غاز لبنان والمواجهة مع "إسرائيل".. هل تشتعل؟

مشهد بالغ التوتر على الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة مع انتظار قدوم الوسيط الأميركي إلى بيروت. ما مآلات المواجهة؟

  • تسعى
    تسعى "تل أبيب" إلى استخدام السفن الأجنبية والشركات الأميركية كدروعٍ دولية لأطماعها في الغاز اللبناني.

أحدث استقدام العدو الإسرائيلي للسفينة اليونانية "إنيرجان" إلى حقل كاريش المتنازع عليه مع لبنان توتراً عالي المستوى، بات ينذر بتطورات أمنية بالغة الخطورة في حال لم يتدخل طرف ثالث لخفض التصعيد الإسرائيلي.

يأتي هذا الحدث بعد توقف المفاوضات غير المباشرة في مقر قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام "اليونيفيل" عند الحدود اللبنانية-الفلسطينية، والتي كانت تجري بوساطة أميركية، وبإشراف الأمم المتحدة.

هذه الوساطة تبدو اليوم في بيروت جزءاً أساسياً من المشكلة، إذ لم يمارس الوسيط الذي عينته واشنطن آموس هوكشتاين دوراً محايداً، لكنَّ تضافر مجموعة من المعطيات الدولية والإقليمية والمحلية المرتبطة بطرفي الصراع يرسم مشهداً شديد التعقيد لمستقبل الأزمة الحالية.

على المستوى الدولي

تدور الأحداث الحالية في أجواء شديدة التوتر بين الغرب وروسيا، أدت الأزمة الأوكرانية إلى تفجيرها، لتطال في الدرجة الأولى سوق الغاز الطبيعي من نواحٍ مختلفة: العرض والأسعار وخطوط الإمداد والعقوبات المتبادلة التي باتت تهدد سوق الطاقة، وخصوصاً استدامة إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا.

وفي ظلِّ تعثر محاولات البحث عن بدائل مجدية ومستدامة للغاز الروسي، يدور البحث اليوم حول تأمين إمدادات على المديين المتوسط والبعيد من مصادر مختلفة، يشكل غاز شرق البحر المتوسط أحدها.

وتستمر المحاولات الأميركية لتأمين المناطق المحتملة والمؤهلة لتكون مصدراً للمزيد من إمدادات الغاز، لتساعد واشنطن في المعركة الكبرى التي تخوضها في وجه موسكو. لا يتعلق الأمر بتأمين تلك الإمدادات من ناحية العرض فحسب، بل إن التفكير الاستراتيجي الأميركي لا بدَّ من أن يأخذ بعين الاعتبار مستوى الأسعار الحالي والمتوقع مستقبلاً للغاز، خصوصاً عند ضم عامل الوقت إلى مجموعة العوامل المؤثرة في تلك المسألة، ذلك أن اقتراب الشتاء سيزيد بالضرورة إلحاح الحاجة الأوروبية للغاز، ويؤدي تالياً إلى بروز ضرورات لدى الأوروبيين قد تفضي بهم مجتمعين أو منفصلين إلى تقديم تنازلات في موقفهم من الأزمة الأوكرانية بوجه خاص، ومن العلاقة مع روسيا بوجه أكثر شمولاً.

على المستوى الإقليمي

لكن المعطيات الحقيقية لتفاصيل هذه البدائل المحتملة لا تظهر الكثير من الفرص الواقعية القابلة للتحقق، وخصوصاً مع ارتفاع المخاطر الأمنية المرتبطة بالمناطق المحتوية على مخزونات الغاز؛ ففي منطقة الخليج، لم تنخفض المخاطر مع الهدنة في اليمن، بسبب عدم التوصل إلى صيغة جديدة للاتفاق النووي بين إيران والدول الست، واستمرار محاولات الضغط على إيران في تلك المنطقة.

وفي المقلب الآخر، لا تبدو المحاولات التي تجري مع الجزائر مثمرة بالقدر المطلوب غربياً، نظراً إلى انخفاض قدرة الجزائر على تأمين البديل الكافي للغاز الروسي من ناحية، ولارتباط الجزائر بعلاقات جيدة مع روسيا من ناحية أخرى.

