من حرب أكتوبر إلى حرب تموز.. ماذا لو اجتمعت تجارب الجيوش والتنظيمات؟
عاشت هذه المنطقة تجارب منفصلة من المواجهة مع الاحتلال؛ الأولى خاضتها المؤسسات التقليدية، والأخرى خاضتها التنظيمات التي حاولت أن تبني مؤسساتها الخاصة، ولكن نتائج الجمع بين التجربتين قد تكون الأكثر فعالية.
حرب أكتوبر كانت الحرب الثالثة التي واجهت فيها الجيوش العربية قوات الاحتلال بعد عامي 1948 و1967، إلا أنها كانت مختلفة عن سابقتيها؛ ففي عام 1948، كانت الدول العربية حديثة الاستقلال أو أنها لم تستقل بعد، وكان عدد من الجيوش العربية تحت قيادة بريطانية أساساً، وكان الموقف الدولي ضد مصلحة العرب، حتى إن الاتحاد السوفياتي وافق على قرار تقسيم فلسطين آنذاك، بعدما باعته الحركة الصهيونية خرافة أن "إسرائيل" سوف تكون أول دولة اشتراكية متقدمة في الشرق الأوسط.
في حرب أكتوبر، كانت الجيوش العربية مستقلة بقيادات وإدارات ذاتية وأكثر تنظيماً واستعداداً، وأخذ الاتحاد السوفياتي موقفاً مختلفاً لمصلحة العرب هذه المرة. وإذا كانت الحرب الخاطفة هي سمة الهجوم الإسرائيلي عام 1967، فإن عنصر المفاجأة في حرب أكتوبر كان عربياً بامتياز.
يتفق الكثير من الدراسات العسكرية مع الفكرة القائلة إن حرب أكتوبر كانت انتصاراً ميدانياً للجيوش العربية بدأ منذ لحظة العبور وتجاوز خط بارليف، ولكن هذا الانتصار الميداني أجهضته دبلوماسية ما بعد الحرب على الجبهة المصرية بالتحديد.
بعد لحظة أكتوبر، تراجعت الأحوال في الصراع مع الاحتلال لغير مصلحة العرب؛ فالسادات أراد من نتائج حرب أكتوبر سكة للوصول إلى كامب ديفيد التي أخرجت بدورها مصر من معادلة الصراع، وفتحت الباب لتسهيل تطبيع دول أفريقية كانت مستمرة في التمسك برمزية مصر التي صنعها عبد الناصر، وفتحت الباب أيضاً أمام مدريد وأوسلو ووداي عربة.
أدّى تراجع حدة المواجهة على المستوى الرسمي العربي وتبدلات الأنظمة السياسية العربية (تحديداً في العراق وانهيار الاتحاد السوفياتي) إلى زيادة الضغط والحصار على سوريا وإيران، اللتين وقفتا وحيدتين في مواجهة "إسرائيل"، ما قيّد حركتهما على المستوى الدولي وجعل الحفاظ على الدولة والمجتمع والنظام السياسي أولوية قصوى جعلت إمكانية إشعال حرب شاملة ضد الاحتلال أو نسخة جديدة من أكتوبر (سورية-إيرانية) أمراً غير ممكن هذه المرة.
في ظل العجز عن إنتاج أكتوبر جديدة، أنتجت الجهات الفاعلة أدواتها الجديدة في مواجهة الاحتلال: الانتفاضة الأولى، وتنظيمات المقاومة المسلحة في فلسطين، ونمو تجربة حزب الله في لبنان. وبذلك، كانت نقطة الانعطاف الأولى من حروب الجيوش إلى حروب التنظيمات والفصائل.
لم تكن هذه التنظيمات، مع حالة الحصار المطبق عليها من الحكومات والأنظمة السياسية العربية، قادرة على امتلاك مبادرة الهجوم، إنما الصمود والمقاومة والدفاع وإحداث الضرر الممكن للبنى التحتية الإسرائيلية لإيقاف العدوان (نماذج غزة بعد الانسحاب عام 2005، ولبنان قبل التحرير عام 2000).
