محور المقاومة يستعيد توازنه الاستراتيجي
لا شكّ أنّ هذه المعركة بقدر ما هي معركة وجود لدى المشروع الصهيوني العنصري في فلسطين والمنطقة، هي أيضاً معركة وجود لقوى المقاومة العربية كلّها، وفي طليعتها حزب الله.
تعتمد الجيوش والمنظّمات العسكرية شبه النظامية الحديثة على مجموعة من العناصر والمقوّمات، وتوفّر هذه العناصر فرص النجاح في تنفيذ المهام والواجبات الوطنية المطلوبة من هذه الجيوش والمنظمات. ومن أبرز وأهم هذه المقوّمات توافر العناصر الآتية:
أولاً: مراكز للقيادة والسيطرة الرئيسية والبديلة.
ثانياً: شبكة مأمونة للاتصالات المتعددة الأنواع ( السلكية واللاسلكية والتقليدية وغيرها).
ثالثاً: نظام جيّد لإعداد الأفراد والمقاتلين جسدياً ومعنوياً، والتدريب الدوري والمنتظم على أحدث نظم القتال والحرب.
رابعاً: نظام للأمن الداخلي للوحدات العسكرية والوحدات المعاونة، وكذلك نظام جيّد لجمع المعلومات والاستخبارات عن العدو والخصوم، وأحياناً عن الأصدقاء والحلفاء ضماناً للحماية، وضماناً للمستقبل.
خامساً: نظم التسلّح وخطوط الأمداد المنتظم والمأمون، ويفضّل الاعتماد الذاتي لهذه الجيوش والمنظّمات على التصنيع الذاتي في الأنواع الحيوية.
سادساً: وجود خطط للعمليات مرنة وقابلة للتغيير والتبديل تأخذ في الاعتبار التغيّرات التي قد تطرأ على جاهزية العدو أو الخصم وكشف نواياه مبكراً.
سابعاً: نظام للإعلام يوفّر مظلة من الدعاية الموثوقة ويواجه نظم الإعلام والدعاية المعادية.
ثامناً: بيئة اجتماعية وإنسانية حاضنة ومؤيدة ومؤمنة بالقضايا التي يتبناها ويدافع عنها هذا الجيش، أو هذه المنظمة العسكرية.
والحقيقة أن الجمهورية الإسلامية في إيران برغم الحصار وإجراءات المقاطعة اللتين فرضهما الغرب الاستعماري، وعلى رأسه الولايات المتحدة وبعض حلفاء هذا الغرب من دول الإقليم، قد نجحت في بناء منظومة للدفاع العسكري طوال أربعين عاماً يتوافر فيها معظم عناصر ومقوّمات القدرة والنجاح.
وبالمقابل نجحت منظمات المقاومة العربية المسلحة وفي مقدمتها حزب الله اللبناني – بمعاونة إيران – في امتلاك كثير من هذه القدرات والمقوّمات التي أشرنا إليها من قبل، مما سمح لها بتحقيق الكثير من النجاحات والانتصارات في كثير من الساحات التي شهدت صراعاً عسكرياً مع الكيان العنصري الإسرائيلي تارة أو الاستعمار الأميركي تارة أخرى، أو الجماعات التكفيرية المموّلة أميركياً وخليجياً تارة ثالثة.
كما توافرت لحركات المقاومة في فلسطين جميعها قدر مناسب من هذه المقوّمات والقدرات التي مكّنت فصائل المقاومة هذه من الصمود والتحدّي أمام الهجمات الوحشية المتكررة التي قام بها "جيش" الاحتلال الصهيوني في غزة والضفة الغربية طوال السنوات العشرين الأخيرة.
وبرغم هذه النجاحات التي تحقّقت، وتمدّد قوى المقاومة العربية إلى اليمن والعراق إلى جانب لبنان وفلسطين، فإن امتلاك العدو لخبرات التكنولوجيا الاستخبارية المتقدّمة، وأساليب القتل غير المشروعة وغير الأخلاقية، قد مكّنته من توجيه ضربة مؤلمة لواحدة من أهم مكوّنات محور المقاومة منذ السابع عشر من أيلول/سبتمبر عام 2024 ولمدة أسبوعين قاسيين.
وعبر اختراق مبرمج لبعض عناصر ومقوّمات العمل العسكري والاستخباري في حزب الله، قام الكيان الإسرائيلي وأجهزة أمنه بالتركيز على عنصريين أساسيين:
الأول: شبكة الاتصالات الفردية لعناصر الحزب وتفجيرها يومي السابع عشر والثامن عشر من أيلول/سبتمبر الماضي، مما أدى إلى جرح ما يقارب ثلاثة إلى أربعة آلاف عنصر وكادر ومتعاون في لحظة واحدة جروح الكثيرون منهم قاسية، هذا علاوة على استشهاد عدد قليل من هؤلاء، مما خلق حالة من الفوضى والارتباك في منظومة العمل التنظيمي والاجتماعي والعسكري لفترة حتى ولو كانت قصيرة .
الثاني: استغلال حالة الفوضي والارتباك هذه في اغتيال عدد ليس بقليل من قيادات الصف الأول في العمل السياسي أو العمل العسكري للحزب، في فترات زمنية متقاربة وقصيرة جداً، مما أضاف إلى حالة الفوضى والارتباك حالة من الإحساس بالقلق والخوف من عمق الاختراق الأمني.
