"كالجسد الواحد".. الأقليّات يستعدون للمشاركة في بناء سوريا الجديدة
مع إعلان السيطرة على الحكم في سوريا من قبل هيئة تحرير الشام وفصائل المعارضة الأخرى، طفت على السطح مخاوف كبيرة من استهداف الأقليّات في البلاد، أو الهجوم على المزارات الدينية التابعة لها.
بشكلٍ مفاجئ، أعلن جهاز الاستخبارات العامّة التابع للإدارة الجديدة في سوريا نجاحه بإحباط محاولة عناصر من تنظيم داعش القيام بتفجير داخل مقام السيدة زينب في محيط العاصمة دمشق، بعملية استباقية أسفرت عن اعتقال الأشخاص المتورطين في "العمل الإجرامي الكبير الذي يستهدف الشعب السوري، وأن الجهاز يضع كل إمكانياته للوقوف في وجه كل محاولات استهداف الشعب السوري بكافة أطيافه".
لم تكن المخاوف التي تسللت إلى نفوس الأقليّات في سوريا وليدة الصدفة، خاصّة في الأيام الأولى التي أعقبت سقوط نظام بشار الأسد، حيث تم توثيق حوادث عديدة في مختلف المحافظات السورية، منها الهجوم على مطرانية حماة وتوابعها للروم الأرثوذكس، والاعتداء على الممتلكات الخاصّة والمدنيين في الساحل السوري، لذلك كان هناك مخاوف من توسع هذه الأعمال ووصولها إلى مستوى أخطر.
أمام هذا الواقع، واجهت منطقة السيدة زينب في ريف دمشق وابلاً من الأخبار المغلوطة والشائعات التي طالت أبناء المنطقة ومقام السيدة زينب، وخاصّة عبر مواقع التواصل الاجتماعي ما تسبب بحالة من الخوف والقلق لدى الأهالي، وهو ما اضطر المئات منهم للنزوح مؤقتاً خارج المنطقة.
مدير مقام السيدة زينب في ريف العاصمة السورية دمشق ديب كريّم أكد للميادين نت أن المقام لم يُغلق أبداً، كما أن أوقات الدوام لم تتغير، حيث تعمل جميع الأقسام الإدارية والخدمية بكامل طاقاتها، وتقدم الخدمات كافة لجميع الزوار كالمعتاد.
وفيما يخصّ التغييرات التي حصلت خلال الأيام الماضية كشف كريّم عن لقاءات عديدة عُقِدت بين إدارة المقام و"القيادة العامّة" الجديدة بهدف التباحث في مختلف القضايا التي تخصّ المقام والزيارة، حيث أكدت القيادة أهمية التعايش المشترك بين مختلف أطياف الشعب السوري، وتم التأكيد أن ملف أمن المقام موكل إلى "القيادة العامّة الجديدة"، والتي تمنع دخول أيّ شخص يحمل سلاحاً إلى المقام، كما تم إنشاء لجنة "آداب الزيارة" لتقوم بعمليات التفتيش على الأبواب، إضافة إلى مهمة ضبط أصول الزيارة في المقام من قبل الزائرين.
لم تكن مواجهة الأخبار المغلوطة التي تناولت الوضع الأمني في منطقة السيدة زينب بالأمر السهل، فمواقع التواصل ضجّت بكمٍ كبير من الأخبار المزيّفة والمقاطع القديمة، وهذا ما جعل المهمة على المؤثرين والناشطين في المنطقة أكثر صعوبة لمواجهة الحملة الإعلامية التي تعرضت لها منطقتهم.
وفي هذا السياق يؤكد الناشط حمزة قنبر أن الساعات الأولى بعد سقوط نظام بشار الأسد كانت الأكثر صعوبة حيث انتشرت مئات الأخبار ومقاطع الفيديو غير الصحيحة عن المنطقة وعن مقام السيدة زينب، وكان من الضروري الوجود الميداني داخل المرقد وفي محيطه لتبيان حقيقة الوضع للرأي العام، من أجل مواجهة الفتنة التي كان يُراد إشعالها في المنطقة من قبل جهات مجهولة.
