"متحف الشعوب".. إثيوبيا أرض بقوميات كبيرة وعادات تباهي بالإنسان
تميّزت إثيوبيا بشعوب متعدّدة البيئات متباينة العادات، تظللها حياة تختلف من قومية لأخرى وفق العوامل الطبيعة السائدة، وما يتوفر من ثروات، ويتوارث من إرث شعوبي، ما جعل كثيراً من البيئات تنغلق على أهلها.
تتميّز إثيوبيا بقومياتها المتعدّدة، وتتمثّل قومية الأورومو كبرى القوميات الإثيوبية بنسبة 35%، تقطن غرب ووسط إثيوبيا، وتعدّ أمهرة القومية الثانية عددياً بنسبة 26.5%، وهي مؤرث الثقافة الحبشية منذ القدم، وإلى جانب هاتين القوميتين تتعدد قوميات أخرى ذات خصائص وعادات وتقاليد وغرائب وموروثات، ليعطي ذلك حقيقة وصف "متحف الشعوب" الاسم الذي أطلقه المؤرخ الإيطالي كونتي روسي، نظراً لكثرة الإثنيات والعرقيات الموجودة فيها.
يتكوّن هذا المتحف بالإضافة إلى القوميتين الرئيسيتين من القومية الصومالية وتتمثّل بنسبة 6.3%، وقومية تيغراي بـ6.1%، وقومية عفر 2.5%، بالإضافة إلى قوميات بني شنقول قمز، وهرر.. وسيداما، وقوراقي، غامو، ولايتا، والهديا، وجامو، وسلطي، إلى جانب إثنيات أخرى.
شعوب متباينة
تميّزت إثيوبيا بشعوب متعدّدة البيئات متباينة العادات، تظللها حياة تختلف من قومية لأخرى وفق العوامل الطبيعة السائدة، وما يتوفّر من ثروات، ويتوارث من إرث شعوبي، ما جعل كثيراً من البيئات تنغلق على أهلها، وأعطى ذلك أبعاداً في العادات والتقاليد المتأصلة تتميّز بها المجتمعات الإثيوبية سواء في الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب.
ويصف إثيوبيا البعض بـ"أرض الجبال" الباعثة للرعب والوديان السحيقة. ويشير المؤرخ الإثيوبي ساهيد اديجوموبي في كتابه "تاريخ إثيوبيا"، بقوله: "فمرتفعات إثيوبيا شاهقة وأوديتها سحيقة بانخفاض ألف قدم، ولعل وادي أباي (النيل) هو أكثرها إدهاشاً. وفي ما عدا السلاسل الجبلية الشاهقة التي كوّنتها الحمم البركانية، تجد المناطق المتخللة متخذةً شكل هضاب مسطّحة يسميها الإثيوبيون (أمباس)، وتبقى هذه الهضاب بمعظمها منعزلةً تماماً عن بعضها بعضاً، وإن اتصل بعضها بممرات بالغة الضيق بين المنحدرات الكبيرة".
ويشير إلى أن "الطبيعة المتقطّعة للمرتفعات الإثيوبية أدّت دوراً مهماً في تاريخها السياسي والثقافي، إذ برهنت هذه الكتل الجبلية العملاقة على كونها عقبات لا يمكن قهرها تقريباً أمام القادة السياسيين الطامحين بتوحيد البلاد، وأمام الغزاة الراغبين في فتحها، وأمام من حاولوا بشكل متقطّع، تنمية مواردها الاقتصادية. وخلقت العزلة الجغرافية في كثير من المناطق روحاً من الاستقلال النسبي، حيث لم يتغيّر نمط الحياة منذ مئات السنين".
أسطورة بلقيس
وترجع الروايات التاريخية القديمة الإرث الملوكي الذي ظل حاكماً لمئات السنين إلى أسطورة الملكة بلقيس لإضفاء صفة دينية في توارث الملك الحبشي الذي ترجعه الأسطورة إلى عهد نبي الله سليمان عليه السلام، كما ظلت الديانة المسيحية هي السائدة كدين وثقافة مهيمنة طيلة الملكية وإلى عهد الإمبراطور الأخير هيلاسلاسي.
يرجع المؤرخون دخول المسيحية إلى الحبشة إلى القرن الأول الميلادي وتقول الرواية التاريخية المشهورة "إن الشابين السوريين فرومينتيوس وايديسيوس قد نجوَا من حادث غرق سفينة في البحر الأحمر قبالة سواحل الحبشة، وباعهما السكان المحليون كعبيد للقصر الملكي فى أكسوم وحظي الشقيقان بثقة الملك نتيجة أعجابه بتديّنهما وحكمتهما وقاما بتبشيره بالمسيحية، وبتحويل العائلة المالكة إلى المسيحية".
