هل سينتهي ذلك كلّه أو يُنسى؟
المرحلة اللاحقة للحرب بعد أن تتوقّف، سوف تغيّر بالضرورة الشيء الكثير في الوعي العالمي تجاه الصراع في الشرق الأوسط، وفي فهم الأحقّية التاريخية لأصحاب الأرض في مواجهة الاحتلال.
لا تزال هذه الحرب، حرب الإبادة التي تخوضها "إسرائيل" ضدّ الشعب الفلسطيني، تستدعي اهتمام الجميع بالمتابعة والتحليل واكتشاف المضامين والنيّات وأفق المستقبل.
وهي للحقيقة مهمة شاقة ومعقّدة، لكن اللافت أيضاً أنها بطبيعتها وحجمها ومدتها الزمنية التي لا تزال مفتوحة، لم تنل الاستجابة الكافية حول العالم.
والقول بذلك لا يلغي أنها أحدثت أثراً عميقاً ممتداً على مساحة العالم، واستنهضت شرائح شديدة الأهمية من نخب ثقافية وسياسية وطالبيّة، وبالأخص جيل الألفية الذي توفّرت له فرصة مشاهدة حقيقة الكيان الإسرائيلي وطبيعة أعماله وأهدافه القديمة، التي لم تكن واضحة لكثر من هذه الشرائح المذكورة.
أما النقص في الاستجابة، فالمعني فيه هي الدول ونخبها الحاكمة، وهي إن اندفعت إلى التعبير عن موقف مهم في الجمعية العامة للأمم المتحدة أيّدت فيه قيام دولةٍ فلسطينية 136 دولة، وأظهرت عزلةً أميركية نسبية في هذا السياق، إلا أن الاستجابة لحرب إبادة لا بدّ أن تكون حاسمةً وصارخة ومستمرة، حتى يليق بها القول إنها استجابة متناسبة مع حجم الحدث الكبير.
فحرب الإبادة لشعبٍ ـــــ أيّ شعب ـــــ تستوجب أن ينهض العالم بأسره لوقفها ومعاقبة مرتكبيها دفاعاً عن دول العالم وشعوبه كافة، وليس عن الشعب الواقع تحت هذه الحرب بعينها. ذلك أنّ القبول بها، أو التساهل معها، أو غضّ الطرف عن حقائقها، سوف يُفقد أي حالةٍ أخرى من الإبادة قدراً كبيراً من قدرتها على توفير استجابةٍ عاصمة من مثيلها. أن يدافع العالم عن الفلسطينيين اليوم، وأن يعاقبوا "إسرائيل" لا حكومةً بعينها فحسب، هو من أولى الضرورات التي يمكن أن تحمي العالم من جريمةٍ بهذا الحجم في المستقبل.
وهنا لا بدّ من القول إن الآثار المتوقّعة لهذه الحرب، مع هذا القصور في الاستجابة، لم تُبرز بعدُ وقعها الحقيقي. بل إن المرحلة اللاحقة للحرب بعد أن تتوقّف، سوف تغيّر بالضرورة الشيء الكثير في الوعي العالمي تجاه الصراع في الشرق الأوسط، وفي فهم الأحقّية التاريخية لأصحاب الأرض في مواجهة الاحتلال، وتُظهر هوامش جديدة لهؤلاء في التعامل مع قضيتهم في بعدها العالمي.
لقد بدأت هذه الحرب باصطفافٍ غربيٍ عارم ضد المقاومة الفلسطينية وإلى جانب "إسرائيل". ثم أدّت مجرياتها وما تكشّف فيها من نزعة أصيلة في الشخصية الإسرائيلية لممارسة القتل الجماعي المعمّم، المنهجي في سياقه المخطّط، والعشوائي في استهدافه للمدنيين من جميع الأعمار، أدّت إلى تقويض الدعاية الإسرائيلية وامتداداتها الغربية حول "الدولة" الديمقراطية والشعب الناجي من صراعات أوروبا، ومفرزات المسألة اليهودية هناك، وأبدت بدلاً من ذلك كياناً دموياً مستعدّاً للقتل الهادف أو المجاني، طالماً أن في ذلك مصلحة سياسية أو استيطانية أو حضارية وفق المنظور الذي تحدّث به رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو حول أنها حرب حضارية.
