ به ملامح النازحين من مخيم جباليا، ليس الغيظ والقهر والحيرة فقط هو ما كانت تحمله وجوه الراحلين، إنما إحساس ما، يتبادله الأهالي مع المكان الذي بدا وكأنه للمرة الأولى، عاجزاً عن احتضانهم.
حكاية الناس مع المخيم، لم تبدأ في شهور الحرب السبعة، لأن جباليا هي أمُّ كلّ الأحياء العمرانية التي استحدثت بعد نكبة العام 1948، سيحكي لك كل من يسكن في شمال القطاع، شرقاً أو غرباً، في تل الزعتر أو الفالوجا أو الصالحين أو عزبة ملين أو النور أو السكة أو حتى صلاح الدين والشيخ زايد ومشروع بيت لاهيا، أنه كان في يومٍ ما يسكن في واحدٍ من أزقة جباليا، هناك عاش طفولته تحت سقف صفيح واحد مع إخوانه وأبناء عمومته جميعهم، ولمّا كبرت العائلة وتمدّدت، اضطر مرغماً إلى بناء بيت في حيّ نامٍ قريب من جباليا، وبرغم البعد المكاني المحدود، بقي شارع الترنس ومرطبات أبو زيتون ومربع مركز جباليا وعيادة الوكالة ومسجد العودة، مقصده حينما يقرر الخروج مع عائلته بغرض النزهة أو السمر مع أحدٍ من الأقارب والأصدقاء.
ومذ بدأت الحرب، تحوّلت مدارس الوكالة ومرافق المؤسسات الأهلية وبيوت المعارف، إلى خيار النزوح الأول، على الرغم من أن "المعسكر" كما يسمّيه الأهالي محلياً، نال حظاً وافراً من المجازر الجماعية الكبرى، فإنّ الشعور بالأنس والأمان، بقي شعوراً ملازماً لأيام الحرب الطويلة، يمكنك أن تفترض، أن العائدين إلى جباليا من أحياء الطوق الأكثر تمدناً، يعيشون شعور الولد المغترب الذي رجع أخيراً إلى حضن أمه، والذي لا شك، أنه المكان الأدفأ والأكثر أماناً، وإن كانت الأم متعبة ومرهقة ومريضة.
في صباح يوم السبت الماضي، تحقق ما كان يخشاه أكثر من 170 ألف نازحٍ في جباليا، ألقت طائرات الاحتلال منشورات ورقيّة طالبت الأهالي بالنزوح إلى مناطق غرب غزة، لأنّ محافظة شمال القطاع وفي القلب منها جباليا، ستتحوّل إلى منطقة قتال خطيرة. حتى ساعات المساء، كان السواد الأعظم من السكان، يقنعون أنفسهم بأنّ التحذيرات التي تلقوها على هواتفهم المحمولة، ليست سوى جزء من حرب نفسية، هدفها زيادة حالة الإرباك، ومع ساعات مساء اليوم ذاته، تحوّل التهديد إلى واقع، إذ شرعت وسائط المدفعية والطيران الحربي في شنّ غارات هي الأعنف، طاولت المنازل ومراكز الإيواء والطرقات، لتبدأ موجة النزوح الكبرى، الممهورة بالسؤال الذي لا إجابة عنه: "وين نروح؟".
وجد الآلاف أنفسهم في لقاء شخصي مع الموت، اندفعوا والقذائف أعلى رؤوسهم من الأحياء الطرفية إلى قلب المخيم، افترشوا الأرصفة حتى ساعات الفجر الأولى، وهم يمنّون أنفسهم بأن مركز المخيم وقلبه في محيط مسجد العودة المدمر، لن يكون هدفاً في تلك العملية، على أن القصف لم يستثنِ متراً واحداً، وهنا، بدأت حكاية عتب متبادلة بين النازحين والأزقة، فلا المخيم قادرٌ على حمايتهم، ولا هم قادرون بكل تلك السهولة على مغادرته.
قبل خمسة أشهر من اليوم، توغّلت الدبابات الإسرائيلية إلى قلب جباليا، يومها، لم يترك أكثر الناس منازلهم، بدا واضحاً أن "جيش" الاحتلال الذي يَخبر قادته التاريخيون بأس المخيم وعناده، لم يقوَ على المكوث في أزقته بعد أسابيع من التحشيد والتهديد لأكثر من ثلاث ساعات، خرجوا حينها تحت وطأة ضربات المقاومة العنيفة، لقد شاهدوا بأمّ العين، كيف انتقلت مهمة التصدي للهجوم من المقاومين إلى الناس العاديين.
يروي الأهالي حكايات ثلاث ساعات من البطولة، اندفع والدٌ وابنه من عائلة "كذا" لمهاجمة القوات الخاصة التي اكتشفاها بالأسلحة الفردية، كيف هاجم شابٌ لم يغادر العشرين ربيعاً من العمر شقةً تمركز فيها الجنود، وأوغل فيهم قتلاً، ومنذ ذلك الحين، شعر الأهل جميعهم أن لفاتورة الحساب تتمة، وأنه لا بد لـ"جيش" الاحتلال من عودة، على أن ما هو أكيد وحتمي، أن هذه الجولة ستنتهي على نحو أقصر مما يتفاءل الجميع، لأن "الجيش" الذي فكك "معسكره" قبل ثلاثين عاماً من اليوم، حينما كان فتية "المعسكر" (سمّي المخيم معسكراً نسبة إلى معسكر "الجيش" المفكك) ورجاله يقارعونه بالحجارة والأظفار، لن يصبر أمامهم بعد أن اختزنوا في صدورهم كل هذا الغيظ، وراكموا في أياديهم ما هو أكبر من الحجارة.