وعلى المستوى القومي تبعت هيمنة المسيحية تغيّرات في آداب وثقافة الأهالي - ويعدّ تشريع الملوك المسمى بـ"فيتا نجاست FITA NAGAST" أحد المصادر والوثائق التي أثّرت في الثقافة الإثيوبية - وحافظت على قيمتها وأهميتها، وظلت القانون الأعلى رسمياً في إثيوبيا إلى وقت قريب.
إثيوبيا ليست غريبة عن الإسلام، ويحفظ لها التاريخ استقبالها المهاجرين الأوائل من صحابة النبي محمد، إلى جانب شهرتها بالصحابي الجليل بلال بن رباح (الحبشي) مؤذن رسول الله عليه السلام. وفي العهد الحاضر يعدّ الدين الإسلامي هو الديانة الغالبة في أوساط السكان البالغ عددهم ما يقدّر بـ120 مليون نسمة، وتتمثّل نسبة الأديان حديثاً بواقع 55% مسلمين، إلى جانب 40% مسيحيين معظمهم أرثوذكس ونسب قليلة من البروتستانت والكاثوليك والوثنيين.
وقد وجد المسلمون متنفّساً حقيقياً بعد سقوط الإمبراطور هيلاسلاسي، وعلى مستويات أخرى بدأت رحلة الثقافات القومية المتنوّعة في الانطلاق الطبيعي بعد أن أفسحت لها السياسة الطريق ضمن الدستور الإثيوبي الجديد الذي وضعه رئيس الوزراء الأسبق ملس زيناوي عام 1995، باعتماد نظام الفيدرالية ليسود وتنطلق هذه الثقافات على سجيتها المتميزة بخصائص وعادات، وممارسات، وغرائب، وموروثات نلخّص نماذج لها في قوميَتي قمز وعفر.
مزامير الفتاة القمزية
قومية القمز تمثّل إحدى القوميات الإثيوبية التي يضمها إقليم "بني شنقول- قمز" الواقع في أقصى الغرب، حيث يتشكّل الإقليم من قبائل رئيسية هي "البرتا، والقمز، والكومو، والماو، والشناشا"، بالإضافة إلى أجناس أخرى أقل، كالبديرية والجعليين، والوطاويط، والمغاربة، والمحس، والشايقية.. وتشكّل قبائل البرتا والقمز النسبة الغالبة في سكان الإقليم.
وللقبيلتين تمدّدهما على الشريط الحدودي ما بين إثيوبيا والسودان، ويعدّ إقليم "بني شنقول- قمز" أهم الأقاليم الإثيوبية، لما يُحظى به من ثروات، ويقع الإقليم في الجزء الشمالي الغربي من إثيوبيا، ومدينة أصوصا هي عاصمة له.
يعمل القمز الذين يشكّلون القومية الثانية في الإقليم بعد قومية البرتا بالزارعة، وينشطون في زراعة محاصيل الحبوب كالذرة والدخان. ويسكن أفرادها منازل تُبنى من الطين وأوراق الأشجار في شكل قطاطي. وتمثل الذرة الشامية الغذاء الرئيسي، وتعدّ القومية من القبائل ذات الطابع الزنجي في السحنة والطبائع، ويدين بعض أفرادها بالديانات الوثنية.
تتميّز القومية بثقافتها، وعادات أهلها، وطقوسها الفريدة، لها أزياؤها الخاصة، إلى جانب تزيّن نسائها بزينة الخرز والأحجارة اللامعة المنحوتة من الصخور المتوفّرة في المنطقة.
والمناسبات والاحتفالات عند قومية القمز لها تعدّدها، وما من مناسبة إلا ولها أغنياتها الخاصة. ومن الممارسات الغريبة عند بلوغ الفتاة القمزية سن البلوغ، وتحسسها ما يطرأ عليها من تغييرات، تُخبر الفتاة أمها بذلك، وينتشر الخبر وسط الأهل والأقارب، ويعدّ الأمر تطوّراً للأسرة، وتتجهّز القرية بأكملها للاحتفال الذي يُشارك فيه الناس من مختلف القرى. ويوزّع الأكل التقليدي من عصيدة ولحوم ومشروبات، وتدق الطبول، وينفخ في المزامير بالأغاني الخاصة بالمناسبة، وهي مناسبة مهيّئة لتنافس الفتيان لكسب قلب الفتاة، لتفرح القبيلة من جديد بمناسبة الزواج!
العفريون وموروث السلطان
وعلى الجانب الشرقي من إثيوبيا هناك قبيلة عفر، وهي الأخرى لها تميّزها وإرثها الثقافي، والتي تضاف إلى مجموعة القوميات والقبائل المتعددة التي يبلغ تعدادها 80 قومية.
وقومية عفر تمثّل إحدى القوميات الرئيسة في إثيوبيا. ويُحكى عن نزوح القبيلة من اليمن إلى القرن الأفريقي قبل 4000 عام واستقرار أهلها في أجزاء من جيبوتي، وإثيوبيا، وإريتريا، وشرق السودان.