رؤية نتنياهو هذه التي توجّه بها إلى الغرب، تقوّض بحد ذاتها السردية التاريخية للكيان وللغرب معه، بأن الشعب اليهودي الذي أسس "إسرائيل" هو ابن هذه المنطقة، وصاحب الحقّ في الأرض التي استولى عليها وبنى فيها "دولته".
ذلك أنه في سياق دعايته الجديدة هذه، يهدف إلى حشد الغربيّين إلى جانب حرب الإبادة كضرورةٍ لوقاية الحضارة الغربية من خسارة حربٍ مصيرية تؤدي لاحقاً إلى خسارتها المواجهة العالمية مع الحضارات الأخرى. لكن نتنياهو في الوقت نفسه، كشف بذلك أن الكيان الصهيوني هذا ما هو إلا محطةٌ متقدمة للحضارة الغربية في حربها على حضاراتٍ أخرى. وأنه بهذه الحرب الدائرة، يواجه الحضارة العربية ـــــ الإسلامية، في إحدى حروب الغرب على الحضارات الأخرى.
ولا بدّ هنا من تبيّن أنّ هذا المنطق يتواءم مع المنطق الغربي حين يُروّج عبارة "الحضارة" أو "العالم المتحضّر" بصيغة المفرد، على أنها "الحضارة" وليس "حضارةً" من بين حضارات أخرى.
الغرب دأب على ترويج هذه الفكرة، بأنّ من التحق به متحضّر بمقتضيات الحضارة المطلقة، وهي في الحقيقة الحضارة الغربية وحدها. بينما للآخرين حضاراتهم غير المعترف بها في الغرب، وهو ما يوضح السبب العميق للصراعات المفتوحة الآن، وهو واحد من أسباب تعثّر إقفال أي حربٍ كبرى من الحروب المفتوحة، أوكرانيا وفلسطين، وأفريقيا في غير جهةٍ منها، والصين لاحقاً. وقد أجاد ألكسندر دوغين في تفصيل هذه الفكرة حول الحضارة في مواجهة الحضارات.
حسناً هذا ما يبدو من طبيعة الصراع في بعده الحضاري، لكن ماذا عن النيّات المباشرة لنتنياهو وكيانه الآن؟ وما الذي يريده من التوغّل في الضفة الغربية بعد غزة؟
في السياق الممنهج والعريض، تبدو نيّة نتنياهو في الضفة استمراراً لنيّته تجاه غزة. وهي تتلخّص في تدمير المجتمع الفلسطيني، وليس تدمير البنى العسكرية لحركات المقاومة هناك. يذهب بعد غزة، التي لا تزال مفتوحةً وصاخبةً في مقاومتها وعنادها وتمسّكها بحقها في الأرض والحياة، إلى الضفة التي يتذرّع بخطر وجود مقاومةٍ فيها، ليمارس تفكيك المجتمع الفلسطيني بمجمله. وهذا يطال احتمال الوصول إلى وحدةٍ سياسية (الدولة)، كما يطال ضرب الوحدة الإدارية والجغرافية والاتصال المجتمعي بين مدن وقرى وأهالي الضفة.
النظرة إلى الأمر تشير إلى أنّ نتنياهو يريد الآن مع تحالفه الذي يمثّل حقيقة الكيان، أن يقفز فوق الحرب كلّها، ليصنع نتيجةً استراتيجية وأمراً واقعاً لا تبقى معه إمكانية لقيام دولةٍ فلسطينية، أو بقاء حالة فلسطينية لها هويّتها وناسها وخياراتها، تقاتل أو تفاوض حتى، لها إرادة خاصة ونبضٌ خاص، تقبل وترفض، أو حتى تعيش.