حرب تموز كانت نقطة الانعطاف الحادة الأكثر قوة منذ حرب أكتوبر. لم يعد مطلوباً من المقاومة أن تتحمل وتصبر وتصمد فقط، ولا أن تحدث أضراراً محدودة لا تطال العنصر البشري. أسر شاليط في غزة، وأسر جنديين إسرائيليين في جنوب لبنان، ومجزرة الدبابات الإسرائيلية، وقتل 120 جندياً إسرائيلياً خلال حرب تموز، جميع هذه العوامل دفعت منحنى الإمكانيات العربية في المواجهة إلى أعلى من جديد، وإن لم تكن حينها قد وصلت إلى مستوى لحظة أكتوبر.
وإذا اعتبرنا أن معادلة الردع التي كرّسها حزب الله في لبنان وعجز "إسرائيل" عن تحديد نقطة وقف إطلاق النار بشكل منفرد في أي مواجهة مع غزة هما دليل على امتلاك هذه التنظيمات والفصائل إمكانية المبادرة في الهجوم، فهذا يعني أننا وصلنا إلى نسخة معدّلة من وضعية أكتوبر (إمكانية المبادرة للهجوم + تعدد جبهات الحرب).
من حروب الجيوش إلى حروب التنظيمات والفصائل
الزمن المُرّ والعقود الجافة التي فصلت بين أكتوبر وتموز انقضت، ولكل من أكتوبر وتموز مزاياها الخاصة وتجربتها المختلفة في المواجهة، ولكن ماذا لو جمعت ثمار التجربتين؟ وما الذي يمكن تحقيقه بحروب الجيوش ولا يمكن تطبيقه في حروب التنظيمات أو العكس؟
يمكن تصميم المقاربة استناداً إلى 4 مؤشرات:
1. الدعم الشعبي وحالة الالتفاف حول مبادرة الحرب.
2. الدعم الرسمي العربي لمبادرة الهجوم أو الحرب.
3. المزايا الميدانية لحركة الجنود والمعدات والمقاتلين.
4. دبلوماسية ما بعد الحرب، في حال لم تسفر الحرب عن الانتصار النهائي.
الدعم الشعبي والالتفاف حول مبادرة الحرب
عندما تم إعلان بيان العبور في حرب أكتوبر، توجه بليغ حمدي إلى مبنى الإذاعة المصرية ليطلب تهيئة اللازم لإنجاز أغنية الحرب "الله أكبر.. باسم الله"، برفقة الشاعر عبد الرحيم منصور. خلال ساعات، كانت الأغنية تبث الروح المعنوية في الجنود، وكان الجمهور المصري يكررها. الدولة التي خاضت الحرب هيّأت ببساطة المناخ العام لها، وبالتالي الالتفاف حولها، فكانت "حرب الدولة والمجتمع".
في تحرير جنوب لبنان، وكذلك حرب تموز، كانت المبادرات الفنية اللبنانية، تحديداً جوليا بطرس ومعين شريف، رافعة لخلق وجدان عام مؤيد للمقاومة في لبنان والمنطقة، ولكن موجات الالتفاف الشعبي حول المقاومة جوبهت بتقييدات الأجهزة الأمنية في الدول العربية، التي حاولت تصدير فكرة أن هذه الحرب ليست حرب دولة، ولا حرب مجتمع، إنما حرب فئة منه.
الموقف الرسمي العربي
في حرب أكتوبر، التحقت الدول العربية بالحرب تباعاً بعد الهجوم المصري - السوري. أنتج جيش الجزائر "عقدة شارون"، والتحق الجيش العراقي المدرب برياً بشكل جيد بالميدان، وساهم اللواء المدرع 40 الأردني في الجبهة السورية عندما تم تركيز الضغط عليها... حدثت حالة التتابع العربي على الرغم من اختلاف طبيعة وتوجهات الأنظمة السياسية لبعض الدول العربية عن توجهات وأيديولوجيا الدولة السورية والجيش المصري آنذاك.
يعود ذلك إلى أسباب عدة، منها ارتفاع حالة الحرج العربي في ظل غياب أي اتفاقية تطبيع مع الاحتلال وتباين آلية تقدير المواقف لدى النخبة الحاكمة وقيادات المؤسسات العسكرية عمّا هو اليوم.
