نقلة نوعية… الميدان الأوكراني وأول هجوم بالروبوتات في التاريخ العسكري
أدخل كل من موسكو وكييف أواخر العام الماضي الروبوتات الأرضية في العمليات القتالية لتنفيذ مهام قتالية معاونة تنوعت بين نشر الألغام الأرضية، وإجلاء الجرحى ميدانياً، واستطلاع الأرض، ومكافحة الألغام.
تعد الروبوتات القتالية من أبرز ملامح التطور المتوقع في الحروب المستقبلية التي ستعتمد بشكل كبير على الأنظمة المسيرة المتحكم فيها عن بعد وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، سواء كان ذلك في البحر أو الجو أو حتى في الحروب البرية التي كان للمشاة فيها الدور الأساسي في العقود السابقة. وعلى الرغم من أن هذه التقنية -في جوهرها الأساسي- ليست وليدة الحقبة الحالية، فإنَّها شهدت نقلات نوعية على مستوى التكتيكات المستخدمة والقدرات القتالية.
كانت البداية الفعلية لاستخدام الروبوتات القتالية في المعارك على يد الجيش الأحمر السوفياتي، حين دفع في بدايات الحرب العالمية الثانية بعدة كتائب من الدبابات الخفيفة، وخصوصاً دبابات "بي تي-5" و"بي تي-7"، بعدما تم تعديلها وتزويدها بآلية تحكم بواسطة اللاسلكي، بحيث يمكن قيادتها وإطلاق النار من مدافعها الرشاشة وقاذفات اللهب المثبتة عليها بواسطة التحكم عن بعد من جانب طاقم دبابة أخرى. وقد انخرطت هذه الدبابات بشكل فعلي في المعارك ضد الجيش الفنلندي خلال شتاء عام 1940، وفي معارك الجبهة الشرقية ضد الجيش النازي بداية من عام 1941.
وعلى الرغم من دخول فرنسا وبريطانيا وألمانيا النازية لاحقاً في هذا المضمار خلال الحرب العالمية الثانية، فقد ظل لموسكو قصب السبق في ولوج هذا المجال، وسار على خطواتها الجيش الألماني الذي كانت له أهم تجربة في هذا الصدد خلال الحرب العالمية الثانية، والتي تم على أساسها تكوين التصور الأول الذي من الممكن أن تكون عليه الروبوتات القتالية، فقد لفت أنظار مهندسي الجيش النازي عربات مجنزرة مصغرة عثروا عليها في فرنسا بعد احتلالها، كانت جزءاً من برنامج فرنسي لتصنيع روبوتات قتالية، فقاموا بتطوير هذه الفكرة إلى روبوت مجنزر انتحاري تمت تسميته "جولايث" تم إنتاج نسختين منه دخلتا الإنتاج الكمي مطلع عام 1942.
التصميم الأساسي لكلا النموذجين كان عبارة مركبة صغيرة مجنزرة تحمل 60 كغم من المواد المتفجرة، يتم التحكم فيها عن طريق وحدة تحكم موصولة بالمركبة عن طريق كابل ثلاثي يبلغ طوله 650 متراً، ويتم توجيهها نحو الهدف المراد تدميره، ومن ثم يتم تفجيرها عن طريق وحدة التحكم.
تم إنتاج نحو 7 آلاف و500 مركبة من هذا النوع، لكنها لم تحقق سوى نجاحات محدودة بفعل أسباب عديدة، منها بطء سرعتها وعدم مناعتها تجاه الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، إلا أنها شكلت تطوراً ثورياً في شكل ووظيفة الروبوتات القتالية بشكل عام خلال هذه الحرب بشكل يمكن من خلاله الربط بين هذه المجنزرات الصغيرة ومجنزرات مشابهة لها تتحرك حالياً على التراب الأوكراني.
