"الآن سنجرب شيئاً آخر".. أكل الشارع في الهند مهنة الخيارات المفتوحة
يُعتَقد أن جذور طعام الشارع يعود إلى شوارع اليونان القديمة. أمّا في الهند فالأمر مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالثقافة الغنيّة والحضارات المتعاقبة ويرجع إلى فترة الامبراطورية المغولية والاستعمار البريطاني قبل أكثر من ستة قرون.
بعد أسبوع من وصولي إلى الهند، أنا الطالب السوري الذي جئت لأكمل دراستي هنا، دعاني أحد الأصدقاء في الجامعة إلى تناول الغداء، وفي الوقت نفسه أراد تعريفي إلى المنطقة التي يقع فيها سكني الجامعي، وعلى المحال القريبة التي تتوافر فيها المواد الأساسية. ارتديت ملابس تليق بعزيمة شبه رسمية وانتظرته، وما إن وصل حتى التفت يميناً وشمالاً، قائلاً: "أين تود تجريب الطعام؟"، أجبته بعفوية: "في المطعم الذي تختاره"، وتوجّه فوراً إلى بائع يضع بسطة صغيرة على طرف الطريق وإلى جانبه عشرات البسطات الأخرى، كان لدى البائع وعاء ممتلئ بالزيت تنتشر منه رائحة بهارات قوية.
وصفَه صديقي بأنّه من أمهر الباعة في المنطقة، فضلاً عن ذلك تربطه به صداقة من نحو عشر سنوات، الفترة التي بدأ فيها شراء الطعام من بسطته، لذلك قال إنه سيهتم بالطعام جيداً، عندئذ أدركت أن المطعم المقصود هو هذه البسطة، وسيكون الغداء بوضعية الوقوف على الأقدام! لم يبدُ المشهد مستغرباً على السكان المحليين، فهم يتجمّعون عند كل بائع على كثرتهم يتناولون الطعام بشراهة، ويستحيل أن ترى بائعاً واحداً من دون زبائن.
تاريخ أكل الشارع
يُعتَقد أن جذور طعام الشارع يعود إلى شوارع اليونان القديمة، حيث اعتاد اليونانيون بيع الأسماك المقلية في الشارع، وكان أغلب مستهلكيها من الفقراء. في روما القديمة كانت المنازل بمعظمها لا تحتوي على أفران، فضلاً عن أن منازل الفقراء لا تحوي مطابخ أصلاً، لذلك كان طعام الشارع يُستَهلك على نطاق واسع.
أمّا في الهند فالأمر مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالثقافة الغنيّة والحضارات المتعاقبة ويرجع إلى فترة الامبراطورية المغولية والاستعمار البريطاني قبل أكثر من ستة قرون، حيث شهدت تجارة أطعمة الشارع نمواً كبيراً بعد ارتفاع الطلب عليها حتى اليوم، خصوصاً مع ازدياد عدد السكان في الهند، إذ تحتلّ اليوم المرتبة الثانية عالمياً بعد الصين بما يزيد على مليار وثلاثمئة مليون نسمة. وتشير تقديرات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة إلى أنّ أكثر من مليارين ونصف مليار شخص في العالم يتناولون أكل الشارع يومياً.
الحكاية تختلف بين سوريا والهند
قبل نحو عشرين عاماً وفي المدرسة الابتدائية في سوريا، كان هناك درس في كتاب القراءة يحذّر من تناول الأطعمة المكشوفة في الشارع، وأذكر جيّداً كيف كان كل بائع حلوى مكشوفة بخاصة في الأحياء الشعبية منبوذاً من الأهالي الذين يحذرون أبناءهم من تناولها، إلا أن الحكاية تختلف كلياً في الهند، حيث ينتشر أكثر من ستة ملايين بائع لأكل الشارع في الهند، ومع أن الجميع يعلم جيداً انخفاض درجة نظافته مقارنة بأي مطعم عادي، إلا أنّ الهنود يفضلونه عن غيره، لا بل يبحثون عن أكثر الباعة بساطة وقدماً، فالبائع القديم يُتقن إعداد النكهة جيداً ويعرف أسرارها، وكل هذا يعود إلى أسباب كثيرة وواقعية من وجه نظرهم.
رخص الأسعار
تنخفض أسعار أطعمة الشارع إلى أكثر من النصف مقارنةً بمثيلاتها التي تُقدَّم في المطاعم والمولات، لذلك يميل معظم الهنود إلى تناولها يومياً، حتى التي يلزمها وقت طويل للطبخ (البرياني على سبيل المثال، الوجبة الهندية الشهيرة وموطنها الأصلي ولاية حيدر آباد) تستطيع تناولها في الشارع بكل سهولة، فقبل أن يستيقظ الجميع، هناك الآلاف من الباعة الذين قد أعدّوا كل شيء في وعاء ضخم للطهو لينهوا تحضيرها عند الساعة الأولى ظهراً، وهو الموعد المتعارف عليه لوجبة الغداء لدى الهنود على امتداد شبه القارة الهندية. غير أن نحو ثمانين في المئة من الهنود ينتمون إلى الطبقتين الفقيرة والمتوسطة ويجدون أن أكل الشارع هو الحل الأمثل والاقتصادي الذي يوافق دخولهم وأنماط عملهم. يقول البائع الذي تناولت الغداء عنده "الزبائن بمعظمهم هم من الطلاب ممن لا رواتب لديهم بعد، أو من العمال المياومين وصغار الكسبة".