في حرب تموز، كانت حالة الحرج العربي من الامتناع عن الالتحاق بمواجهة جدية مع الاحتلال قد تراجعت، وكانت اتفاقيتا تطبيع (كامب ديفيد ووادي عربة) قد أنجزتا إلى جانب أوسلو، وكانت اللقاءات العربية مع وفود من الاحتلال تتسلل إلى الفعاليات الثقافية والسياسية والاجتماعية. كل ذلك دفع الأنظمة السياسية إلى وصف الحرب كمغامرة أو مبادرة خاصة بفصيل أو تنظيم لتبرير الامتناع عن الالتحاق أو الدعم.
المزايا الميدانية
في حرب أكتوبر، اكتشف الفريق سعد الدين الشاذلي أن ثغرة يمكن أن تحدث بين الجيش المصري الثاني والثالث (ثغرة الدوفرسوار التي تسللت منها مجموعة آرييل شارون). وقبل أن تتسع هذه الثغرة، طلب من السادات نقل عدد من الجنود، تتم تغطيتهم ببطاريات المضادات الجوية، إلى موقع الثغرة لمنع دخول الدبابات الإسرائيلية، الأمر الذي رفضه السادات واستهان به.
كانت الولايات المتحدة قد زوّدت "إسرائيل" بصور الأقمار الصناعية لتوزيع القوات المصرية، واقترحت عليها الدخول وصناعة هذه الثغرة (يرى عدد من القراءات السياسية أن قرار السادات بتجاهل هذه الثغرة هو قرار مقصود للتأسيس لوضعية وقف إطلاق النار وامتلاك مبرر مصري للموافقة عليه).
في حرب تموز، لم تكن تشكيلات عناصر المقاومة القتالية تعمل بالمنطق العسكري التقليدي على تلال الجنوب اللبناني، وأضاف ذلك ميزة قتالية لها في الميدان. ولو كانت هذه العناصر حاضرة في حرب أكتوبر، لكانت عنصراً فعالاً في منع حدوث ثغرات على شاكلة ثغرة الدوفرسوار.
دبلوماسية ما بعد الحرب
لم تكن دبلوماسية ما بعد الحرب واحدة في حرب أكتوبر، فمفاوضات فصل القوات على الجبهة السورية استغرقت شهوراً طويلة، ما دفع هنري كسنجر حينها إلى القول: "ببساطة، لقد أهدرت كرامة الولايات المتحدة التي تطير بين دمشق وتل أبيب ذهاباً وإياباً لحسم أمر 200 متر هنا أو هناك"، ولكن الأمور سارت على سكة أسهل في الخيمة 101 في الجهة المصرية التي كان السادات يخطط فيها لاستثمار الحرب للوصول إلى اتفاقية كامب ديفيد، وهذا ما التقطه هنري كسنجر.
لم يكن حزب الله، من موقعه كتنظيم مقاوم وليس كدولة، مضطراً إلى الالتزام بأي بروتوكولات رسمية مع هيئة دولية أو وسيط ما بعد حرب تموز 2006، وهي وضعية مماثلة حتى لما جرى خلال ترسيم الحدود البحرية وحقل كاريش.. عندما كانت الدولة اللبنانية عاجزة عن تحقيق أي مكتسبات في ترسيم الحدود البحرية، من دون المسيّرات، كما أن للحزب موقفاً مبدئياً من حضور مفاوضات ترسيم الحدود مع الوسيط الأميركي، والتي لا تجد الدولة حرجاً فيها.
ثنائية تنظيمات المقاومة – الجيوش أو التنظيمات – الأنظمة الرسمية يمكن أن تعمل على أكثر من صعيد في سياق أي مواجهة مقبلة مع الاحتلال:
1. ثنائية العناصر – الجنود في الميدان العسكري.
2. ثنائية التنظيم – الدولة في المحافل والهيئات الدولية والقرارات والعقوبات.
3. ثنائية التنظيم – الدولة في توزيع سقوف الخطاب ولحظات وقف إطلاق النار.
عاشت هذه المنطقة تجارب منفصلة من المواجهة مع الاحتلال؛ الأولى خاضتها المؤسسات التقليدية في الدولة والجيش، والأخرى خاضتها التنظيمات التي حاولت أن تبني مؤسساتها الخاصة داخل الدول، ولكن نتائج الجمع بين التجربتين (مع صعوبة تحقيقه) قد تكون الأكثر فعالية في تاريخ الصراع مع الاحتلال!