أما في شرق المتوسط، فإنَّ انعدام الأمن الاستراتيجي يؤدي إلى التهديدات والمخاطر الموجودة والمتعاظمة لعمليات التخطيط لمد خطوط نقل الغاز من جهة، ولعمليات استخراج وتسييل الغاز من جهةٍ ثانية، الأمر الذي يستدعي تهدئة المنطقة والوصول إلى حلولٍ مقبولة من الأطراف جميعها، قبل الشروع في عمليات الإنتاج والتصدير إلى أوروبا والسوق الدولية.

وعلى الرغم من ذلك كلّه، لا تزال "إسرائيل"، ومعها الولايات المتحدة الأميركية، تحاول اقتناص الفرصة بتسريع مسار الإنتاج، من أجل أن توفر عرضاً في سوق الغاز المسال لتلبية جزء من الطلب الأوروبي، الأمر الذي يوفر المزيد من أوراق الضغط ضد موسكو، ويعطي "تل أبيب" فرصاً جديدة تزيد كلما زادت قيمة دولة العدو على المستويين الاقتصادي والاستراتيجي، ما يؤدي إلى تعزيز حمايتها الأمنية من الغرب. ويشكل تأمين استخراج الغاز من حقل "كاريش" المتنازع عليه مع لبنان والحقول الأخرى الواقعة في المياه الإقليمية الفلسطينية المجال الذي تدور فيه أحداث هذه المحاولة اليوم.

الموقف الإسرائيلي

مع تعثر المفاوضات غير المباشرة مع لبنان، وفي ظلِّ انحياز الوسيط الأميركي لمصلحتها، تحاول "إسرائيل" اليوم تصعيد الموقف طمعاً بحسمٍ سريع للمسألة المرتبطة تحديداً بحقل "كاريش"، إذ إنَّ سيطرة الكيان الإسرائيلي على هذا الحقل من دون حدوث صدام عسكري مع لبنان ومقاومته سيثبّت أمراً واقعاً لا يعود التراجع عنه سهلاً، فيما لو مر من دون تعرض المنشآت الإسرائيلية والسفن الأجنبية المتعاقدة مع الكيان للقصف.

ومن أجل صناعة حالة الأمر الواقع هذه، تسعى "تل أبيب" إلى استخدام السفن الأجنبية والشركات الأميركية كدروعٍ دولية لأطماعها في الغاز اللبناني، بعد سيطرتها على الثروات الفلسطينية المحتلة، لكنَّ التدقيق في الموقف الإسرائيلي لا يشير إلى مقدار مطمئن من الراحة تجاه الأهداف المرسومة من هذه المسألة؛ ففي الداخل، يبدو الائتلاف الحاكم في "إسرائيل" هشّاً ومهدداً بالسقوط في أية لحظة، جراء التوازنات الدقيقة التي تعيشها الحياة السياسية الإسرائيلية.

وعلى الحدود، يزيد احتمال تعرض الكيان لأية هزة أمنية خطرة، خصوصاً إذا كانت هذه الهزة مجالاً صالحاً للتحول إلى مواجهة كبرى مع حزب الله وقوى المقاومة، ما يؤدي إلى تعزيز خطورة الموقف الإسرائيلي الذي لن يخسر فرص التنقيب واستخراج وتصدير الغاز من حقل "كاريش" فحسب، بل إنه قد يواجه مخاطر وجودية في حال انفلاش الموقف وتحوله إلى مواجهةٍ شاملة.

لذلك، إنَّ الأطماع الإسرائيلية بالسيطرة على الحقوق اللبنانية في حقل "كاريش" قد تودي بكل الفوائد التي ينتظرها الكيان من الحقول الأخرى، وتتمدد لتشكل خطراً على أمنه الاستراتيجي، ووجوده بحد ذاته، الأمر الذي تشير إليه كل التوقعات للمآلات لأية حربٍ كبرى.

