عن استهداف الأردن.. من زاوية أخرى

هل الأردن مستهدف فعلاً ويواجه مؤامرة، أم أن كل ما قيل ويقال هو من نسج الحكومة؛ لتحقيق مكاسب ودرء مصاعب؟

  • عن استهداف الأردن.. من زاوية أخرى
    عن استهداف الأردن.. من زاوية أخرى

ما إن تتفاعل قضية مطلبية شعبياً في الأردن وتبدأ ترجمتها حراكاً على الأرض حتى تخرج علينا الحكومة والمسبّحون بحمدها بخطاب المؤامرة والحديث عن استهداف البلاد؛ تخويفاً للراغبين في الانخراط بأي احتجاج وتبريراً للعجز وغياب الرغبة في تلبية حقوق الناس، وتوطئةً لأي فعل رسمي مرفوض شعبياً إزاء الفعل الاحتجاجي الوليد.

وقد تعددت الحراكات والاحتجاجات التي قوبلت بالتشكيك والعبث، ابتداءً بحراك المعلمين في سبيل نقابتهم ومروراً بالحراك الأردني الموحّد وغيرها من الحراكات المطلبية في الأطراف، والتي عبّرت بمعظمها عن صحة المجتمع ووعيه؛ عبر التمسك بانتزاع حق التعبير السلمي وتوجيه الرسائل بوضوح تام. وقد كانت آخر نسخ الاحتجاج إضراب سائقي الشاحنات وحافلات النقل العام في محافظة معان، الشهر الماضي.

الحراك في الأردن، في أسبابه المباشرة، مطلبي محدّد الهدف، لكنه في أسبابه الجوهرية أعمق من ذلك، فهو نتاج الضيق الشديد والظروف المعيشية الحرجة والسياسات الاقتصادية الجبائية وانعدام الثقة بالحكومات المتعاقبة. 

في اعتصام وسائل النقل الأخير، وعلى الرغم من سلميته، والتزام المضربين سلوكاً وخطاباً مطلبياً منضبطاً، لم تبدِ الحكومة تجاوباً منطقياً مع الأزمة، فانتهجت التعتيم والتشكيك وتشويه الفعل الاحتجاجي واقترحت -كالعادة -حلولاً مجتزأةً منقوصة.

وبعيداً من الغوص في قراءة المآلات الموجعة للحدث، والفشل الرسمي المعتاد في معالجة جذور الأزمة أو حتى تقديم رواية تحظى بقبول الشارع وثقته، فقد كان لافتاً الإصرار الرسمي على استدعاء سردية المؤامرة واستهداف البلاد والاستثمار فيها، ما أثار التساؤل مجدداً: هل الأردن مستهدف فعلاً ويواجه مؤامرة، أم أن كل ما قيل ويقال هو من نسج الحكومة؛ لتحقيق مكاسب ودرء مصاعب؟ ماذا عن التوقيت في كل مرة؟ ولماذا لا تجد الحكومة من يصدقها؟ وإن وجدت، فلن تجد من يشاركها زاوية الرؤية والأسس المفترضة للمواجهة.

أليس تناقض السردية الرسمية مع الممارسات والسياسات هو السبب الرئيسي في التشكيك الشعبي؟

الثابت أنه لا يفترض بنا إهمال مظاهر الاستهداف، بل إن واجبنا هو الإشارة إليها ومواجهتها وفي اتجاهين: حماية البلاد من أي تآمر، ومطالبة الحكومات بانتهاج ما يفرضه الواجب الوطني والمسؤولية في مواجهة ما تقرّ هي بوجوده من تآمر. وفي المقابل، فإنه لا يحق للحكومة، أي حكومة، أن تواجه كل حراك مطلبي بخطاب التشويه والتهديد والتحذير من مؤامرة، لا سيما بعد إشباع سردية (احذروا الإرهاب أو مصير الأقطار العربية التي وقع فيها ما يسمى الربيع العربي)، ومع ضعف الاهتمام الشعبي بالمعركة مع المخدرات ومهربيها، على الرغم من توصيفها رسمياً ضمن خانة الاستهداف الإقليمي.

في السردية الرسمية بشأن المؤامرة اختلال وتباين في اتجاهين: الأطراف المتهمة ووضوح لغة الاتهام، فمن جهة، يشير مسؤولون حاليون وسابقون ومصادر مقربة من الحكومة أو محسوبة عليها (من دون مواربة) إلى استهداف صهيوني أسبابه المباشرة موقف الأردن الرافض لما اصطلح عليه بـ"صفقة القرن"، وتمسّك الملك بالوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، ورأس الحربة فيه رئيس وزراء الكيان العائد مجدداً وتكراراً، بنيامين نتنياهو واليمين الصهيوني.

ومن جهة أخرى، يُشار همساً إلى استهداف أميركي خطير تُرجم إلى ضغوط هائلة على الأردن، سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً، خلال ولاية الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب قاده بوضوح صهره الصهيوني جاريد كوشنر وفريقه، وهو ما أقرّ به صراحةً رئيس الوزراء بشر الخصاونة في لقاء مع "الإندبندنت تركيا" صيف العام 2021.

