اعتداءات متواصلة ونزوح للأهالي.. طبول الحرب تقرع في شرق الفرات
الأوضاع المعيشية الصعبة التي تعيشها مناطق سيطرة "قسد" منذ سنوات، واستئثار القادة الكرد بالثروات، دفع الأهالي لتأكيد ضرورة تجنيب المنطقة ويلات الحرب، لأنها تعني انهيار البنية الاجتماعية والاقتصادية بالكامل.
على طريق القامشلي - المالكية في ريف مدينة الحسكة في أقصى شمال شرق سوريا، تحوّلت مئات المنازل والفِلل والمنتجعات الفاخرة إلى أماكن خاوية من أصحابها، بعد هروبهم نحو إقليم كردستان العراق أو باتجاه المدن السورية الأخرى، خوفاً من هجوم محتمل للفصائل التابعة للإدارة السورية الجديدة بدعم تركي على مواقع قوات سوريا الديمقراطية "قسد" ضمن المناطق الواقعة على طول الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا، والممتد من ريف حلب الشمالي الغربي وصولاً إلى الحدود العراقية، وهي المناطق التي يسيطر عليها الكرد منذ العام 2012 وتُسمى "الجزيرة السورية"، وتُعرف اصطلاحاً بمنطقة "شرق نهر الفرات".
المنازل والمنتجعات التي تقدّر قيمتها بمئات الملايين تعود ملكيتها إلى قيادات "قسد" الكردية، الذين استشعروا الخطر منذ اللحظات الأولى لإعلان سقوط نظام بشار الأسد في دمشق؛ فما كان منهم إلا أن عرضوا ممتلكاتهم للبيع خوفاً من أيّ عمل عسكري باتجاه مناطق سيطرتهم، فيما قرر آخرون الهروب سريعاً بدون التفكير بأيّ شيء آخر.
على مدار 12 عاماً، تمكّنت "قسد" وقاداتها من بناء إمبراطوريات اقتصادية ضخمة في مناطق شرق الفرات، بالاستفادة من تجارة النفط والغاز والقمح، إضافة إلى تهريب كميات كبيرة من هذه المواد إلى الخارج، الأمر الذي حقق عوائد مالية شهرية تُقدّر بمئات الملايين من الدولارات شهرياً.
معلومات للميادين نت أكدت أن بعض القادة البارزين في "قسد" فرّوا من شرق الفرات بعد اختلاسهم ملايين الدولارات، ومنهم "هفال عكيد" المسؤول المالي لقوات سوريا الديمقراطية في مدينة الرقة، حيث هرب خارج البلاد وبحوزته مليون و850 ألف دولار أميركي، وأيضاً "هفال معروف" مسؤول حقول النفط في ريف مدينة دير الزور الذي اختلس أكثر من 750 ألف دولار واختفى عن الأنظار، وغيرهما الكثير من قادات "قسد".
سقوط الأسد ورعب "قسد"
شوارع ريف حلب الشرقي وريف الرقة الشمالي والغربي وأرياف الحسكة شهدت خلال الأيام الماضية حركة نزوح كبيرة للمدنيين على وقع تصاعد العمليات العسكرية، والمخاوف من اتساعها وامتدادها إلى عمق شرق الفرات، الذي يشكّل معقل "قسد" الرئيسي شمال شرق سوريا، إلا أن عمليات النزوح ارتبطت بشكلٍ وثيق بحالات الفرار الجماعي لقيادات "قسد" والانشقاقات المتواصلة ضمن صفوفها منذ 8 كانون الأول/ديسمبر الماضي، ما أدخل الرعب إلى قلوب المدنيين في تلك المناطق، خصوصاً مع تصاعد وتيرة المعارك في عفرين بريف حلب شمال سوريا.
عمليات النزوح تتم في الغالب إلى القرى والبلدات الكردية المتاخمة للحدود العراقية، بانتظار ما إذا كانت المنطقة ستشهد عملاً عسكرياً كبيراً أم ستنتهي الأزمة الحالية عبر توافق سياسي بين "قسد" والقيادة العامّة الجديدة في سوريا.
وفي سياق متصل، أكدت معلومات للميادين نت أن "قسد" استولت على عشرات المنازل التي تعود ملكيتها للعرب ضمن ما يُعرف بالمربع الأمني ضمن مدينة القامشلي، تحت قانون "مصادرة أموال الغائب"، وبحجة أن أصحاب تلك المنازل خارج سوريا، كما استولت على قسم من المدارس الخاصّة والمساكن العسكرية بالقامشلي، واستولت على مساكن الشرطة ومساكن أمن الدولة في مدينة الحسكة، وحوّلت الأماكن المُستولى عليها إلى مراكز إيواء الهاربين من معارك "عفرين" بريف حلب.
الأهالي يرفضون وجود "قسد"
الأوضاع المعيشية الصعبة التي تعيشها مناطق سيطرة "قسد" منذ سنوات، واستئثار القادة الكرد بالثروات، دفع الأهالي لتأكيد ضرورة تجنيب المنطقة ويلات الحرب، لأنها تعني انهيار البنية الاجتماعية والاقتصادية بالكامل، خصوصاً أن شرق الفرات شهد معارك عنيفة بين الأطراف المختلفة منذ بدء الحرب في سوريا، ما أدى إلى تدمير البُنى التحتية والمرافق الحيوية.
وشهدت مدينة الرقة شمال سوريا مؤخراً تظاهرة شعبية واسعة طالبت "قسد" بالخروج من المدينة لمنع وقوع أعمال عسكرية، فما كان من عناصر قوات سوريا الديمقراطية إلا أن واجهوها بالقوة العسكرية وإطلاق الرصاص على المتظاهرين ما أوقع جرحى في صفوفهم.
