هل تذهب إثيوبيا لملء سد النهضة منفردة للمرة الرابعة؟
على الرغم من توقف المفاوضات منذ عام ونصف العام بين كل من إثيوبيا ومصر والسودان؛ واجتياز مراحل الملء الثلاث لسد النهضة بهدوء حذر؛ إلا أن أزمة جديدة بدأت مطلع هذا العام تلوح في الأفق مع استعداد إثيوبيا للملء الرابع للسد.
أعلنت إثيوبيا في 12 آب/ أغسطس الماضي رسمياً اكتمال الملء الثالث لسد النهضة الذي استمر لمدة شهر كامل من 11 تموز/يوليو وحتى 11 آب/أغسطس. ومن موقع السد، أعلن آنذاك رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد؛ في رسالة تحمل في حيثياتها كثيراً من القراءات المفسرة لذهاب إثيوبيا لملء السد للمرة الثالثة منفردة ومن دون توافق مع مصر والسودان؛ قائلاً: "النيل هبة أعطاها الرب لنا نحن الإثيوبيين".
أنهت إثيوبيا الملء الثاني لسد النهضة في تموز/يوليو عام 2021، فيما جرى الملء الأول للسد في تموز/يوليو 2020، وعلى الرغم من توقف المفاوضات منذ عام ونصف العام بين كل من إثيوبيا ومصر والسودان؛ واجتياز مراحل الملء الثلاث للسد بهدوء الحذر؛ إلا أن أزمة جديدة بدأت مطلع هذا العام تلوح في أفق المشهد مع استعداد إثيوبيا للملء الرابع لسد النهضة في شهر كانون الثاني/يناير 2023.
دوافع الذهاب الإثيوبي من دون اتفاق
يُشير استعداد إثيوبيا منفردة لملء سد النهضة للمرة الرابعة من دون التوصل إلى اتفاق لإنهاء الأزمة المستمرة منذ 10 سنوات إلى ارتفاع منسوب التوتر المصري السوداني مع إثيوبيا؛ وهو ما يثير جملة تساؤلات تتعلق بضرورة فهم الحيثيات الدافعة لذهاب إثيوبيا لملء السد للمرة الرابعة. ويمكن إيجاز التساؤلات في شقين؛ هل تذهب إثيوبيا للملء الرابع لسد النهضة؟ ولماذا تذهب لذلك؟
واحدة من أهم المفارقات في الحيثيات أن استعداد إثيوبيا لملء سد النهضة للمرة الرابعة جاء عقب مجموعة مؤشرات ومتغيرات كلها تعزز موقف إثيوبيا وتدعمه مقابل موقف كل من مصر والسودان؛ ويمكن رصد هذه المتغيرات العربية والإقليمية والدولية وفق ترتيبها الزمني كالتالي:
- الإمارات سد النهضة ليست أولوية
قبل ذهاب إثيوبيا لملء سد النهضة للمرة الثالثة في آب/أغسطس الماضي حدث تطور ملفت وهو دخول الإمارات على خط الوساطة بين مصر وإثيوبيا؛ لكنه دخول لم يُفضِ إلى تغيير في موقف إثيوبيا من ملء السد، بل سيُفهم لاحقاً بأن هناك غض طرف إماراتياً وبأن تطور علاقاتها مع إثيوبيا لم يستخدم على أكمل وجه لدعم الموقف المصري؛ ففي 29 كانون الثاني/يناير 2022 - قبل الملء الثالث للسد بـ 7 شهور- قام رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بزيارة مفاجئة إلى الإمارات العربية المتحدة؛ وحظيت الزيارة بحفاوة استقبال كبيرة من ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد الذي قلد آبي أحمد "وسام زايد".
جاءت زيارة آبي أحمد تلك بعد يومين من زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للإمارات؛ الأمر الذي أعطى انطباعاً بأن التحرك المصري بخصوص سد النهضة قد استدار باتجاه الإمارات هذه المرة؛ ولا سيما أن القمة المصرية الإماراتية حضرها عاهل البحرين الملك حمد بن عيسى، وكان من بين أجندتها القمة العربية في الجزائر؛ وحدة الموقف العربي؛ وقضية سد النهضة.
