"الاحتلال من خلفهم والبحر من أمامهم".. رحلة موت تنهي قصة حب فلسطينية
في مدينة حدودها الحب، تنشأ علاقة يرضاها الله ويبغض تنفيذها الاحتلال، وتقف ذاكرتها عند بحور العشق متيمة، والفكرة الحقيقية سعي دؤوب ليلتئم الحب.
لقيت الفلسطينية صابرين أبو جزر مصرعها غرقاً في البحر، في رحلة موت مضت إليها مضطرة من أجل أن تلتئم فرحتها عبر لقاء خطيبها المقيم ببلجيكا.
في مدينة حدودها الحب، تنشأ علاقة يرضاها الله ويبغض تنفيذها الاحتلال، وتقف ذاكرتها عند بحور العشق متيمة، وقلب يمثل ميناء لمراسي الأمل، وشريك يشبه جسر الوصل لعاصمة الوطن، والفكرة الحقيقية سعي دؤوب ليلتئم الحب. هذا بعض من حال الوَلَه، الذي يعيشه المقترنون في قطاع غزة، حين يكون الشريك في بلاد ما وراء البحر، فالبداية خطبة عادية يفرح بها الشريكان، والنهاية قد تكون في البحر الذي يفصل بينهما في محاولة الالتئام لإتمام مراسم الزواج .
بين الفرح والحزن شهر
في جنوبي قطاع غزة غربي مدينة رفح - حي تل السلطان، دقت زغاريد الفرح قبل شهرين معلنةً زواج فتاة حلمت بأن تبني مستقبلها مع خطيبها الذي غاب عن يوم زفافه، وعن حدود هذا الوطن. وفي المكان ذاته، وبعد شهر واحد، نُصب بيت عزاء العروس التي حاولت التنقل عبر بحر الموت ليبتلع الموج روحها، ويخرج جسدها خاسراً النفَس الأخير لها في هذه الحياة.
استقبل أدهم زوجته صابرين، التي وصلت إلى الأراضي التركية، وتزوجا هناك، وعاشا معاً ثلاثة أسابيع، ثم عاد وحده إلى بلجيكا ليكمل عمله بعد انتهاء الإجازة المحددة له. وبقيت صابرين مع بعض الفتيات من الأصدقاء والعائلة، حتى ليلة "الثلاثاء"، بتاريخ 28 شباط/فيراير 2023، حين قررت وصديقاتها خوض رحلة الموت عبر بحر اليونان.
وقال أقرباء صابرين للميادين نت إنها كانت تخشى الرحلة، وودعت أهلها هاتفياً قبل الصعود على متن المركب، الذي انطلق بصورة طبيعية، وفق ما أكد أقرباؤها، بحيث كان يتابعها أحدهم عبر تقنية "GPS"، قائلاً إن "المركب الذي أبحر فيه المهاجرون كان سليماً تماماً، وعبر أكثر من ثلثي المسافة، لكن، فجأة توقف إرسال الهاتف. وحينها تحدثوا إلى المهرب، الذي أكد لهم انقطاع الإرسال من طرفه، وعلموا لاحقاً بأن القارب تعرّض للغرق في ظروف غامضة، على بُعد أقل من 500 متر عن الشواطئ اليونانية، بعد عملية دوران متعمَّدة نفّذها زورق تابع لخفر السواحل، مشيرا الى أن بعض الشبان تمكّن من الوصول إلى الشاطئ سباحة، في حين بقي آخرون عالقين في البحر ساعات، قبل أن يتم نقلهم، ومن كانوا لا يجيدون السباحة غرقوا، وماتوا، ومنهم صابرين.
وتابع علاء أبو جزر، عم صابرين، للميادين نت، أن العائلة تلقت خبر غرق القارب وفقدان صابرين كالصاعقة، وظلت العائلة في حالة لغط وترقب في انتظار الخبر اليقين، الأمر الذي دفع زوجها إلى التوجه إلى اليونان لمشاهدة الجثمان. ولاحقاً جرى تأكيد الخبر، وخصوصاً بعد اتصال من وزارة الخارجية الفلسطينية، يؤكد أن من بين الضحايا جثمان صابرين.
وقالت الأم المكلومة، سها، أن ابنتها صابرين كان كل حلمها أن تسافر وتصل إلى زوجها، وغامرت بحياتها على أمل أن تحظى بظروف حياة أفضل، وانطلقت في القارب رفقةَ عدد من أقربائها، بينهم ثلاث عرائس كن ينوين التوجه إلى أزواجهن.
عند عتبة الموت
تحدثت دينا (اسم مستعار) إلى الميادين نت عن هذه الحادثة الأليمة، التي جعلتها في دوّامة من القلق، قد يجعلها تُنهي العلاقة بخطيبها المقيم بألمانيا. وقالت: "كنا اتفقنا أنا وأحمد على أن أمضي إلى تركيا، وهناك سيأتي رفقة أخيه ليصطحباني إلى برلين. لكنّ ما حدث لصابرين جعلني أقف مكتوفة اليدين، كأني عند عتبة الموت، وينتابني ذهول وخوف كبيران، جعلاني أفكر جدياً في إنهاء الخطبة وفسخها، ما لم يستطع خطيبي القدوم إلى غزة والاستقرار فيها. وقالت إنها أخبرته بالأمر، "لكنه وعدني بأن يحاول إيجاد طريقة أفضل، أو البحث في إمكان لمّ الشمل عبر دائرة اللجوء هناك".