وحول الوضع الاجتماعي في المنطقة، يؤكد قنبر أن الأمور عادت إلى طبيعتها بشكلٍ كامل، وأن المقام يفتح أبوابه أمام الزوّار كما جرت العادة، وقد تلقّى الأهالي تطمينات عديدة من القيادة العامّة الجديدة حول رغبتها في ترسيخ مبدأ النسيج الاجتماعي الواحد في البلاد، وأن حماية المزارات الدينية ستقع على عاتق الجهات الأمنية.
مقام السيدة رقية يفتح أبوابه
"كالجسد الواحد كنّا وسنبقى"، بهذه العبارة بدأ السيد رياض نظام حديثه أمام حشد من رجال الدين وممثلين عن القيادة العامّة الجديدة في سوريا ووجهاء أحياء دمشق القديمة داخل مقام السيدة رقية في حيّ "العمارة" وسط العاصمة السورية دمشق، بمناسبة إعادة افتتاح المقام أمام الزوّار، بعد إغلاقه لمدة 10 أيام عقب سقوط نظام بشار الأسد وسيطرة المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام على الحكم في البلاد.
رياض نظام أحد وجهاء حيّ الأمين بمدينة دمشق أشار للميادين نت إلى أن إغلاق مقام السيدة رقية جاء خوفاً من حدوث عمليات تخريب أو سرقة من بعض الخارجين عن القانون الذين يحاولون استغلال غياب الأمن للتعدّي على الممتلكات العامّة والخاصّة.
وأكد أنه أجرى مشاورات مع وجهاء المنطقة والجهات الأمنية التابعة للقيادة العامّة الجديدة في سوريا بهدف إعادة افتتاح أبواب المقام أمام الزوّار، وتم لاحقاً الافتتاح بحضور عدد من العلماء ورجال الدين والوجهاء ومندوبين عن الجهات الأمنية، وبهذه المناسبة أكد الحضور على التوافق والمحبة بين جميع أطياف الشعب السوري، حتى تكون سوريا رمزاً للأمن والأمان والتعيش المشترك.
مخاوف تم تبديدها
مع إعلان السيطرة على الحكم في سوريا من قبل هيئة تحرير الشام وفصائل المعارضة الأخرى، طفت على السطح مخاوف كبيرة من استهداف الأقليّات في البلاد، أو الهجوم على المزارات الدينية التابعة لها، خاصّة مع حدوث بعض الخروقات في هذا الاتجاه بأكثر من محافظة سوريّة، إضافة إلى حالة الفلتان الأمني والفوضى التي شهدتها سوريا يوم الثامن من كانون الأول/ديسمبر الجاري عند سقوط نظام بشار الأسد.
هذه المخاوف بدأت تتبدد تدريجياً مع تقديم القيادة العامّة في البلاد تطمينات لمختلف الطوائف السورية بأنها ترغب في بناء دولة جديدة تعتمد على مختلف مكونات النسيج الاجتماعي السوري، مع التأكيد على دور "القيادة" في حماية المزارات الدينية وتأمينها بالكامل.
وفي هذا السياق أكد وزير الإعلام في الحكومة السورية المؤقتة محمد العمر أن إدارة العمليات العسكرية التقت بممثلي الطوائف المختلفة في البلاد وقدمت تطمينات لهم، وأشار إلى أن الطوائف السورية قديمة قِدم التاريخ، والقيادة العامّة تعاملها على أساس أنها من مكونات النسيج الاجتماعي السوري، كما أن للطوائف حقوق وواجبات، وأن للقيادة أهمية خاصة في التفاعل مع الطوائف والوقوف على احتياجاتها، منوهاً إلى أن الحريات الفردية متاحة لجميع السوريين.