وتمتاز القبيلة عن القوميات الإثيوبية كافة باحتفاظها بنظامها القبلي المتأصّل في الولاء لسلاطين المملكة من عائلة (آل مرح)، ويمثّل النظام واقعاً سياسياً ظل سائداً لدى القومية لمئات السنين. وهي إلى جانب ذلك خاضعة للنظام السياسي للدولة الإثيوبية، فالإقليم يُعدّ كواحد من الأقاليم الإثيوبية الـ12، ويحظى نظامه السلطاني بالاعتراف من كل الأنظمة السياسية المركزية التي مرّت على إثيوبيا.
وتصفهم بعض الروايات كونهم أقدم الشعوب (الحامية)، وتفيد بأنهم انتشروا منذ آلاف السنين في منطقة القرن الأفريقي على امتداد سواحل البحر الأحمر، وتضم بلادهم المنخفض الأفريقي الأعظم.
ويقع الإقليم العفري الإثيوبي شمال شرق الهضبة الإثيوبية، تحدّه من الشمال (أريتريا)، ومن الجنوب (الصومال الغربي)، ومن الشرق جيبوتي، ومن الغرب أجزاء من إقليم أروميا، بينما تتمدّد الجغرافيا السياسية للمنطقة العفرية المسمّاة (المثلّث العفري) لتشمل جيبوتي وأجزاء من أريتريا، وجميع هذه المناطق ذات ولاء خاضع لسلطان العفر في إثيوبيا، ويتجاوز مجموع تعداد العفريين فيها السبعة ملايين نسمة، بالعادات والتقاليد والولاء ذاته المطلق للسلطان في إثيوبيا.
ويمارس العفريون الرعي، والزراعة، وصيد الأسماك، وتبخير الملح، واستخراج الأحجار الكريمة من منطقة البحر الأحمر، وامتداداتها.
ويمتاز إقليم عفر ببيئات صحراوية وبركانية، وتعدّ صحراء دناكيل من المناطق الأكثر حرارة في العالم، وتقع على انخفاض 100 متر تحت سطح البحر.
كما تعدّ المنطقة البركانية المشهورة بجبل الدخان "عرت علي"، قبلة السياح والعلماء والأثريين للاستكشاف العلمي والأثري، ولمشاهدة بركان إرتا أليه (Erta Ale) أو المعروف محلياً باسم "بركان دالول"، والمشتعل في حمم الصخور منذ مئات السنين. وفي هذا المنخفض تسود أعلى متوسط لدرجات الحرارة على كوكب الأرض حيث يظل البركان يدفع بحممه على مدار العام.
وتشتهر المنطقة العفرية كونها موطن الإنسان الأول بعد كشف علماء الآثار عام 1974 لأقدم إنسان على كوكب الأرض والمشهور باسم (لوسي). وهو عظام فتاة من أشباه البشر تنتمي إلى صنف "أوسترالوبيثيكوس أفارينيسيس". وعُدّ الاكتشاف تطوراً هاماً تجاه أشباه البشر، وفي مسار انتهى بظهور الإنسان الحديث.
الشعب العفري معروف بأصوله العربية وجميعه يدين بالإسلام، والنسيج السكاني للعفر ذو ترابط وثيق يتكوّن من العشائر، والأسر، والعائلات.
توشح الخناجر
ومن غرائب العفريين أزياؤهم الخاصة التي تميّزهم عن بقية القوميات الأخرى، حيث يلبس الرجال قمصاناً طويلة فضفاضة إلى جانب المعوز العفري، أو السروال، ويضعون المشط على أشعارهم الكثيفة، ويتوشّحون إلى جانب ذلك بالخناجر المعلقة في حزام جلدي عريض يحيط الخصر، ويحمل بعضهم السيوف أو العصي الغليظة كزينة في الأعياد والمناسبات.
وترتدي النساء العفريات عادة الأقمشة المزركشة بألوان جاذبة مع الطرح الطويلة الملوّنة، ويتزينّ بالخلاخل والذهب والفضة وبعض المعادن كما يتحلّين بالخرز. وتتشابه الثقافة العفرية مع الثقافات العربية في كثير من الممارسات كعادات الزواج، والطقوس المتبعة في تزيين العروس، واستخدام المجوهرات والحلى للزينة.
ومن العادات الغريبة عند النساء العفريات استخدام خلاصات منتجات الألبان كالزبد والسمن في تصفيف شعورهنّ، وتلجأ النساء عادة لتغطي شعر أبنائهن بالزبد لتطويله وتسهيل تصفيفه. وللشعر سواء للنساء أو الرجال قدسية خاصة في تربيته والاعتناء به.
ويرجع تاريخ السلطنة العفرية الحديث إلى القرن الثامن عشر، إبان عهد السلطان الأكبر محمد حنفري (سلطان أوسا). ويمثّل السلطان الحالي أحمد علي مرح" الذي تمّ تنصيبه في آذار/مارس الماضي، السلطان الخامس عشر في ترتيب سلاطين سلطنة أوسا، التي تعود أصلاً إلى العام 1734 ميلادية.