عقب الحجيج إلى الإمارات مضت إثيوبيا إلى الملء الثالث للسد؛ فتبخر الرهان المصري على الوساطة الإماراتية؛ ولم يكن استقبال آبي أحمد بحفاوة في الإمارات لمساندة موقف مصر؛ فاللقاء الإثيوبي-الإماراتي لم يأت على ذكر سد النهضة والتخزين فيه. وهو ما يفسره قرار آبي أحمد الذهاب إلى الملء الثالث لسد النهضة بعد عودته من الإمارات؛ بعدما استشعر بأن الإمارات غير معنية بقضية السد وأن أولويتها تتعلق بالبحث عن موضع قدم في القارة الأفريقية والبحر الأحمر.
- القمة العربية تتحفظ على إدانة إثيوبيا
فشل الرهان المصري على الوساطة الإماراتية في قضية سد النهضة؛ لم يمنع مصر من البحث عن متغيرات متاحة؛ فسعت إلى توظيف متغير القمة العربية في الجزائر (عقدت في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي)؛ فقدمت مشروع قرار مصري سوداني متعلق بسد النهضة؛ في محاولة للحصول على دعم عربي في مواجهة إصرار إثيوبيا على الملء والتشغيل الأحادي للسد، وعدم الالتزام باتفاق المبادئ الموقع في الخرطوم في آذار/مارس 2015.
وعلى الرغم من إجراء مناقشات مطوّلة خلال الاجتماع الوزاري العربي والتوافق على إدراج القرار المصري السوداني في البيان الختامي الصادر عن القمة (إعلان الجزائر). إلا أن بعض الدول العربية-من بينها الإمارات-أبدت تحفّظاً على بعض المصطلحات وأحد البنود التي تضمنها مشروع القرار. وعليه تم حذف كلمة "إدانة" إثيوبيا؛ وذلك بشأن المرات الثلاث السابقة التي تم فيها ملء سد النهضة.
- قمة المناخ: فشل الوساطة الفرنسية
لم تتوقّف مصر عن جهودها الدبلوماسية والبحث عن وسطاء للتدخل في أزمة سد النهضة؛ حتى بعد إخفاق القمة العربية في الجزائر في صياغة موقف حاسم من سد النهضة؛ فقررت الاستفادة من قمة المناخ التي عُقدت في مدينة شرم الشيخ المصرية بين 6 إلى 18 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، من خلال ترتيب لقاء بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، على هامش قمة المناخ لكن المحاولات الرامية لذلك فشلت؛ لتمسك رئيس الحكومة الإثيوبية بحصر أي محادثات أو مفاوضات جديدة بين بلاده ومصر والسودان، على الجوانب السياسية فقط، من دون الحديث عن الجوانب الفنية، على الرغم من أنه كانت هناك وساطة فرنسية لعقد اللقاء.
- القمة الأميركية الأفريقية: الحل بطريقة ودية
إخفاق الرهان على المواقف العربية في إيجاد حل لقضية سد النهضة؛ دفع بمصر إلى الاستعانة بواشنطن؛ وذلك أثناء القمة الأميركية الأفريقية في 13 كانون الأول/ديسمبر الماضي، فتوجه الرئيس المصري إلى هناك مطالباً بضرورة تدخل الإدارة الأميركية لحل ما وصفها بـ "الأزمة الوجودية"، والضغط على إثيوبيا للتوصل إلى اتفاق عاجل وملزم قانوناً لكل الأطراف يمكن أن يحقق شيئاً جيداً وفقاً للمعايير والأعراف الدولية.
لم تتلقّف واشنطن المطالب المصرية ولم تتبن أي موقف؛ واكتفت بالقول إنها ترغب في حل قضية سد النهضة بطريقة ودية؛ وهو ما تدركه إثيوبيا جيداً؛ وبالتالي لا يمكن لأي من الدول الثلاث (إثيوبيا أو مصر أو السودان) أن تلجأ لأي طرف خارجي للتوسط في الأزمة؛ لأن إعلان المبادئ الذي وقعت عليه مصر والسودان وإثيوبيا عام 2015 في العاصمة السودانية الخرطوم، يشترط في حال اللجوء إلى الوساطة، أن توافق الدول الثلاث عليها.