روبوتات موسكو وكييف في الميدان القتالي
رغم تراجع اهتمام موسكو بالروبوتات القتالية خلال مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، كانت العمليات العسكرية الروسية في سوريا فرصة لتنفيذ أول اختبارات ميدانية على الروبوتات القتالية الروسية، إذ اختبر الجيش الروسي خلال عملياته في سوريا نوعين من أنواع الروبوتات القتالية؛ الأول هو الروبوت القتالي متعدد المهام "أوران-9"، الذي تم نشره ميدانياً بشكل محدود خلال عام 2018، وتم تقييم تجربة هذا النوع من الروبوتات حينها بأنها "محدودة النجاح"، إذ ظهرت مشكلات في آلية عمل المدفع الرئيسي الخاص بهذا الروبوت، وهو من عيار 30 ملم، إضافة إلى مشكلات أخرى في مدى الاتصال اللاسلكي وأجهزة التهديف والاستشعار، وكذلك تروس نقل الحركة الخاصة بمحرك الروبوت.
النوع الثاني من أنواع الروبوتات القتالية الروسية الذي تمت تجربته في سوريا هو كاسحة الألغام "أوران-6"، التي استعانت بها وحدات الهندسة العسكرية الروسية في عمليات نزع الألغام والعبوات المتفجرة في عدة مدن سورية، مثل حلب وتدمر. وقد أثبت هذا الروبوت نجاحاً كبيراً كان سبباً رئيسياً في إدخاله في العمليات القتالية الروسية في إقليم الدونباس شرقي أوكرانيا في ما بعد.
وقد أدخل كل من موسكو وكييف أواخر العام الماضي الروبوتات الأرضية في العمليات القتالية لتنفيذ مهام قتالية معاونة تنوعت بين نشر الألغام الأرضية، وإجلاء الجرحى ميدانياً، واستطلاع الأرض، ومكافحة الألغام، ونقل الذخائر واللوجستيات، إلى جانب اختبار بعض الأنواع من الروبوتات ذات الطبيعة القتالية، والتي تحمل رشاشات خفيفة أو متوسطة، أو قاذفات قنابل يدوية، أو قواذف مضادة للدبابات، أو راجمات صواريخ.
يلاحظ هنا أن أوكرانيا كانت الطرف الأول الذي أدخل الروبوتات القتالية إلى ميدان القتال ضد القوات الروسية، نظراً إلى أنها تسلمت مطلع العام الماضي ومنتصفه عدة أنواع منها من عدد من الدول، هي سلوفاكيا وإستونيا والتشيك وكندا وهولندا وألمانيا.
أهم هذه الروبوتات كان الروبوت إستوني الصنع "THeMIS"، وهو منصة متعددة المهام استخدمتها القوات الأوكرانية لنقل اللوجستيات وعمليات الاستطلاع، إلى جانب استخدامها كمنصة قتالية عبر تسليحها بمدافع رشاشة.
تضاف إلى هذا النوع عدة أنواع أخرى من الروبوتات الاستطلاعية واللوجستية، مثل الروبوت "BPZENA-5" المخصص لعمليات كسح الألغام، لكن النقطة الأكثر أهمية في هذا الصدد ترتبط بإطلاق كييف أواخر العام الماضي عمليات تطوير واسعة لروبوتات محلية الصنع، تم استخدامها لنشر الألغام الأرضية، وكذلك تمت تجربتها في مهام قتالية على النسق نفسه الذي يتم فيه استخدام الذخائر الجوالة، أي استهداف القطع المدرعة المعادية عن طريق الاصطدام بها.
وجدير بالذكر أن نائب رئيس الوزراء الأوكراني للابتكارات وتطوير التعليم أعلن في آذار/مارس الماضي بدء عمليات إنتاج واسعة النطاق للروبوتات الأرضية، وتحدث حينها عن تسجيل نحو 140 نوعاً من أنواع الروبوتات العسكرية المتنوعة على منصة "Brave1"، وهي منصة أوكرانية حكومية لتنسيق تكنولوجيا الدفاع، خضع 96 نظاماً منها للاختبار الميداني بشكل ناجح، على رأسها الروبوت القتالي "IRON CLAD"، الذي يبلغ وزنه الإجمالي 1800 كغم، ويستطيع نقل حمولات تبلغ زنتها 350 كغم، ويصل مداه إلى 130 كيلومتراً، بسرعة 20 كيلومتراً في الساعة. اللافت في هذا الروبوت هو تزويده بهيكل مدرع يتحمل الذخائر الخفيفة، ويتسلح بمدفع رشاش متوسط.