التنوع والنكهة الأصلية
بعد الانتهاء من تناول الطعام الذي كان بكمية قليلة جداً، لم أستطع الصمت عن دهشتي، فقلت لصديقي إن المطاعم في سوريا تختلف كلياً في كل شيء، كان مدركاً أن الكمية قليلة فردَّ واثقاً " أكل الشارع في الهند يمثل المطبخ المحلي للمنطقة والنكهة الأصلية للوجبات، لذلك أردت لك تجربتها منذ البدء"، مردفاً "الآن سنجرب شيئاً آخر طبعاً"، بعد مضي نصف ساعة كنت قد جرّبت خمسة أنواع، مشيراً إلى أن واحدة من أهم سمات أكل الشارع الهندي هي تنوّعها الكبير، فإذا لم تعجبك وجبة ما، تستطيع الانتقال إلى شيء آخر، ومن بين عشرات الأنواع من المؤكد أن ذوقك سيتقاطع مع إحداها، غير أن هناك أصنافاً لا تتوافر إلا في الشارع.
الخضار والتوابل
تحتل الهند المرتبة الأولى عالمياً في عدد النباتيين، وتصل إلى 40% من عدد السكان، إذ يرجع سبب تفضيل الهنود الخضروات في أطباقهم بصورة رئيسة إلى أسباب دينية تحرِّم تناول اللحم أو منتوجات أي حيوان عند الهندوس والسيخ وغيرهم من الديانات، فضلاً عن العادات المتوارثة والتأثر بالمحيط عند المسلمين. حيث تلبّي طريقة طهو أكل الشارع رغبة الزبائن، والسر في عدم فقدان الخضروات نضارتها وقيمتها الغذائية بعد طهوها، وما يجعلها أكثر متعة، هو إضافة أنواع كثيرة من البهارات إلى الطعام، بخاصة الكركم والزنجبيل والفلفل، ما يجعل الطعام صحياً بامتياز. ومن الجدير ذكره أن الهند تعد البلد الأول عالمياً في تصدير البهارت.
القائمة متاحة دائماً في وقت قصير
لن يقول لك أحد مطلقاً: "معذرة الوجبة التي تريدها ليست في القائمة اليوم" كما يحدث في بعض المطاعم، أو تضطر إلى الانتظار ساعة لإعدادها بعد طلبك من النادل، وهذه ميزة تضاف إلى أكل الشارع في الهند، عليك فقط أن تختار الوجبة وتتوجّه إلى مكان العربات المنتشرة في كل مكان لتناول وجبتك في أقصر مدة ممكنة، فكل شيء ينتظر الزبائن المتشوِّقين إلى الطعام. يبتسم أحد الباعة بثقة قائلاً: "بعض المطاعم المجاورة تستعين سرّاً في أوقات الذروة بنا لتقديم بعض الوجبات لزبائنها بسرعة أكبر". ويضيف: "نستطيع تقديم الطعام لعدد أكبر من الزبائن خلال يوم العمل من دون ضرائب".
إضافة المكونات حسب الطلب
يميل الهنود إلى تعدد النكهات وكثرة المكونات في الوجبة الواحدة بمقادير مختلفة، لذلك يسهِّل أكل الشارع عليهم طلب ذلك من البائع مباشرة وفقاً لأذواقهم، أو إلى إزالة مكوّن ما من الوجبة، وذلك يعود إلى الوجبة نفسها. على سبيل المثال بعض الوجبات لا تحتوي على البصل والكزبرة الخضراء، لذلك تطلبها على نحو خاص من دون أي زيادة في الأسعار، يقول صديقي "إذا أردت فعلاً ذلك في أي مطعم فسيطلبون مزيداً من المال، هنا لا داعي إلى كل ذلك"، مكمّلاً تناول وجبته بسعادة غامرة.
دعم الاقتصاد المحلي
تتجاوز فكرة البيع في الشوارع تعريفها التقليدي، فهي تفتح آفاقاً جديدة للنشاط الاقتصادي، إذ أصبحت شكلاً من أشكال ريادة الأعمال الصغيرة وتساهم كثيراً في معالجة مشكلة البطالة التي تواجه الهند، وهو ما دفع الحكومة الهندية إلى الاعتراف قانوناً بالمهنة بموجب قانون الباعة الجوّالين لعام 2014. وتعرض البائعون لأزمة كبيرة في فترة الحجر الصحي الذي فرضته الحكومة الهندية من جرّاء تفشّي وباء كوفيد 19، إذ اضطر كثير منهم إلى استنفاد مدخراتهم، ما دعا الحكومة أيضاً الى تزويد نحو مليوني بائع تسهيلات ائتمانية صغيرة لتمكينهم من بدء نشاطاتهم التجارية في البيع من جديد بعد انتهاء الحجر.