وسائل الإعلام والقراءة المقلوبة للتقارب السوري- التركي
ما إن أبدت تركيا رغبتها في الحوار مع دمشق، والسعي لإعادة العلاقات معها إلى سابق عهدها، حتى بدأت المواجهات في الشمال السوري بين الجيش التركي، والمسلحين السوريين الذي دعمهم إردوغان.
دأبت وسائل الإعلام القول إن إردوغان أبدى استعداده للقاء الرئيس الأسد، فيما الحقيقة هي أن إردوغان كان قد أبدى استعداده لذلك منذ سنوات، لكن الرئيس الأسد كان يعتقد أن اللحظة لم تأت بعد.
ذلك أن سوريا لم تكن ترغب في تقديم ورقة تساعد إردوغان انتخابياً، خاصة وأن المعارضة التركية كانت تسعى لفتح صفحة جديدة من العلاقات مع دمشق.
لكن، وبعد فوز إردوغان، كان لا بد من التعاطي مع الأمر بواقعية وبراغماتية، من دون المساس بالمبادئ والمقدسات، وفي مقدمتها ضمان الانسحاب التركي من الأراضي السورية المحتلة.
كانت سوريا قد اشترطت سابقاً الانسحاب التركي من كامل الأراضي السورية لحدوث هذا اللقاء. لكن، يبدو أن زيارة المبعوث الروسي الخاص لافرينتيف الأخيرة إلى دمشق، قد حملت ضمانات حقيقية إلى سوريا لحدوث ذلك الانسحاب تدريجياً، لتكون القوات السورية قادرة على ملء الفراغ.
لذا، فقد جاءت تصريحات الرئيس الأسد كما لو أنها حملت بعض المرونة لجهة القول إن سوريا منفتحة على جميع مبادرات التطبيع ما دامت تركيا تحترم سيادة سوريا، وتعلن استعدادها للتعاون مع دمشق في مكافحة الإرهاب.
أنقرة... مقاربات جديدة لعودة العلاقات مع دمشق
مقاربات جديدة أبدتها تركيا لعودة علاقاتها مع دمشق بدأت منذ العام 2022، وازدادت قبل الانتخابات الرئاسية التركية التي جرت في العام 2023، والتي فاز فيها الرئيس رجب طيب إردوغان لولاية رئاسية لمدة خمس سنوات قادمة.
ثم جاءت الانتخابات المحلية التي جرت في العام 2024، والتي كانت نتائجها مخيبة للرئيس إردوغان وحزبه، ولتعلن أن المعارضة التركية لا تزال قوية، وأن أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول سيكون منافساً مستقبلياً قوياً لإردوغان.
إردوغان من جهته قرأ الحدث قراءة واقعية، وعدّه نقطة تحوّل مفصلية، باعتباره أكبر هزيمة له ولحزبه، بعد حكمه البلاد لأكثر من عقدين من الزمن.
تراجع شعبية حزب "العدالة والتنمية" يعود إلى عدة أسباب، أهمها الواقع الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم لتصل إلى نحو 70%، وتباطؤ النمو بسبب السياسات الحكومية القائمة على التشديد النقدي.
وما يزيد من تعقيدات المشهد الاقتصادي وجود عدد كبير من اللاجئين السوريين في تركيا، حيث يرى معظم الأتراك أن ملف اللاجئين بات عبئاً كبيراً عليهم، لذا يجب وضع نهاية جذرية لهذا الملف.
وكانت تركيا قد استثمرت في اللاجئين السوريين سياسياً واقتصادياً خلال السنوات الماضية، واستخدمتهم فزاعة في وجه الدول الغربية التي باتت تخشى على نفسها من تدفق المزيد منهم إلى حدودها.
تغيرات المشهد الدولي بشكل عام، وتراجع مكانة الولايات المتحدة الأميركية وفاعليتها على المسرح الدولي، دفعا تركيا إلى التقرب أكثر من موسكو وطهران والصين وبعض الدول العربية.
هذا المحور كان في أغلبه داعماً للدولة السورية، وبات اليوم بأكمله تقريباً مع عودة الأمن والاستقرار إلى سوريا، وخاصة بعد عودتها إلى الجامعة العربية، والتقدم في ملف العلاقات السورية العربية، والذي يجري التقدم فيه بهدوء، وبعيداً من الإعلام.