الموقف اللبناني

في مقابل ذلك، يستفيد الإسرائيليون من معطى داخلي لبناني يرتبط بمسار معالجة الملف منذ بدء تفاعلاته قبل حوالى عقدين من الزمن؛ ففي العام 2002 كلفت حكومة لبنان مركزاً بريطانياً بإعداد دراسة حول كيفية ترسيم حدود المياه الإقليمية والمنطقة الاقتصادية الخالصة، والقيام بعملية المسح الجيولوجي للبحث عن النفط والغاز في المياه الإقليمية اللبنانية، الأمر الذي تفاعل بصورةٍ بطيئة لأسباب متعددة، جلّها كان مرتبطاً بالأزمات السياسية والأمنية المتتالية التي شهدها لبنان. ومع عدم توفر خرائط بحرية تحدد بصورةٍ واضحة الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، كانت المحاولات اللبنانية الأولية مترددة وغير حاسمة.

ومع حكومة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق فؤاد السنيورة، التي خرج منها وزراء المقاومة، جرت محاولات جديدة بين عامي 2007 و2009 لتحديد الحدود الجنوبية البحرية للبنان، وتوصلت هذه الحكومة إلى اتفاق مع قبرص على تلك الحدود، يجعل من الخط 23 خط الحدود البحرية اللبنانية الجنوبية.

لكن معطيات أخرى ظهرت في وقتٍ لاحقٍ، ومنها دراسة لشركة بريطانية كلفتها الحكومة اللبنانية، برز من خلالها الخط 29 الذي يقع جنوبي الخط 23، والذي احتسب على أساس القانون الدولي للبحار، والذي ترسم الحدود البحرية بين الدول من خلاله.

وعلى هذا الأساس، بدأ البحث في لبنان عن سبل استعادة المساحة الإضافية من المياه الإقليمية اللبنانية ومن المنطقة الاقتصادية الخالصة التي يملك لبنان الحق بالاستفادة من مخزوناتها.

في ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة تنشط من أجل تحقيق اتفاقٍ يؤمن موافقة لبنان والكيان الإسرائيلي، ويسمح بترسيم الحدود، لكن العرض الذي تم تقديمه للبنان في تلك المرحلة، والذي سمي "خط هوف" كان يقضي بقضم أجزاء جديدة من المساحات اللبنانية، أقل مما يوفره الخط 23، الأمر الذي رفضه لبنان عبر رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي كان يتابع هذا الملف، والذي طالب بكامل حقوق لبنان، معبراً عن ذلك بعبارة رفض لبنان "التنازل عن شبرٍ واحدٍ من المساحة اللبنانية أو عن كوبٍ واحدٍ من المياه اللبنانية".

وعند ذلك الموقف، كانت المطالبات اللبنانية تتركز على استعادة حوالى 860 كلم بحرياً من المساحة. ومع انتقال لبنان إلى المفاوضات غير المباشرة في الناقورة، أضاف الوفد العسكري اللبناني بقيادة العميد بسام ياسين حوالى 1430 كيلومتراً مربعاً إلى مطالبه، واعتبر أن المساحة الإجمالية المتنازع عليها تبلغ 2290 كيلومتراً مربعاً، اعتماداً على خرائط الجيش اللبناني، وعلى القانون الدولي، وعلى دراسة الشركة البريطانية، ليتخذ مرسوماً في مجلس الوزراء اللبناني يقر الخط 29 كخط حدودي بين لبنان وفلسطين المحتلة، لكن هذا المرسوم لم يوقع من رئيس الجمهورية ميشال عون، مع انسحاب الوفد الإسرائيلي من المفاوضات بعد 5 جولات، واستكمال الجهود اللبنانية مع الوسيط الأميركي هوكشتاين، الذي تباطأ في مساعيه وسمح بتصاعد التوتر ووصول الأمر إلى شفا مواجهة عسكرية اليوم.

ويتراوح الموقف اللبناني اليوم بين رفض الخطوة الإسرائيلية ببدء التنقيب في المنطقة المتنازع عليها، وعدم الذهاب إلى توقيع المرسوم الذي يعتمد الخط 29، وفي الوقت نفسه دعوة الوسيط الأميركي إلى القدوم إلى لبنان واستكمال مساعيه، منعاً لانفجار المواجهة العسكرية.

وعلى وقع ذلك، تلوح أمام لبنان خيارات متعددة تستند بمجملها إلى عوامل القوة التي يمتلكها لبنان في هذه المواجهة، وأولها امتلاكه مقاومةً قادرة على ردع العدو الإسرائيلي ومنعه عسكرياً من المضي بإجراءاته الأحادية. وتختصر هذه الخيارات بالتالي:

- إفساح المجال أمام الوسيط الأميركي هوكشتاين لتعديل الموقف الإسرائيلي والحصول من "تل أبيب" على اعتراف بحصة لبنان من المساحة المتنازع عليها.