وفي ظل هذه الحالة غير المسبوقة في تاريخ الحزب المقاوم، أو حتى غير المسبوقة في تاريخ الجيوش والمنظّمات شبه العسكرية، اختلّ توازن الأداء، والذي كان من المفترض مع وقائع اليوم الأول لتفجير وسائل الاتصال الفردية، وبداية مسلسل الاغتيالات أن تقوم وحدة الأمن الداخلي للتنظيم بنقل فوري ومن دون تأخير لكلّ القيادات من الصف الأول – وفي مقدّمتهم الشهيد الأمين العام – إلى أماكن محصّنة خارج دائرة الاستهداف والأماكن المرصودة، أو التي من المحتمل أن تكون مرصودة في الضاحية الجنوبية ومراكز القيادات فيها.
وبرغم الضربات المؤلمة والقاسية وغير المسبوقة التي تعرّض لها حزب الله وأفقدته بعض خيرة كوادره ذوي الخبرة والتجربة العسكرية الطويلة، ثم فقدان القيادة التاريخية ممثّلة في سماحة القائد السيد حسن نصر الله الأمين العام للحزب، والذي يمثّل في ذاته ثقلاً سياسياً ومعنوياً غير مسبوق تجاوز حدود الساحة اللبنانية إلى الساحتين الإقليمية والدولية، معبّراً بذلك عن ظاهرة نادرة في تاريخنا العربي الحديث وبعض القيادات التاريخية للحزب، فإن الحزب قد تمكّن خلال يومين فقط بعد الثامن والعشرين من أيلول/ سبتمبر من لملمة كيانه، وإعادة ملء الفراغ الذي تركه غياب بعض القيادات العسكرية والسياسية الأولى.
وقد برز هذا التجاوز في الخطاب الموجّه من سماحة الشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام ظهر يوم الثلاثين من أيلول/سبتمبر الماضي والذي كشف فيه عن سرعة ملء الفراغ في القيادات العسكرية التي جرى اغتيالها، والاستعداد لانتخاب أمين عام جديد للحزب.
كما أن معاودة القوات العسكرية للحزب قصف المراكز والقواعد العسكرية والمستعمرات الصهيونية بالصواريخ، أثارت قدراً من الارتياح والاطمئنان لدى جمهور الحزب والقواعد الشعبية المناصرة للمقاومة عموماً وللحزب خصوصاً على امتداد العالم العربي والشعوب والقادة الأحرار في العالم أجمع.
ومن جهة أخرى، وبعد صمت طال من الجمهورية الإسلامية في إيران تحت مسمّى "الصبر الاستراتيجيي" جاء الردّ الإيراني الصاروخي على الكيان العنصري في "إسرائيل" مع غروب يوم الأول من تشرين الأول/أكتوبر ليدفن - ولو مؤقتاً – غرور وغطرسة القوى الجامحة الذي ساد لدى قادة هذا الكيان، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو"، خاصة بعد نجاحاتهم التكتيكية والاستخبارية في الأسبوعين السابقين.
وهكذا.. استعاد محور المقاومة في المنطقة توازنه السياسي والعسكري، واستردّ مساحة الثقة والمصداقية اللذين كاد يخسرهما بسبب بطء الرد الإيراني بعد اغتيال الشهيد إسماعيل هنية على أرضه من ناحية، والضربات المؤلمة التي تلقّاها المحور في الأسبوعين السابقين، سواء في لبنان أو الحديدة في اليمن، أو في سوريا، أو حتى في مذبحة غزة المستمرة يومياً طوال عام كامل.
وهكذا انتقل أداء محور المقاومة بكلّ أطرافه من حالة الإسناد لغزة، إلى حالة الاشتباك المباشر في الحرب، خاصة بعد أن قام الكيان الصهيوني بقصف المدن والبلدات اللبنانية في سيناريو مكرّر لما جرى من حرب الإبادة في غزة.
المؤكّد أن الصراع قد انتقل الآن إلى مستوى نوعي جديد، ليس له من مخرج سوى قرار ملزم من مجلس الأمن ومصدّق عليه من جميع أعضائه بوقف حرب الإبادة في غزة، ووقف القصف الإجرامي للبنان، ولجم غرور وغطرسة وجنون القوة الذي ركب عقول عصابة عنصرية تحكم الكيان الإسرائيلي حالياً، وتجرّه غالباً إلى الخراب الثالث.
كما أن المقاومة الإسلامية في لبنان قد تواجه حالة سياسية داخلية تقودها جماعات المتعاونين مع أميركا وفرنسا، وربما "إسرائيل" تؤدي الدور نفسه الذي أدّته أثناء العدون الإسرائيلي على لبنان عام 2006، مما يستدعي درجة من الصمود والحشد في مواجهة هذه المجموعات المشبوهة والمموّلة خارجياً.
لا شكّ أنّ هذه المعركة بقدر ما هي معركة وجود لدى المشروع الصهيوني العنصري في فلسطين والمنطقة، هي أيضاً معركة وجود لقوى المقاومة العربية كلّها، وفي طليعتها حزب الله.. وهو قادر على النصر فيها إن شاء الله.