هذه الحادثة تعكس حالة الخوف المزدوج التي تعيشها مناطق شرق الفرات، سواء من المدنيين أو من جانب قوات سوريا الديمقراطية، التي أعلنت النفير العام وفرضت التجنيد على مختلف الشرائح المدنية في مناطق سيطرتها، حتى كبار السن الذين تم اقتيادهم من الحواجز الأمنية إلى معسكرات التدريب، ليتم لاحقاً زجّهم على جبهات القتال.
وفي هذا السياق يؤكد الناشط فيصل كوجك من مدينة القامشلي للميادين نت أن المنطقة تشهد غلياناً عسكرياً غير مسبوق، وسط حركة نزوح كبيرة للمدنيين الذي لا يريدون أن يكونوا وقوداً للحرب المنتظرة، لذلك لجأ الآلاف منهم إلى أقصى ريف القامشلي عند المثلث الحدودي السوري - التركي - العراقي، بينما فضّل آخرون التوجه نحو محافظات حمص ودمشق وريف دمشق، في ظل المخاوف من حرب طاحنة بين "قسد" والإدارة الجديدة في سوريا، في حال رفض الكرد الاستجابة لطلبات دمشق.
ويضيف كوجك أن مدن الحسكة والرقة وريف دير الزور شهدت خلال الأيام الماضية حركة ضعيفة، كما لجأ الأهالي إلى تخزين كميات كبيرة من المواد الغذائية خوفاً من انقطاعها إذا اندلعت الحرب، وهو ما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكلٍ غير مسبوق، حيث تضاعفت أسعار السلع الأساسية إلى ثلاثة أو أربعة أضعاف في بعض الأحيان، وهذا الأمر أثّر بالدرجة الأولى على الفقراء وأصحاب الدخل المحدود.
انهيار الدولار "يزيد الطين بلّة"
منذ سيطرة "قسد" على شرق الفرات فتحت باب التعامل التجاري بالدولار الأميركي، على عكس باقي المناطق السورية التي كانت تتعامل بالليرة السورية فقط، لذلك كانت عمليات البيع والشراء والتحويلات الخارجية إلى مدن شرق الفرات تتم غالباً بالدولار، إلا أن الأيام التي تلت سقوط نظام بشار الأسد شهدت تحسّناً كبيراً في سعر صرف الليرة السورية في عموم المناطق السورية وتراجع قيمة الدولار الأميركي، وهذا الأمر أدى إلى حالة ركود كبيرة في أسواق شمال شرق سوريا الخاضعة لسيطرة "قسد".
انخفاض سعر صرف الدولار الأميركي لم يكن السبب الوحيد الذي أدخل الأسواق في حالة ركود، حيث ساهم توقف الإنتاج الزراعي وجمود عمليات بيع المواشي بتراجع الوضع المعيشي في المنطقة التي تعتبر "خزان سوريا الزراعي"، كما شهدت الأراضي الزراعية تكدّساً في المحاصيل نتيجة عجز الفلاحين عن تصريفها بسبب الأوضاع الأمنية المتوترة، في حين ترك عشرات المزارعين حقولهم ونزحوا إلى مناطق أخرى.
وفي هذا السياق يكشف التاجر جوزيف صايغ من مدينة الحسكة للميادين نت أنها المرة الأولى منذ 14 عاماً التي تشهد فيها أسواق شرق الفرات حالة مماثلة، فالمواد المعروضة لا تجد من يشتريها، نتيجة انعدام القدرة الشرائية للأهالي، وحركة النزوح المتواصلة، وارتفاع الأسعار بشكلٍ جنوني.
ويضيف الصايغ أن "قسد" لعبت في السنوات الأخيرة دوراً أساسياً في تردّي الوضع المعيشي، من خلال السياسات الاقتصادية غير المدروسة، وفرض الضرائب من قبل مؤسساتها على التجار والفلاحين، مع إجبار عناصرها للمدنيين على دفع أتاوات مالية كبيرة، لذلك فإن الأهالي اليوم يريدون التخلّص من عباءة قوات سوريا الديمقراطية التي رهنت نفسها بالمطلق للولايات المتحدة الأميركية وربطت وجودها بالقوات والقواعد الأميركية في شرق الفرات على حساب السوريين أصحاب الأرض.
أميركا تتمدد بعد سقوط الأسد
استغلّت القوات الأميركية المنتشرة في الشرق السوري سقوط نظام بشار الأسد وحالة الفوضى في الأيام اللاحقة ضمن مناطق شرق الفرات من أجل تعزيز قواعدها العسكرية، حيث استقدمت تعزيزات ضخمة شملت دبابات ومدرعات ومصفحات إضافة إلى عتاد عسكري ولوجستي، كما رفعت عدد جنودها من 900 إلى أكثر من 4500 جندي دفعة واحدة، كما شهدت المطارات العسكرية في قاعدتي "خراب الجير" و"مساكن حقول الجبسة" هبوط عدد كبير من طائرات الشحن العسكرية خلال الأيام الماضية.
بالتوازي مع التعزيزات في القواعد العسكرية، كثّفت القوات الأميركية انتشارها في مراكز المدن الرئيسية وتحديداً بمحيط سجون "كم البلغار" و"السجن المركزي" و"الصناعة"، إضافة إلى نشر مدرعات بمحيط مخيمي "الهول" و"روج"، حيث يوجد معتقلو تنظيم داعش وعوائلهم، وهو ما أثار تساؤلات عديدة حول طبيعة الإجراء الأميركي وأسبابه، وسط مخاوف من استخدام ورقة "سجناء داعش" لعودة إحياء التنظيم بمواجهة تقدم قوات القيادة العامّة الجديدة في سوريا.