منتجات تبييض البشرة: بصمةُ الاستعمار على جلد الأفارقة

تحوي كنشاسا (عاصمة الكونغو) وحدها على الأقل ثمانية مصانع كبيرة لإنتاج مستحضرات التجميل، وفي طليعتها مساحيق تبييض البشرة. وتحتلّ الأخيرة القسم الأكبر من اللوحات الإعلانية التي تُزنّر شوارع العاصمة الرئيسة.

  • منتجات تبييض البشرة: بصمةُ الاستعمار على جلد الأفارقة
    منتجات تبييض البشرة: بصمةُ الاستعمار على جلد الأفارقة

"عندما وزّع الإله النِعم على الشعوب، لماذا اختار لكم - أنتم البيض - الِنعم المثلى كالشعر الناعم والبشرة الجميلة، فيما اختار لنا نعمة البنية الجسدية المتينة التي تتكلمين عنها؟". تسأل العاملة المنزلية الكونغولية روز (20 عاماً)، صاحبة البيت الأجنبية التي تعمل لديها، في معرض حديثهما عن الاختلاف العرقي والثقافي بين الشعوب.

 تعتقد الفتاة الأفريقية التي تُقيم في كنشاسا (عاصمة جمهورية الكونغو الديموقراطية)، أن فتيات كثيرات في بلادها "مُرغمات" على استخدام ما يُسمّينه "حليب الجمال"، وهو توصيف يُطلق هنا على مساحيق التجميل المتنوعة التي تُستخدم من أجل تفتيح لون البشرة، "فبفضل تلك المساحيق، نبدو أكثر جاذبية وتقبّلاً من الشّبّان الذين يحلمون دوماً بالحسناوات البيض". 

ما تقوله روز عن أهمية تلك المساحيق لها ولكثيرات لا يُعدّ مستغرباً في العاصمة التي تحوي وحدها على الأقل ثمانية مصانع كبيرة لإنتاج مستحضرات التجميل، وفي طليعتها مساحيق تبييض البشرة. وتحتلّ الأخيرة القسم الأكبر من اللوحات الإعلانية التي تُزنّر شوارع العاصمة الرئيسة، فيما تُخصّص لها غالبية المتاجر الكبرى رفوفاً خاصة بها. 

في الواقع، حال كنشاسا كحال عشرات المدن الأفريقية التي ينشط فيها "سلوك" استخدام وسائل التبييض المختلفة؛ إذ تُشير إحصاءات منظمة الصحة العالمية إلى أن 40% من النساء الأفريقيات يُبيّضن بشرتهن على الرغم من التحذيرات التي تطلقها بشأن مخاطر التبييض (77% من النساء في نيجيريا مثلاً يستخدمن منتجات تفتيح البشرة و35% في جنوب أفريقيا و27% في السنغال).

12.6 مليار دولار قيمة سوق تبييض البشرة عام 2027

تغدو هذه الإحصاءات مفهومة في ظلّ تنامي السوق العالمي لتبييض البشرة الذي بلغت قيمته عام 2020 نحو 8 مليار دولار وفق تقديرات StrategyR، متوقعةً أن يصل إجمالي المبيعات بحلول عام 2027 إلى 12.6 مليار دولار.

في المبدأ، تحتوي كريمات تبييض البشرة المُعاصرة على مكونات تمنع إنتاج الميلانين (مادة صبغية يفرزها الجسم وهي التي تحدّد لون العيون والشعر والجلد بحيث كلما كان تركيزها أكبر كان لون البشرة أكثر قتامة). ومن تلك المكونات التي تستخدم لـ"محاربة" الميلانين، مادة الهيدروكينون التي تُحذر من آثارها منظمة الصحة العالمية لجهة تسببها بالتهاب الجلد وتهيّجه وسوى ذلك من آثار.

يذكر أن بعض مبيضات البشرة كانت تستخدم لعلاج الأمراض الجلدية مثل الكلف المفرط والتصبّغ والبهاق، لكن تلك العلاجات تخضع للإرشادات الصارمة في الاستخدام السريري، وهي تختلف استخداماتها ومكوناتها عن تلك المستخدمة في الكريمات التجارية.

وبالعودة إلى تحذيرات منظمة الصحة العالمية، فإن بعض البلدان الأفريقية عمدت في السنوات الأخيرة كـغانا وساحل العاج ورواندا إلى حظر منتجات تفتيح البشرة وخصوصاً الكريمات التي تحتوي على الهيدروكينون.

في هذا الوقت، يسعى عدد من الناشطين في العالم لتعزيز ثقافة مناهضة للتجارة العالمية بمنتجات التبييض الضارة، فمثلاً، قبل سنتين، تمكّن عدد من الناشطين الصوماليين من دفع شركة أمازون العالمية إلى إزالة نحو 15 منتجاً يحتوي على مستويات سامة من الزئبق، فيما يعمد كثير من المصنّعين إلى المراوغة والالتفاف حول التحذيرات بتجنّب ذكر المكونات.

إلا أن محاولات "لجم" هذا السوق تبقى متواضعة جداً وهزيلة، إذ لا يزال سهلاً الوصول إلى تلك المنتجات، ذلك أن شراءها لا يتطلب وصفة طبية، فضلاً عن أن سعر بعضها لا يُعد مرتفعاً بالنسبة إلى المواطنين، وهو متوافر في مختلف الأسواق، حتى إن بعضها متوافر في البسطات المتواضعة المنتشرة على الشوارع الفرعية!