لذا، لم تكن مستغربة تلك التصريحات التي صدرت عن الرئيس إردوغان، وزعيم حزب "الشعب الجمهوري" المعارض الرئيسي في تركيا، أوزغور أوزال، إذ أبدى كلاهما استعداده لعودة العلاقات مع دمشق إلى سابق عهدها.
إردوغان، من جهته، رأى أنه لا يوجد ما يمنع عودة العلاقات بين البلدين إلى وضعها الطبيعي، مبدياً استعداده للقاء الرئيس بشار الأسد، مشيراً إلى أنه في السياسة لا توجد خلافات دائمة ولا صداقات مستمرة.
دمشق.. المصالح الوطنية أولاً وقبل كل شيء
أوزال، من جهته، رأى أن حزبه يسعى للقيام بـ "الدبلوماسية غير الرسمية" مع سوريا، مبدياً نيته الذهاب إلى دمشق والاجتماع مع الرئيس الأسد، مشيراً إلى أن تلك الزيارة لن تكون بعد فترة طويلة، بل خلال هذا الصيف، إذا سمح له بذلك.
دمشق، من جهتها، ترغب في وضع نهاية للسنوات العجاف التي مرت عليها، وتسعى لاستعادة سيادتها على كامل الأراضي التي تحتلها تركيا، لتنتقل تركيا من دولة محتلة إلى دولة جارة لسوريا.
إعادة انتخاب إردوغان أكدت لدمشق ضرورة التعامل معه، شريطة إبدائه الرغبة في الانسحاب من الأراضي السورية، وطي صفحة الماضي، ونسيان حلمه في استعادة الإمبراطورية العثمانية، هذا الحلم الذي وأد في سوريا بكل تأكيد.
إدراك سوريا فكرة أن "حقك لا يمكن أن يضيع إلا عندما تتنازل عنه"، ساعدها في الصمود وعدم تقديم أي تنازلات للاحتلال التركي.
الأيام تثبت يوماً بعد يوم أن الانتصارات التي يمكن تحقيقها في الواقع الميداني هي التي تحدد موقف العالم من سوريا، وليس العكس.
القطيعة النفسية التي تشكلت لدى الرئيس الأسد تجاه إردوغان سيجد نفسه ربما مضطراً لتجاوزها، حفاظاً على "مصلحة سوريا"، التي هي فوق كل المصالح، وهو ما كان قد أكده في إحدى مقابلاته التلفزيونية في العام 2019.
وكان الرئيس الأسد اعتبر أن إردوغان بات أداة بيد الولايات المتحدة الأميركية لتنفيذ العديد من سياساتها في المنطقة، ورأى الرئيس الأسد أن الدور التركي كان خبيثاً في تعاطيه مع الأزمة السورية.
تدرك دمشق أن عودة العلاقات بين البلدين لن تكون معبّدة بالورود، فهناك مفاوضات شاقة ستستضيفها بغداد، وترعاها العديد من الدول الضامنة، وخاصة روسيا والصين والمملكة العربية السعودية والإمارات والعراق.
استعادة الثقة بين البلدين هي المهمة الأصعب، والتي لن تكون موجودة بكل تأكيد لدى الجانب السوري الذي سينطلق من "سوء النية"، تجاه كل ما يصدر عن الجانب التركي، كي لا نلدغ من الجحر مرتين.
إجراءات بناء الثقة ستكون على شكل نتائج لا مقدمات، بحكم السوابق التي امتاز بها النظام التركي في تعاطيه مع سوريا، والتي انقلب عليها ليكون ألد أعدائها، بعد أن كان صديقها المقرب.
حتى لو تطورت العلاقات بين البلدين، فلن يكون للبعد الشخصي لصانع القرار السياسي السوري دور كبير في دفع تطور تلك العلاقات، نتيجة للقطيعة النفسية التي تحدثنا عنها، وبالتالي فإن البراغماتية ستكون حاضرة وبقوة هذه المرة.
