حمامات السوق في الشام القديمة.. "نزهة" الأعياد في المدينة
لطالما احتلّ حمام السوق مكانة كبيرة في الحياة الاجتماعية الدمشقية، فلم يكن مكاناً يقدم خدمات التنظيف أو الراحة فقط، بل كان طقساً أساسياً يرافق الأحداث والاحتفالات العائلية الكبرى، خصوصاً في الأعياد.
تزخر دمشق القديمة بالأسواق والمباني الأثرية التاريخية، ودُور العبادة العريقة، وتتميز عن غيرها من المدن العربية، بوجود الحمّامات الشعبية، التي لا تزال تستقبل الزبائن إلى يومنا هذا.
لم تكن البيوت الدمشقية القديمة تضم حمامات في تصميمها، لذلك كان الرجال والنساء يرتادون حمّام السوق بشكل أسبوعي، ورغم مرور السنين والتطور الذي طرأ على المدينة وتوفر الحمامات المنزلية فيما بعد، فإن "حمّامات السوق"، بقيت تقليداً تراثياً استمرت الأسر الشامية بممارسة طقوسه، خصوصاً في الأفراح والمناسبات.
رحلةٌ تبدأ بالبرّاني وتنتهي به
تختلف الحمّامات الدمشقية عن بعضها بالحجم والرصف والزخرفة والتزيين، لكنها تشترك في أقسامٍ ثلاثة رئيسية هي "الجوّاني" و"الوسطاني" و"البرّاني".
يدخل الزبون من باب الحمام، فيجد مسطبة مفروشة بالسجاد، يصعد إليها بعدة درجات، وهناك يسلم أشياءه للعامل الذي يزوّده بالمناشف والقباقيب.
هذا القسم يطلق عليه "البراني"، وتتوسطه عادةً بركة ماء تعلوها قبة مسقوفة، وتتوزع من حولها مساطب عليها أرائك، يستعد فوقها الزوار للاستحمام فيرتدون مناشفهم، ويجهّزون أغراضهم للانتقال إلى القسم "الجوّاني"، الذي يتألف من إيوانين متقابلين على طرفي بيت النار.
يتوسط كل إيوان جرن كبير أو أكثر فيه ماء ساخن ويتفرع عن كل إيوان غرف ومقاصير يحتوي كل منها على جرن وعدّة التنظيف والاغتسال.
وسط البخار المتصاعد والحرارة العالية، تبدأ عملية "التكييس" التي يقوم بها شخص مختص بواسطة كيس يُلبس بالكف مصنوع من قماش خشن، يساعد على تقشير البشرة وإزالة الخلايا الميتة وتنشيط الدورة الدموية في الجسم، ثم يُصب على الشخص خليط من الماء الساخن والبارد، الذي يُغرف بطاسة نحاسية من داخل الجرن الرخامي.
وتستمد غرف الجواني المياه من حوض الماء الحجري، من خلال أنابيب، تمتد داخل جدران الحمام ليعم الدفء الأرجاء.
بعدها، يخرج المستحمّ إلى القسم الوسطاني، فيجلس مع الباقين لتبادل الحديث والتسلية أو الغناء والاسترخاء تحت أشعة الشمس، التي تدلف من قباب زجاجية ملونة بالأحمر والأخضر والأزرق تزيّن سقف المكان وفقاً لأشكال هندسية مستوحاة من العمارة الإسلامية.
عند انتهاء الزبون من الحمّام، يخرج تدريجياً بالطريقة نفسها التي دخل بها حتى لا يشعر الجسم بفارق الحرارة الكبير مباشرة، وبالتالي حمايته من التعرض للمرض، وكما بدأت الرحلة بالبراني تنتهي به أيضاً، إذ يزوّد الزبون بمناشف جديدة ويجلس لاحتساء الشاي.
للنساء حصتهنّ أيضاً
لطالما احتلّ حمام السوق مكانة كبيرة في الحياة الاجتماعية الدمشقية، فلم يكن مكاناً يقدم خدمات التنظيف أو الراحة فقط، بل كان طقساً أساسياً يرافق الأحداث والاحتفالات العائلية الكبرى.
ففي الأيام العادية، كانت النساء يعتبرن زيارة الحمام، في الفترة الصباحية المخصصة لهن، سيراناً يتناقلن فيه الأخبار، ويتبادلن النكات ويتشاركن الغناء، فضلاً عن تحضير أشهى المأكولات، أما القسم الأهم فهو اعتبار حمام السوق المكان الأمثل للبحث عن عروس مناسبة للزواج فالمثل الشامي يقول: "العروس من على جرن الحمام"، إشارةً إلى ظهور البنات على طبيعتهن، وفي حال نالت إحداهن الإعجاب، تقوم أم العريس بالحديث إليها، وسؤال المكيسة عن وضعها وأهلها وعنوانها.
ويعدّ "حمام العروس" واحداً من أبرز طقوس الأعراس الدمشقية مع الحنّاء، إذ تتم فيه دعوة الأقارب والجيران وأهل العريس من النساء، من جانب أم العروس، إلى الحمام للاحتفاء بابنتها، فيستحممن وسط أجواء من الاحتفال والغناء والعزف والرقص، ويختتم النهار بمائدة غداء تتحلّق حولها النساء في الحمام ذاته.