موسكو من جانبها أدخلت الروبوتات القتالية في عملياتها في أوكرانيا في مختلف المهام الميدانية، وخصوصاً في مهام نقل الذخائر واللوجستيات، إذ حققت تقدماً كبيراً في تجربة منصات ذاتية الحركة قادرة على حمل الإمدادات الطبية والقتالية والغذائية إلى مفارز الاستطلاع المتقدمة، إلى جانب تجربة عدد كبير من المنصات الأرضية غير المأهولة، وخصوصاً الروبوت القتالي الأهم حالياً في الترسانة الروسية "MARKER"، الذي تم الإعلان عن انتهاء عمليات تطويره بشكل كامل مطلع كانون الثاني/يناير 2022، وكان الميدان الأوكراني أول ميدان قتالي يتم تجربته فيه، وخصوصاً النسخة التي تم تزويدها بقواذف مضادة للدبابات من نوع "كورنيت".
مشاهد غير مسبوقة لانخراط الروبوتات في الميدان الأوكراني
كان لموسكو أواخر آذار/مارس الماضي بصمة تاريخية فيما يتعلق باستخدام الروبوت في الميدان القتالي، إذ نفذت الوحدات الروسية المهاجمة لنطاق غرب مدينة "أفدييفكا" شرقي أوكرانيا أول هجوم تستخدم فيه الروبوتات القتالية حصراً، إذ نفذت عدة روبوتات قتالية روسية من نوع "Courier" تحركاً هجومياً على المواقع الأوكرانية قرب منطقة "بيرديتشي"، وهو ما يمكن اعتباره التجربة الأولى من نوعها لهجوم آلي بالكامل في تاريخ الحروب المعاصرة.
المهمة الهجومية لهذه الروبوتات كانت استهداف خنادق تمركز وحدات المشاة الأوكرانية بواسطة القنابل اليدوية التي يتم إطلاقها عبر قاذفات القنابل اليدوية "AGS-17" المثبتة على متن هذه الروبوتات.
هذا الهجوم مثّل في حد ذاته دليلاً دامغاً على التطور السريع للغاية الذي طرأ على استخدام الروبوتات في الميدان العسكري الأوكراني، فقبله انحصر انخراط الروبوتات من جانب موسكو وكييف على المهام اللوجستية والدفاعية فقط، مع تفضيل استخدام أنواع رخيصة التكلفة وبسيطة القدرات من الروبوتات، بهدف نصل الحمولات إلى الخطوط الأمامية وإجلاء الجرحى وتنفيذ مهام الاستطلاع، لكن بعد هذا الهجوم، تغير منظور استخدام الروبوتات من جانب كلا الطرفين تماماً.
نجحت هذه التجربة بشكل مبدئي، إذ قامت الروبوتات المشاركة في هذا الهجوم بإطلاق أعداد كبيرة من القنابل، وهو نسق يمكن وصفه بأنه "نسق هجومي داعم" للهجمات الرئيسية التي تنفذها الوحدات الروسية في هذا الاتجاه. وكانت هذه الروبوتات قادرة على العمل بفعالية في ظروف قتالية تتضمن احتمالات كبيرة لفقدان الأفراد أو المعدات الرئيسية.