الملء الرابع: إثيوبيا ماضية في خطواتها
إن الإجابة عن سؤال هل تذهب إثيوبيا منفردة للملء الرابع لسد النهضة؟ لا تتعلق فقط بحيثيات المتغيرات السالفة والتي تميل كلها لصالح صانع القرار الإثيوبي على حساب كل من مصر والسودان، فهناك مجموعة دوافع كلها تذهب باتجاه أن إثيوبيا ماضية في خطواتها؛ ومن بين هذه الدوافع:
- ملء السد بالنسبة لإثيوبيا ليس مجرد قضية تنمية اقتصادية؛ هناك بعد عقائدي ديني دخل على المسار مؤخراً وتحديداً بعد الانتهاء من الملء الثالث للسد؛ وهذا ما أعلنه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بقوله "النيل هبة أعطاها الرب لنا نحن الإثيوبيين".
- هدف إثيوبيا من ملء سد النهضة للمرة الرابعة وما بعدها ليس هدفاً تنموياً اقتصادياً فقط، بل تسعى إلى إعادة اقتسام مياه نهر النيل؛ ورفض الاتفاقيات التاريخية السابقة، وهو ما كشفت عنه هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" مؤخراً من خلال وثائق بريطانية تعود إلى منتصف كانون الأول/ديسمبر1992.
- ستوظف إثيوبيا ملء السد للمرة الرابعة في تصدير خطاب شعبي لتهدئة الرأي العام الداخلي وكسب تعاطفه؛ ولا سيما بعد نجاح إثيوبيا في إنهاء الحرب مع جبهة تحرير تيغراي الشعبية، الأمر الذي يُعزز مواقفها الدولية والدبلوماسية ولا سيما في جلب الاستثمارات الاقتصادية الأجنبية.
- هناك نص قانوني في إعلان المبادئ بشأن سد النهضة في المبدأ الثالث وهو "عدم التسبب في ضرر ذي شأن" لأي من الدول الثلاث؛ وأنه في حال حدوث ضرر ذي شأن لإحدى الدول، فإن الدولة المتسببة في إحداث هذا الضرر عليها، في غياب اتفاق حول هذا الفعل، اتخاذ الإجراءات المناسبة كافة بالتنسيق مع الدولة المتضررة لتخفيف أو منع هذا الضرر، ومناقشة مسألة التعويض كلما كان ذلك مناسباً". واشتراط أن يكون الضرر "ذا شأن" معنى مطاط ويتطلب أدلة قاطعة من الدولة المتضررة؛ ولا يمكن إثباته بسهولة؛ وبالتالي فإن إثيوبيا غير قلقة من التبعات القانونية لملء سد النهضة حتى لو أفضت التبعات بالدول المتضررة إلى الذهاب لمجلس الأمن.
والخلاصة: أن ذهاب إثيوبيا لملء سد النهضة للمرة الرابعة سيفضي إلى حدوث أزمة مجدّداً بينها وبين كل من مصر والسودان، لكنها أزمة باردة لن تتدحرج لحدوث اشتباك. وإن كان سيناريو التراشق الإعلامي ممكناً؛ وستمر المرة الرابعة كما مرت المرات الثلاث السابقة التي أعلنت فيها إثيوبيا انتهاء عمليات ملء سد النهضة. وذلك لاستحالة اللجوء إلى الخيار العسكري لأن الانتهاء من الملء الثالث لسد النهضة عطل اللجوء إلى أي عمل عسكري ضد سد النهضة لأنه يعني إغراق السودان بالكامل.
إن هذه الخلاصة وإن بدت سيناريوهاتها متوقعة ومتاحة وممكنة؛ إلا أنها لا تعني الاستمرارية فأزمة المياه عالمياً قنبلة موقوتة، وبالنسبة لكل من مصر والسودان فإنها قنبلة صاعقها يُلوّح به التزايد السكاني المطرد في دول تعتمد معيشتها على أكثر من 70% من مياه نهر النيل.