- توقيع المرسوم الذي يشير إلى الخط 29 كخط حدود لبنان الجنوبية البحرية مع فلسطين المحتلة، وإيداع الأمم المتحدة بيانات هذا الموقف، والاعتماد عليه في التعاطي مع المسألة مستقبلاً.

- استخدام المقاومة العسكرية المسلحة لإرغام "إسرائيل" على التراجع عن خطوتها التصعيدية وإبعاد السفينة اليونانية وأية سفينة أخرى عن المنطقة المتنازع عليها.

ولكل واحدٍ من هذه الخيارات تكاليف وفوائد يمكن أن تتأتى منها؛ ففي الحالة الأولى، والتي يعتمدها لبنان حتى هذه اللحظة، يكسب لبنان بقاء موقفه ضمن خانة عدم الرغبة في التصعيد، وتسليف الوسيط الأميركي موقفاً يحمله مسؤوليةً كبرى في لجم الموقف ومنع اندلاع مواجهة كبرى، وبالتالي يراد منه حث الأميركيين على اتخاذ موقف مسؤول وغير منحاز في الوساطة التي يعملون عليها.

وقد برز شبه إجماعٍ لبناني على اعتماد هذا الخيار، مع تأكيد الرؤساء الثلاثة (رئيس الجمهورية، رئيس مجلس النواب، ورئيس الحكومة) على دعوة هوكشتاين إلى بيروت لمتابعة مساعيه، وخصوصاً أن رئيس مجلس النواب أعلن في 7 حزيران/يونيو الحالي خلال جلسة انتخاب اللجان النيابية في البرلمان اللبناني قدوم هوشكتاين بحلول نهاية الأسبوع الحالي إلى بيروت.

أما الخيار الثاني، فتبرز قوى لبنانية مؤيدة له، إذ قُدّم اقتراحا قانون للبرلمان لاعتماد الخط 29، وإرسال رسالة إلى الأمم المتحدة تبلغها بأن لبنان أقر هذا الخط كخط حدوده البحرية الجنوبية، لكن هذا الخيار يمكن أن يؤدي إلى تطور الموقفين الأميركي والإسرائيلي نحو المزيد من التصعيد، ما يتوقع منه أن يؤدي إلى وضع الوسيط الأميركي إلى جانب العدو الإسرائيلي بصورةٍ معلنة، الأمر الذي يحاول لبنان تجنبه في المرحلة الحالية.

بالنسبة إلى الخيار الثالث، يجمع المسؤولون اللبنانيون، ومعهم المقاومة اللبنانية، على أنهم لا يريدون الحرب، لكنهم يتوجسون من أن تكون هذه الإرادة بإشعال الحرب موجودةً عند الإسرائيليين الذين اتخذوا الخطوة التصعيدية التي وضعت الجميع في هذا الموقف الخطر.

في كل الأحوال، إنّ اللحظة الحالية تضع الكرة في ملعب الوسيط الأميركي الذي بمقدوره اليوم التعبير عن وقوفه على مسافة واحدة من طرفي الصراع، من خلال تقديم عرضٍ جديد يعطي لبنان حقوقه المستندة إلى القانون الدولي، ويسهم في تسريع عملية استخراج الغاز الطبيعي في المنطقة، وهو الأمر الذي يحتاجه لبنان بصورةٍ ماسة على وقع الأزمة الاقتصادية الأقسى في تاريخه.

لكن لبنان، في الحالات جميعها، يستند في موقفه إلى ورقة القوة الأهم التي يمتلكها، والتي تتمثل بقدرات مقاومته واستعدادها للدفاع عن الموقف الرسمي اللبناني الذي يحدد مضامين الحقوق اللبنانية في المياه البحرية، الأمر الذي عبرت عنه المقاومة بتصريحات قادتها بالقول: إنها تحت سقف الدولة اللبنانية، وتلتزم بما يقوله الموقف الرسمي اللبناني وبالدفاع عنه بكل الوسائل، بما فيها الأرواح.