وتؤكد دينا أن الأمر برمته محاولة إسرائيلية لضرب جواز السفر الفلسطيني، مستذكرةً منشورا للصهيوني، إيدي كوهين، عبر "تويتر"، يقول فيه إنه "لو حمل الفلسطينيين جواز السفر الإسرائيلي لذهبوا الى أوروبا من دون تأشيرة"، لافتة إلى "أن محاولات الاحتلال الإسرائيلي القضاء على حياة الفلسطيني تزيدنا اصراراً وعزيمة على عدم ترك هذه الأرض، حتى لو كنا خارج حدودها. وإن وصلت الى المانيا، فسأعلم أبنائي حب هذا الوطن لا ذاك، وسأخبرهم بقسوة الأرض التي يقيمون بها، حين تركت صابرين وعدداً كبيراً من الشبان الفلسطينيين فريسة لأمواج البحر العاتية".
من سجن الاحتلال إلى سجن المخاوف
يضيّق الاحتلال الإسرائيلي المساحات على الفلسطينيين حتى يخنق آمالهم بالحياة، محاولاً قتل مشاعر الحب والفرح عبر حصاره المستمر منذ عام 2000، والذي تم تشديده على قطاع غزة عام 2006، ليصبح المواطن الفلسطيني حبيساً في أكبر سجن في العالم، اسمه غزة. وتزيدُ الطين بلة سياسات إفقار القطاع، وتكبيل الطاقات الشابة بالبطالة وغيرها من الأزمات، والتي شيئا فشيئاً تُعدم كل بارقة أمل في الحياة، الأمر الذي يدفع كثيرين من الشبان الفلسطينيين إلى البحث عن الأمل والعمل خارج حدود الوطن الفلسطيني.
ويقول يوسف (27 عاماً) من وسط قطاع غزة للميادين نت، وهو مقيم ببروكسل عاصمة بلجيكا: "تخرجت من الجامعة وحاولت جاهداً ان أحصل على فرصة عمل، وسعيت للعمل في القطاع، ولا سيما أني متخصص بالتجارة، إلا أن الدخل كان لا يكفي حاجتي الشخصية، وليس احتياجات أُسرتي، الأمر الذي جعلني يائساً من محاولة الاستمرار في العمل، وبدأت البحث عن سبيل أفضل في الحياة، لأجدني مدفوعاً بقوة الحاجة الملحّة إلى الهجرة".
ترك يوسف قطاع غزة عام 2016 متجهاً إلى أوربا عبر البحر، وهي الرحلة التي وصفها بالمثيرة، لكنها مثيرة للشفقة فقط، وأضاف: "كانت مغامرة لم أتخيلها، ولا أتمنى أن أعيش تفاصيلها لحظة أخرى. واجهنا موتنا عدة مرات على مدار أربعة أيام في البحر، وكلما وقعنا فريسة لأمواجه العاتية، أدركنا أنها النهاية، لكن الأقدار أوصلتنا أخيراً إلى وجهتنا".
ويشير يوسف الى أنه في سن الارتباط، وأنه كان يبحث عن شريكة حياته في الوطن، مستشهداً بالمثل الفلسطيني المشهور "من طين بلادك ليس على خدادك"، لكن تجربته المؤلمة تجعله متردداً في اختيار فتاة أحلامه من قطاع غزة، مدركا أن البحر أكبر عوائق حياة من يريد الهجرة، مستذكرا مشاهد الغرق لبعض أصدقائه وفتيات حاولن الوصول إلى البلد الغريب للقاء الحبيب .
الاحتلال والانقسام سبب رئيس
وفي حوار مع الميادين نت، حمّل الكاتب والحقوقي الفلسطيني، مصطفى إبراهيم، "إسرائيل" المسؤولية الكاملة عن الأوضاع البائسة في قطاع غزة، والتي تسببت بتدهور كل مجالات الحياة، ودفعت الشبان إلى الهجرة من القطاع، إلى الخارج، وصولاً إلى بلوغ الدول الأوروبية عبر أساليب غير شرعية، قد يتعرضون خلالها للموت.
وقال إن "الاحتلال الإسرائيلي والانقسام السياسي عاملان يدفعان إلى زيادة معدلات البطالة والفقر، وغياب الأمل لدى الشبان، الأمر الذي يؤدي إلى عزوفهم عن البقاء في غزة، وهرب أعداد كبيرة منهم إلى الخارج، والهجرة".
وأضاف: "يحاول الشبان، من خلال الهجرة، البحث عن أي بارقة أمل عبر حصولهم على عمل، وتغيير مستقبلهم، في ظل غموض فلسطيني، سياسياً واقتصادياً".
لكنه يذكّر بأن المهاجرين إلى الخارج يصطدمون بصعوبات وعراقيل كبيرة، قد يفقدون بسببها حياتهم، أو تزيد في معاناتهم ومخاوفهم.
مصرع 441 مهاجراً
وأعلنت المنظمة الدولية للهجرة مصرع 441 مهاجراً في وسط البحر الأبيض المتوسط خلال الربع الأول من عام 2023، ليكون بذلك الأكثر دموية بالمقارنة بالفترة نفسها منذ عام 2017.
وقال المدير العام للمنظمة الدولية للهجرة، أنطونيو فيتورينو، إن "الأزمة الإنسانية المستمرة في وسط البحر الأبيض المتوسط غير مقبولة، مع تسجيل أكثر من 26 ألف حالة وفاة فيها منذ عام 2014. وأخشى أن تصبح الوفيات أمرا عادياً، داعياً الدول امطلة على المتوسط إلى بذل جهود إضافية من أجل تسريع عمليات البحث والإنقاذ لتقليل الخسائر في الأرواح البشرية.
وأعرب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، عن قلقه من وضع طالبي اللجوء والمهاجرين، الذين يحاولون عبور البحر الأبيض المتوسط، ودعا إلى تضافر الجهود من أجل ضمان إنقاذهم، والنظر في طلباتهم في أماكن آمنة، عبر تأمين حياة كريمة ولائقة لهم.