في حين يرافق العريس أصدقاؤه وإخوته وجيرانه إلى حمام السوق كي يستحم يوم زفافه، ويخرجونه على وقع عراضة شامية، وأهازيج حماسية، ويوصلونه إلى المكان المخصص للرجال في حفل الزفاف.
وهناك "حمام الغمرة" الذي يأتي بعد الزفاف بأسبوعين،إذ تقوم أم العريس بردّ دعوة أم العروس لهن إلى الحمام يوم الزفاف.
قطع الكهرباء وشح المحروقات.. أسباب أساسية لازدحام حمامات السوق
ضمن جادة النحوي في حي القيمرية الدمشقي، يقع حمام البكري الذي يعود تاريخ بنائه إلى العصر المملوكي.
الحمام الذي تجاوز عمره 900 عام، انتقلت ملكيته بين عدة عائلات دمشقية شهيرة، حتى آلت عام 2010 إلى عائلة حمامي المعروفة بمزاولة هذا الكار أباً عن جد، في العديد من حمامات السوق في دمشق.
يشهد الحمام ازدحاماً ملحوظاً يفوق طاقة استيعابه العادية في عيد الفطر، إذ يستمر توافد الزبائن بكثافة إلى ما بعد صلاة الفجر، خاصة باعة السوق بعد يوم الوقفة المتعب.
بابتسامةٍ واسعة وكلمات لطيفة، يرحّب ناطور الحمام بالزبائن، فيستقبلهم ويتوجه بهم إلى المسطبة حيث يعطيهم جراراً لحفظ الأمانات، كي يضعوا فيه أغراضهم الشخصية ثم يسلّمهم المناشف والقباقيب. ويقول للميادين نت: "في الماضي، كان الجميع يحضر إلى الحمام كنوع من السيران للاستمتاع بوقته والتسلية، أما اليوم وبسبب عدم توافر الكهرباء والمازوت، فقد ازداد رواد الحمامات الذين يأتون من أجل الاستحمام فقط، الأمر الذي ساهم في استمرارنا وحال دون فقداننا الزبائن".
وتشهد حمامات السوق في دمشق اليوم، إقبالاً كبيراً بنسبة 30% زيادة عن الأيام العادية، بسبب زيادة ساعات قطع الكهرباء، وتأخر توزيع أسطوانات الغاز المنزلي للعائلات إلى أكثر من 50 يوماً، ما يجعل الكثير من الناس عاجزين عن تسخين الماء في منازلهم للاستحمام.
لا يجري العمل بشكل عشوائي في حمامات السوق، بل هناك مهمات محددة لكل موظف يشرحها أبو مصطفى قائلاً: "المعلم هو المدير، أما الناطور فهو المسؤول عن استقبال الزبائن وخدمتهم في قسمَي البراني والوسطاني، ثم يأتي المكيس ليتولى مهمة تلييف جسم الزبون بالصابون والماء في القسم الجواني، بعدها يوجد لدينا التبع وهو الذي يقوم بتغسيل رأس الزبون ومساعدة المكيس في عمله والقيام بشطف الأقسام وتنظيفها وتجهيزها، وأخيراً القميمي الذي كان يوقد النار ويسخن الماء قديماً".
عندما يجهز الزبون نفسه للاستحمام، ينزل ثلاث أو أربع درجات موجودة في كل الحمامات، فالأرضية هنا تنخفض عن قسم الدخول لسبب يوضحه الرجل الخمسيني: "جميع الحمامات كانت تستمد مياهها من نهر بردى، وللحصول على الماء يجب أن يكون مستوى الأرض موازياً لمنسوب النهر، حتى يتم التمكن من سحب الماء من خلال قساطل فخار ضمن الحمام".
"نعيماً"، "الله ينعم عليك دنيا وآخرة.. ويرحم والدينا ووالديك"، عبارات يتبادلها الزبائن الذين أنهوا استحمامهم متوجهين بقباقيبهم التي تصدر طقطقةً مميزة إلى "أبو مصطفى" الذي يسلمهم أغراضهم ويتابع حديثه: "يعتقد الناس أن ارتداء القبقاب هو طقس تقليدي أو للتسلية، لكن الحقيقة على العكس تماماً، ففي السابق كان يجري تسخين المياه على الحطب بالحلة التي تتصل بمدخنة مسقوفة بالحجر، إضافة إلى وجود المقاصير التي يسخن الحمام عبرها، وبالتالي فإن حجر الأرضية يبقى ساخناً وحرارته مرتفعة، ولا يمكن تحملها، فيرتدي الشخص قبقاب الخشب كونه عازلاً للحرارة لحماية قدميه".
20 ألف ليرة سورية، هي التكلفة التي يدفعها الزبون لقاء الخدمات التي يحصل عليها، بدءاً من الحمام بصابون الغار والليفة النابلسية، مروراً بخدمات المساج والتكييس، وليس انتهاءً بالأرغيلة مع كأس من الشاي قرب البحرة.
هذا الارتفاع الكبير في الأسعار يعود إلى "أزمة المحروقات التي تشهدها البلاد، وصعوبة تأمين مادتي البنزين والمازوت اللازمتين لتسخين المياه والإنارة، وارتفاع سعرهما في السوق السوداء" بحسب أبو مصطفى.