وعلى الرغم من أن الروبوتات المنفذة لهذه الهجوم تم تدميرها في النهاية بفعل الطائرات الأوكرانية الانتحارية المسيرة، فإنَّ استخدام هذه الروبوتات كان مساهماً بشكل رئيسي في تحقيق الغاية من تطوير الروبوتات القتالية، وهو حماية العنصر البشري، ومثل هذا الهجوم تجربة مهمة يمكن البناء عليها لتأطير ما يمكن وصفه بأنه "حقبة جديدة" في تاريخ استخدام التقنيات الأرضية المسيرة.
واقع الأمر أن هذه الحادثة سلطت الضوء بشكل أكبر على الروبوت "Courier" كمنصة أرضية غير مأهولة متعددة الاستخدامات يمكن تسليحها بطائفة واسعة من الأسلحة، مثل قواذف القنابل اليدوية، والرشاشات الخفيفة أو المتوسطة، والقواذف المضادة للدبابات، إلى جانب أنظمة زرع الألغام المضاد للدبابات، إذ يستطيع الروبوت الواحد حمل ونشر ما يصل إلى 8 ألغام.
يزن هذا الروبوت نحو 250 كغم، ويستطيع الوصول إلى سرعة تبلغ 35 كيلومتراً في الساعة، وهي سرعة كبيرة بالنسبة إلى الأنظمة الأرضية المسيرة، علماً أنه مزود بمحركات كهربائية بقدرة 6 كيلو وات توفر له القدرة على العمل على مسافات تصل إلى 10 كيلومترات من منصة التحكم فيه، ما يعزز خفة الحركة والاستقرار على التضاريس الصعبة، وفي الوقت نفسه يخفض البصمة الحرارية للروبوت إلى الحد الأدنى، ما يقلص في المجمل إمكانية رصده، وخصوصاً في العمليات الهجومية الليلية، ناهيك بإمكانية تزويد هذا الروبوت بمحطة حرب إلكترونية بقدرة 560 واط، ما يعزز قدرته على تعطيل اتصالات العدو وأنظمة الاستشعار، وبالتالي توفير الدعم القتالي المباشر، وأيضاً قدرات الحرب الإلكترونية.
خلاصة القول، بات من الواضح أن الميدان الأوكراني تحول إلى منصة لاختبار الأنظمة المسيرة بكل أنواعها - وليس الأنظمة المسيرة الجوية فحسب - وهو ما انعكس بشكل كبير على طبيعة استخدام المركبات البرية غير المأهولة على الخطوط الأمامية في أوكرانيا، والتي شهدت تغيرات سريعة الوتيرة مثلت تحولًا كبيرًا في ديناميات الحرب الحديثة. ومن خلاله، باتت الأنظمة غير المأهولة وسيلة أكثر أماناً وتوفيراً لتنفيذ التكتيكات العسكرية الميدانية، وليس فقط وسيلة لتعزيز القدرات النارية بشكل يمكن من خلاله اعتبار عملية الانتقال من استخدام المنصات البرية البسيطة التي يتم التحكم فيها لاسلكياً إلى نشر مركبات برية غير مأهولة متطورة ومعقدة ومجهزة بأنظمة تسليح قوية وأنظمة زرع ألغام وحرب إلكترونية قفزة كبيرة في الاستراتيجيا والتكنولوجيا العسكرية تدفع حدود الحرب التقليدية إلى مسارات غير مسبوقة.
لكن رغم ما سبق، فإنَّ حجم التطور الذي طرأ على هذه التقنية ما زال أقل بكثير من مثيله في ما يتعلق بالقدرات البحرية والجوية المسيرة، فلا تزال التكنولوجيا الخاصة بالتقنيات البرية المسيرة قيد التطوير من جانب موسكو وكييف، لكن يتم صقل هذا التطوير عبر الاستخدامات الميدانية الفعلية، وهو ما يتوقع أن يعزز اتجاهاً بدأ يبرز بشكل كبير خلال الأعوام الأخيرة، من خلال إعلان عدة جيوش أوروبية وآسيوية نيتها تشكيل جيوش ضخمة من الروبوتات القتالية خلال العقود المقبلة، مثل بريطانيا وكوريا الجنوبية.