عودة العلاقات بين البلدين لن تعيد الثقة بينهما، فالثقة كانت مفقودة تاريخياً بينهما، وقد تبادل البلدان الاتهامات بمساعي كل منهما لزعزعة الأمن والاستقرار في البلد الآخر، فبينما استضافت تركيا الإخوان المسلمين وهيأتهم ليكونوا أداة بيدها يمكن استخدامهم عند الضرورة، كانت دمشق تستضيف عبد الله أوجلان وتقدم الدعم لحزبه.
تركيا والمجموعات الإرهابية المسلحة.. نهاية شهر العسل
ما إن أبدت تركيا رغبتها في الحوار مع دمشق، والسعي لإعادة العلاقات معها إلى سابق عهدها، حتى بدأت المواجهات في الشمال السوري بين الجيش التركي، والمسلحين السوريين الذين دعمهم إردوغان.
حيث رأى هؤلاء أنهم باتوا أضحوكة ولعبة بيد التركي، وأن دورهم قد انتهى.
وكانت تركيا قد لعبت دوراً كبيراً في تأجيج الحرب على سوريا، ففي آب/أغسطس 2011، رعت الحكومة التركية تشكيل ما يسمى "الجيش الحر"، والذي ضم عدداً من عناصر الجيش السوري وضباطه الفارين.
وفي نيسان/أبريل 2012، استضافت إسطنبول مؤتمر "أصدقاء سوريا"، وضم ممثلين لأكثر من 70 دولة، كان الهدف منه المزيد من الضغط على الحكومة السورية لتطبيق ما سمي بـ "خطة السلام" التي اقترحها المبعوث الأممي كوفي أنان.
وفي الشهر ذاته، طلبت تركيا من الأمم المتحدة المساعدة لمواجهة تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين إليها. وتشير البيانات الصادرة عن دائرة الهجرة التركية إلى وجود ثلاثة ملايين لاجئ سوري في تركيا اليوم.
وفي تشرين الأول/أكتوبر من العام 2012، حصلت الحكومة التركية على تفويض من البرلمان يخوّلها القيام بعمليات عسكرية داخل الأراضي السورية، دعماً للمسلحين ورفعاً لمعنوياتهم.
ثم عادت تركيا في آب/أغسطس من العام 2013، لتعلن موقفها، وعلى لسان رئيس وزرائها آنذاك إردوغان، الداعي إلى ضرورة إسقاط "نظام الرئيس الأسد"، وأن يكون ذلك هدفاً لأي تدخل عسكري في سوريا.
وفي العام 2014، أغلقت تركيا عدداً من معابرها الحدودية مع سوريا، بعد دخول عشرات الآلاف من الكرد السوريين إلى أراضيها.
كما وافق البرلمان التركي في تشرين الأول/أكتوبر 2014 على السماح للقوات التركية بالسماح للقوات الأجنبية باستخدام الأراضي التركية في القتال لمواجهة تنظيم "داعش" الإرهابي، والسماح للقوات التركية بتنفيذ عمليات داخل الأراضي السورية والعراقية.
خلاصة
يبدو أن مساعي تركيا للتنسيق مع سوريا في مجال مكافحة الإرهاب تتطلب منها التخلي عن دعم "المعارضة السورية"، مقابل تعاون دمشق مع أنقرة في وضع حد لعصابات "قسد" الإرهابية.
لا تفوتنا الإشارة إلى أن عدداً كبيراً من المواطنين السوريين كانوا قد أجبروا ربما على الخروج إلى تركيا هرباً من العصابات الإرهابية، وأن من حق هؤلاء العودة إلى وطنهم، وهو ما دعت إليه الحكومة السورية منذ سنوات. كما أن عصابات "قسد" الإرهابية لا تمثل كرد سوريا الوطنيين الذين يعدّون أنفسهم سوريين أولاً وقبل كل شيء.
مراسيم كثيرة للعفو العام كانت قد صدرت من السيد رئيس الجمهورية، ومن المتوقع صدور مرسوم عفو عام شامل، يشمل كل من لم تتلطخ يديه بالدماء، سعياً من الدولة السورية لتأمين العودة السالمة لأبنائها الراغبين في ذلك.