مدن قديمة ترقد تحت المباني الخرسانية في غزة
اكتُشفت مقبرة رومانية عمرها 2000 عام في قطاع غزة أثناء عمليات الإعمار في جباليا شمالي قطاع غزة. وأسفرت عمليات البحث الأوليّة عن اكتشاف 40 مقبرة تعود إلى القرن القرنين الأول والثاني بعد الميلاد.
كان عمال يحفرون في ورشة بناء ضخمة في جباليا شمالي قطاع غزة، عندما رأى الحارس أحمد قطعة غريبة من الحجر تحت الأرض، وهي بقايا مقبرة رومانية عمرها 2000 عام.
بعد معركة "سيف القدس" في أيار/مايو 2021، شرعت مصر في نهاية كانون الثاني/يناير في إعادة إعمار جزء من القطاع الصغير البالغة مساحته 362 كيلومتراً مربعاً، والذي يقطنهُ 2,3 مليون نسمة.
وفي جباليا، كانت الجرافات المصرية تحفر التربة الرملية لتشييد مبانٍ خرسانية جديدة، عندما رأى أحمد الأحجار الغريبة في الأرض.
يقول هذا الفلسطيني الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه الكامل: "نبهت رئيس العمال المصري الذي اتصل على الفور بالسلطات المحلية، وطلب من العمال التوقف عن العمل".
وانتشرت عندها في شبكات التواصل الاجتماعي شائعات عن اكتشاف مهم محتمل، ما دفع دائرة الآثار في غزة إلى الاتصال بمنظمة "Premiere Urgence Internationale" (الإغاثة الأولية الدولية) غير الحكومية الفرنسية والمركز الفرنسي لدراسة الكتاب المقدّس والآثار في القدس، لتقييم أهمية الموقع وتحديد منطقة التنقيب.
بعد أن وصل إلى جباليا، اكتشف الفريق، بقيادة عالم الآثار الفرنسي رينيه إلتر، مقبرة رومانية مدفونة منذ قرون في باطن أرض غزة.
ويوضح عالم الآثار لوكالة "فرانس برس" أن "الأعمال الأولى حددت نحو 40 مقبرة تعود إلى العصر الروماني القديم بين القرنين الأول والثاني بعد الميلاد".
ويشير إلى أنَّ "هذه المقبرة أكبر من القبور الأربعين الأخرى"، لافتاً إلى أنَّ إحدى المقابر المكتشفة مزينة "بلوحات متعددة الألوان تمثل تيجاناً وأكاليل من أوراق الغار"، إضافة إلى "جرار مخصصة لإراقة الشراب الجنائزي" .
كانت هذه المقبرة متاخمة لمدينة أنثيدون الرومانية، على الطريق المؤدية إلى ما بات حالياً مدينة عسقلان الواقعة عند تخوم قطاع غزّة.
"كنوز" غزة
تشكل قضايا الآثار موضوعات سياسية حساسة للغاية في فلسطين المحتلة بين الاحتلال الإسرائيلي وأصحاب الأرض الأصليين.
ويقول إلتر: "لا توجد فروق بين ما يمكن أن تجده في غزة وعلى الجانب الآخر من السياج"، مضيفاً: "في غزة، اختفت مواقع كثيرة بسبب الحرب وورش البناء، لكنَّ المنطقة تشكل موقعاً أثرياً ضخماً يتطلب فرق خبراء كثيرة".
وقد أقيمت أسوار حول المقبرة الرومانية المراقبة باستمرار، فيما يواصل العمال تشييد طبقات خرسانية في المباني المجاورة قيد الإنشاء.
ويوضح جمال أبو رضا مدير الخدمات الأثرية المحلية التي تضمن حماية المقبرة حتى كانون الثاني/يناير 2023: "نحاول مكافحة تهريب الآثار داخل غزة وخارجها"، مبدياً الأمل في إيجاد متبرعين لتمويل الحفريات.
في غزة، السكان معتادون على دفن الموتى أكثر من نبش القبور، إذ شهد القطاع منذ حزيران/يونيو 2007 أربع حروب وتوترات متكررة.
ويقول مدير منظمة الإغاثة الأولية الدولية غير الحكومية في قطاع غزة جهاد أبو حسان: "غالباً ما ترتبط صورة غزة بالعنف، لكن تاريخها غنيّ بالكنوز الأثرية التي يجب حمايتها للأجيال المقبلة".
وتواجه غزة تحدياً كبيراً آخر يتمثل بالضغط السكاني؛ ففي غضون 15 عاماً، زاد عدد السكان في القطاع من 1,4 مليون نسمة إلى 2,3 مليون، ما دفع بالضرورة إلى طفرة كبيرة في تشييد المباني الجديدة.
ويوضح أبو حسان: "يتجنب البعض إبلاغ السلطات بالاكتشافات الأثرية في مواقع البناء، خوفاً من عدم الحصول على تعويض" في حالة التوقف عن العمل، و"في النتيجة نفقد مواقع أثرية كل يوم".
ويضيف: "من هنا تأتي أهمية استراتيجية الدفاع عن التراث" للحفاظ على التاريخ وتدريب علماء الآثار المحليين. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، ساعدت منظمته غير الحكومية في تدريب 84 فنياً في علم الآثار من أجل إعداد الجيل المقبل وتوفير فرص عمل، فيما تتجاوز البطالة 60% بين الشباب.
آثار غزة: وسيلة لمواجهة "إسرائيل" أيضاً
ومن النجاحات النادرة في هذا المجال هو الحفاظ على دير القديس هيلاريون البيزنطي، وهو أكبر دير في الشرق الأدنى، ويمتد على هكتارين في تل أم عامر جنوب غزة.
هذا الموقع المفتوح للجمهور منذ بضع سنوات أخذ اسمه من راهب عاش في القرن الرابع في غزة، وهو يتضمن ردهة وأربع كنائس.
ويقول عالم الآثار الفلسطيني فاضل العتول (41 عاماً) الذي يهتم بالآثار القديمة مذ كان مراهقاً، أثناء جلوسه في موقع عند سفح مخيم للاجئين: "نستقبل نحو 14 ألف زائر سنوياً، بمن فيهم تلامذة المدارس".
ويضيف: "عندما كنت طفلاً أثناء الانتفاضة، كنت أبحث عن حجارة لرميها على جنود العدو الإسرائيلي. اليوم، أبحث عن حجارة لأثبت للعدو أنّ لدينا تاريخاً رائعاً".
ويقول أثناء تجواله في موقع دير القديس هيلاريون إنَّ حلمه هو "إجراء حفريات في جميع المواقع الأثرية في غزة، وجعلها في متناول الجمهور لمشاركة تاريخ غزة وثقافتها مع العالم".