محمد أيمن قدّور من أهالي حيّ "الشاغور" في دمشق أشار للميادين نت أن مقام السيدة رقية عليها السلام يُعتبر جزءاً أساسياً من النسيج الاجتماعي والثقافي والتاريخي لدمشق القديمة، ولطالما كان حاضناً لمختلف أطياف الشعب السوري، إضافة إلى كونه مركز جذب سياحي في المنطقة، حيث ساهم خلال السنوات الماضية في إنعاش الحركة التجارية ضمن الأسواق المحيطة به في ظل توافد سيّاح من جنسيّات مختلفة لأداء الزيارة.
وحول إعادة افتتاح المرقد أمام الزوّار، كشف قدّور عن نقاشات واجتماعات مكثّفة جرت بين وجهاء حيّ "العمارة" في دمشق القديمة ورجال دين معنيين بإدارة المقام ومندوب وزارة الأوقاف في الحكومة السورية المؤقتة وممثل عن "القيادة العامّة"، حيث تم الاتفاق على إعادة فتح أبواب المقام، وإزالة كافة المظاهر العسكرية المحيطة به، مع المحافظة على النسيج الاجتماعي والضوابط المحددة في موضوع أداء الزيارة، بما ينسجم مع الوحدة الوطنية في البلاد، بهدف نبذ أيّ شعارات طائفية أو خطاب تحريضي.
سوريا والسياحة الدينية
تُعتبر سوريا مقصداً بارزاً للسياحة الدينية في الشرق الأوسط، إذ تضم عدداً كبيراً من المزارات الخاصّة بالمسلمين والمسيحيين على حدٍ سواء، ولعلّ أبرز أماكن السياحة الدينية هي المسجد الأموي ومقام السيدة زينب ومقام السيدة رقية ومقام النبي هابيل في العاصمة دمشق، إضافة إلى جامع خالد بن الوليد في حمص، والجامع الأموي الكبير في حلب، ومقام الصحابي عمار بن ياسر في الرقة، ومزارات أبي موسى الأشعري والحجاج بن عامر وكعب الأحبار ورابعة العدوية وعمر بن عبد العزيز ومزارات ومساجد ومقامات كثيرة غيرها.
كما أن سوريا غنيّة جداً بالمقدسات والمزارات المسيحية من كنائس وأديرة تعتبر الأقدم في العالم، مثل الكنيسة المريمية، ودير سيدة النياح، وكنيسة القديس حنانيا، وكنيسة القديس بولس الرسول، وكنيسة أم الزنار، وكنيسة الصليب، وكنيسة الفرنسيسكان، وكنيسة قلب لوزة، وكنيسة يسوع الناصري، وكنيسة مار يعقوب، وكنيسة السريان، وكنيسة القديس جاورجيوس، ودير مار جرجس البطريركي، ودير سيدة صيدنايا، ودير مار إلياس شويا، ودير السيدة بلمانا، ودير مار موسى، و وبطريركية أنطاكية وسائر المشرق، وغيرهم الكثير في جميع أنحاء سوريا.
ويمكن تعريف السياحة الدينية بأنها تمثل تنقل الأفراد والجماعات من بلد إلى آخر أو من منطقة إلى أخرى لغايات الصلاة والعبادة، حيث يتم زيارة الأضرحة والمقامات الدينية والمساجد، وغالباً ما تكون السياحة الدينية في فترات موسمية وأوقات زمنية محددة، وترتكز بشكل أساسي على العاطفة الدينية، وهي سياحة تهتم بالجانب الروحي للإنسان، كونها مزيج من التأمل الديني والتراثي من أجل التقرب إلى الله.
وتنضوي السياحة الدينية على مجموعة كبيرة من المبادئ والقيم الإنسانية النبيلة التي جاءت بها مختلف الأديان السماوية، فهي تمثل وسيلة حقيقية للاتصال والحوار الحضاري بين الأمم والشعوب، عبر الاندماج فيما بينها بروابط إنسانية خالصة بعيدة عن الحواجز والمعوقات التي تمنع هذا التواصل، وكل ذلك بهدف التعبير عن الحقيقة الإنسانية للشعوب بعيداً عن المفاهيم السياسية الضيّقة.