لا يرى نتنياهو في الفلسطينيين تلويناتٍ مختلفة بين الاتجاهات الحزبية، أو بين الخيارات المختلفة، هو يرى الجميع فلسطينيين، وهذا ما يوجب أن يرى الفلسطينيون أنفسهم كذلك بصورةٍ حاسمة لبقائهم. الفكرة هذه حول تدمير المجتمع الفلسطيني يتحدّث عنها آلان غريش في كتابة "فلسطين شعبٌ لا يريد أن يموت".
وهي في الواقع عملية جارية تقتضي حالة طوارئ عربية وإسلامية مناصرة للشعب الفلسطيني أولاً، ثم تكون وقائيةً لمصلحة الأمن القومي للدول العربية والإسلامية التي تضعها "إسرائيل" نصب أعين تخطيطها البعيد (مع غياب واقعية الحديث عن أمنٍ قوميٍ عربيٍ أو إسلاميٍ وفق المعطيات الحالية). الأردن ومصر في خطر شديد من جراء ذلك، وهو خطرٌ قد يبدو الآن بعيداً من منظار الأحداث الجارية، لكنه أقرب مما يتصوّره أحد من ناحية التخطيط الجاري أيضاً، والتطلّعات المستقبلية لهذه الآلة الفتّاكة والخائفة في آنٍ واحد.
شكلٌ متخيّلٌ للمستقبل
سوف تنتهي هذه الحرب، فهي تجري في بيئةٍ دولية من الخوف المتبادل، وفي سياق تحوّلاتٍ مصيرية. الكبار جميعهم خائفون من الكبار أو من الذين يكبرون.
نتحدّث هنا عن القوى الدولية، لكنّ خوف "إسرائيل" ممّن يكبرون يتعدّى ذلك، ليصل حدّ الخوف من الأطفال الذين يكبرون، وهذا ما يفسّر عملية القتل المستمرة التي أزهقت حتى الآن أرواح عشرات الآلاف منهم. يفسّرها من دون أن تكون له فرصة ولو صغيرة في تبريرها. وهذا أملٌ كبير للمستقبل بالنسبة للفلسطينيين وقضيتهم العادلة. إنه ليس بالمعطى البسيط في تشكّل صورة المستقبل هنا. هؤلاء الأطفال هم من سيفكّكون مشروع "إسرائيل" حرفياً.
تركّز "إسرائيل" على المخاطر العسكرية، وهي ترى في كلّ طفلٍ مقاتلاً، لكنّ الخطر الكبير عليها ليس فقط من هذا الاستعداد الخارق للفلسطينيين بأجيالهم للدفاع عن قضيتهم وحقهم وحياتهم، بل من استجابة "إسرائيل" لهذا الخوف. فجريمة الإبادة لن تكون يوماً مرتبطةً بنتنياهو وفريقه وتحالف الصهيونية السياسية مع الصهيونية الدينية، بل إنها وصمة عارٍ تاريخية بحقّ فكرة هذا الكيان، ولا بدّ تالياً من أن تقوّض وجوده.
ومع حقيقة فقدان "إسرائيل" فاعلية التفوّق العسكري، في مواجهة جبهة مقاومة طويلة في امتدادها الزمني، عريضة في انتشارها الجغرافي وعميقة في امتدادها الحضاري، يبدو الأمر الآن أنه تفوّق فاقد لقدرته على ترجمة النتائج السياسية والاستراتيجية كما يشتهي قادة الكيان.
يبتعد سيناريو الحرب الموسّعة لكن من دون أن يقترب سيناريو الحلّ الذي يمكن أن يثمر وقفاً لإطلاق النار في غزة.
ومع ذلك فقد فشلت "إسرائيل" طوال 11 شهراً من الحرب حتى الآن في تحقيق الأهداف التي أعلنتها في بدايتها. وهذا ما يجعل الحكومة و"الجيش" يدوران في حلقةٍ مفرغة من الأحداث، لا يخرجون منها إلا لممارسة عمليةٍ خارجية تصعيدية شديدة الضرر على العلاقات الأميركية ـــــ الإسرائيلية في الوقت الحالي، أو قل على وجه الدقة بين نتنياهو وإدارة بايدن.