تقول فالون (25 عاماً)، وهي مواطنة كونغولية دأبت في "المواظبة" على مساحيق التبييض منذ عشر سنوات، إنها اكتسبت "خبرة" بتمييز أكثر المنتجات فعالية، "وتبيّن لي أن المنتجات ذات السعر المنخفض لا تعطي المفعول المرجو وقد تسبّب لي بعضها بندوب على أصابعي، لذلك صرت أعمد إلى ادخار مبلغ إضافي من راتبي كي أتمكن من شراء منتجات أغلى وذات جودة أعلى". 

تعرف الشابة أن تخصيص 50 دولاراً في الشهر لشراء الكريمات أمرٌ يثقل كاهلها، لكنها تعتقد أنها "مجبرة" وأنها غير قادرة على "مقاطعة" المنتجات لأن مفاعيلها تسعدها وترضيها، كما تقول.

لذلك، وإلى عاملَي سهولة الوصول إلى المنتجات ووفرتها بأسعار مقبولة، يأتي العامل النفسي الذي يُعدّ العامل الأهم الذي يغذّي التجارة العالمية للمساحيق، والذي يدفع المستهلكين إلى تجاوز غالبية المحاذير التي تطلق جراء استخدامها.

إدمانٌ وبحثٌ عن "الارتقاء" الاجتماعي

تُشير جمعية علماء النفس السود (مقرها الولايات المتحدة الأميركية)، إلى وجود علاقة بين تبييض البشرة واحترام الفرد لذاته وتصوراته عن الجمال والفرص الاقتصادية التي قد يحصل عليها، فيما تستفيد شركات العناية بالبشرة ومستحضرات التجميل من هذه العلاقة، ساعية لابتكار مزيد من الوسائل التجارية لتبييض البشرة (عمدت شركات أخيراً إلى ابتكار وسائل تبييض تستهدف الحوامل ذوات البشرة السمراء الراغبات في تغيير لون جلد مولودهن عبر تقنية الحقن الوريدي لمادة الجلوتاثيون).

من هنا، ترى مؤسسة "flying doctors nigeria" الطبيبة أولا أوريكونرين، أنّ الحل الأساسي لهذه المعضلة لا يكمن في مقاطعة المنتجات، ولا في حظرها، بل يبدأ بـ"فتح نقاش في لون البشرة والجمال في وسائل الإعلام والقيمين على الموضة لعرض أنواع أخرى من الجمال".

هذا الكلام ينسجم وما تُشير إليه دراسة fifty shades of african lightness (مراجعة بيولوجية نفسية اجتماعية للظاهرة العالمية لممارسات تفتيح البشرة)، التي بحثت في دور الإعلام لصوغ معايير الجمال، مُشيرةً إلى أن بعض المُستهلكين يستخدمون منتجات تفتيح البشرة لإرضاء الأقران ولجذب الشركاء ولتعزيز فرصهم في العمل، لافتةً إلى شعور الإدمان الذي يخلقه استخدام هذا النوع من المنتجات.

أما السبب الرئيس خلف تلك الأبعاد النفسية، فيعود وفق بعض المتخصصين إلى الاستعمار. كيف؟ تذكر الدراسة أن كثيراً من الفلاسفة والناشطين السياسيين يرون أن الاستعمار والفصل العنصري في جنوب أفريقيا عزّزا تاريخياً استخدام منتجات تفتيح البشرة، مُشيرة إلى أن بداية استخدام تلك المنتجات حديثاً تعود إلى خمسينيات القرن الماضي تزامناً وقانون تفضيل العمالة الملونة الصادر عام 1955 الذي ميّز الأفراد الملونين من الأفارقة السود، ومنحهم الأولوية في التوظيف وتراكم الثروة المادية.

في إحدى مقابلاتها الصحافية، تقول أستاذة مقرّر سياسة تبييض البشرة في جامعة رودس في جنوب أفريقيا شينغي متيرو: "ليس بالضرورة أن يكون الأفارقة يصبون إلى البياض الجسدي، فبسبب تقديم البياض كمعيار عالمي للتقدم، تُخلق رغبة في نفوسهم بالوصول إلى الأشياء التي يمكن للبيض الوصول إليها بسهولة على صعيد الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية".

بدورها، ترى أستاذة التاريخ في جامعة واشنطن وصاحبة كتاب beneath the surface/ A transnational History of skin Lighteners لين توماس، أنه جرى استخدام لون البشرة والاختلافات الجسدية المرتبطة بها في حقبة تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، لتمييز المُستعبَدين عن الأحرار، "ولتبرير الاضطهاد، جرى الترويج أن الذين تحوي أجسادهم كثيراً من الميلانين هم تجسيد للقبح والدونية"، مُضيفةً: "ضمن هذا النظام السياسي العنصري، سعى البعض لتبييض وتفتيح بشرتهم". وتخلص توماس إلى أن سياسات لون البشرة نشأت بسبب مؤسسات العبودية العرقية والاستعمار والفصل العنصري، مُشيرةً إلى العواقب السياسية والاجتماعية التي يتلقاها أصحاب البشرة السمراء في بلدان تزدهر فيه العنصرية مثل الولايات المتحدة الأميركية وجنوب أفريقيا.