لكن هذه العمليات المكلفة على المستوى السياسي وعلى صورة "إسرائيل" في الخارج لانتهاكها العلني للقانون الدولي، خصوصاً في حدث استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق مثلاً، لا يمكن لها أن تكون نسقاً مستمراً يحقّق مصالح أمنية أو سياسية مضمونة. فهي عمليات مرتبطة بفرصة زمنية متاحة يتنافس فيها الحزبان في أميركا على محبّة "إسرائيل"، وآخر ما يرغب أيّ من الطرفين هو خسارة دعم اللوبيات الداعمة لـ "إسرائيل"، والنخب المتغلغلة في تركيبة الحزبين وفي السياسة الأميركية، مع بقاء أسابيع قليلة فقط قبل الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر تاريخ الانتخابات الرئاسية. فنتنياهو هو أبرز الناخبين حتى تلك الليلة من نوفمبر، وبعدها، سيخسر أهميته التي ستعود إلى الكيان بذاته.
ثم إن هذه العمليات تستوجب ردوداً قاسية ومليئة بالمعاني من جانب جبهة المقاومة، التي تدير الموقف الاستراتيجي بصلابة بالغة، وبعقلها. وقد أظهرت قدراتٍ كبيرة جداً في ميدان التخطيط الاستراتيجي وإدارة الموارد واختيار الأهداف وموازنة الميدان بمجرياته اليومية مع الحسابات الكلّية للحرب، وأكثر من ذلك مع السياق العام للصراع بأكمله، بحيث تبقى هذه المحطة من محطاته ـــــ كما كانت في الـ 7 من أكتوبر ـــــ خطوةً على طريق تحرير الأرض كلّها.
وقد جاء ردّ حزب الله على اغتيال القيادي فؤاد شكر باستهداف قاعدة غليلوت في ضاحية "تل أبيب" ليثبت أنّ اختيار الأهداف لا يقلّ مهارةً عن دقة إصابتها.
وبعد أن نشطت موجة إعلامية واسعة لتنكر إصابة الوحدة 8200 المسؤولة عن التجسس في هذه القاعدة، تكشّفت معلومات لوسائل الإعلام الإسرائيلية عن صحة تلك الإصابة، التي أعلنت المقاومة عن جزء يسير من إنجازها هناك ـــــ وفي ذلك قياس لما يمكن للعدو تحمّله في العلن ـــــ بينما أعلن الإعلام الإسرائيلي عن معلومات أكثر، الأمر الذي كذّب كلّ الدعاية الرسمية الإسرائيلية، والإعلامية غير الإسرائيلية، حول فشل الردّ أو رمزيّته.
والخلاصة كما أثبتت الأيام، وكما شهدت الليالي، وبحسب مجريات الميدان، هي أنّ الردّ كان قاسياً جداً، محسوباً بدقة، أدى أغراضه العسكرية والأمنية والردعية، لكنه أبعد من ذلك أدى غرضه السياسي بعدم إعطاء هدية لنتنياهو يشعل بها المنطقة كما يشتهي ليهرب من حريقه الخاص.
سوف تنتهي هذه الحرب، على الأرجح مع موعد الانتخابات الأميركية، وسوف يسبقها أو يليها مباشرةً سقوط مدوٍ لنتنياهو وحكومته. ثم تشرع الولايات المتحدة في أعمالها الشاقة لترميم "إسرائيل"، قوةً وردعاً واندماجاً (إن أمكن) وصورةً، ففي الأهداف لا خلاف كبيراً بين الحزبين، فيما وسائل ذلك لن تكون معلومةً قبل تكشّف هوية الفائز في الانتخابات.
أما جبهة المقاومة، فإنها ستعود إلى دراسة الحرب حرفاً حرفاً وحدثاً تلو حدث، وتستخلص منها دروساً ضرورية، لتواصل نموها، في مسيرها الذي اختارته على طريق القدس.