فيما يترك، من جهة ثالثة، لأصوات (مستقلة!!) التعبير عن استهداف عربي (خليجي فعلياً) يمكن وصفه عملياً بالتضييق، عبّر عنه الخصاونة بمحاولات العزل، وإن عزاه إلى ضغوط أميركية على الحلفاء والأشقاء، في محاولة لتجنب أي استفزاز للخليج؛ للسعودية بالتحديد.

يمكن قول الكثير في تعاطي الدولة مع ملف الاستهداف، فعلى الرغم من أن كثيراً من الباحثين والمتابعين، ومنهم كاتب هذه السطور، يؤمنون باستهداف الكيان الصهيوني والولايات المتحدة وأطراف خليجية للأردن، تختلف أسس فهمنا عما تتبناه الأوساط الرسمية، سواء على صعيد الجذور والأسباب الحقيقية أو التجليات أو سبل المواجهة.

فاستهداف العدو الصهيوني للأردن قديم متجدد، ويأتي في سياق كونه كيان احتلال توسعي، لم يخفِ يوماً سياساته ومخططاته في الهيمنة على المنطقة برمّتها، وعداء نتنياهو وقادة الكيان تجاه الأردن ليس وليد اليوم، أو ردّ فعل على موقف الأردن من "صفقة القرن" أو "اتفاقات أبراهام"، فكتاب نتنياهو مثلاً "مكان تحت الشمس" الذي يطرح فيه سياساته وأفكاره، ويعبّر فيه بوضوح عن نظرته تجاه مختلف القضايا يقول فيه صراحةً "إن الأردن جزء لا يتجزأ من أرض إسرائيل"…، (هذا الكتاب بالمناسبة عمره نحو 3 عقود)، كما أن جل مواقف الساسة الصهاينة ومخرجات مؤتمراتهم الاستراتيجية تظهر عداءً لا لبس فيه تجاه الأمة والأردن، حتى إن بعض مؤتمراتهم ذهب إلى إعلان موقف ثابت تجاه اعتبار الأردن وطناً بديلاً و العداء الواضح للنظام في الأردن، ونستذكر المؤتمر الذي نظّمه النائب الصهيوني "آرييه ألداد" في "تل أبيب" ومشروع القانون الذي قدّمه للكنيست والذي يقضي بإعلان الأردن دولةً للفلسطينيين، وجرى بالأغلبية إقرار تحويله إلى لجنة الخارجية والأمن، ولا يزال في الأدراج إلى حين حاجة ربما، ويكفي هنا أن نذكّر بتصريح الجنرال الصهيوني يائير نافيه/ نافع، بشأن إمكانية أن يكون الملك عبد الله آخر ملوك الأردن، وهو الذي أصبح لاحقاً نائب رئيس هيئة الأركان في كيان الاحتلال، وغيرها الكثير مما لا يخفى من سياسات وخطط واستهداف مستمر وبأشكال متعددة حتى يومنا هذا.

من جانب، فإن ما سبق يؤكد سردية الحكومة لجهة الاستهداف الصهيوني للبلاد لكنه، في المقابل، يضعها أمام أسئلة عديدة إذ إن الاستهداف سابق لكل الاتفاقات والمعاهدات التي وقّعت معه، لا سيما "وادي عربة" المشؤومة واتفاقيات الإذعان الأخيرة المتعلقة بالغاز والماء، فكيف لحكومة عاقلة أن ترهن اقتصاد البلاد وحياة العباد بيد العدو الذي تتفق أخيراً مع المخلصين من أبناء الوطن على أنه يستهدف البلاد والحكم؟

ثم، هل مارست/تمارس الحكومة أبسط مقتضيات السيادة والندية تجاه العدو وممارساته؟، أليس تعامل الحكومة مع قضية الشهيد القاضي رائد زعيتر وقضية الشهيدين الجواودة والحمارنة اللذين قتلا في مبنى سفارة العدو في عمان برصاص موظف صهيوني، وغيرها الكثير دليلاً على الرضوخ والعجز اللذين يناقضان تماماً ما يجب أن يكون عليه شكل التعامل مع العدو؟

أليس الاستهداف مرتبطاً بوجود كيان العدو بحد ذاته؟ وما هي خطط الحكومة واستعداداتها للمواجهة الحتمية مع الكيان بعد عودة نتنياهو على رأس حكومة يمكن وصفها كواحدة من أكثر حكومات الكيان تطرفاً وخطورة؟ 

العلاقات الأردنية رهن المزاج الأميركي

أما أميركياً، فالأمر لا يختلف كثيراً، فالتجارب تؤكد أن الأميركي الذي يقارب علاقاته بمنطق التبعية لا يحمي حليفاً أو تابعاً، وليس لديه خطوط حمر حين تستدعي استراتيجياته التخلي أو حتى معاداة (الحليف!) والبطش به، وهي الاستراتيجيات التي ترسمها الدولة العميقة بمعزل عن تبادل الحزبين موقع الرئاسة.

وهنا، يتكرر السؤال الملحّ ذاته تقريباً، فإذا كانت العلاقة بالأميركي محكومةً بسياسة قاطن البيت الأبيض ومزاجه، فلماذا نضع بيضنا كله في السلة الأميركية؟ ولماذا نرهن مسارات علاقاتنا السياسية والاقتصادية بالمزاج والتوجه الأميركي؟ وعلى أي قاعدة جاء توقيع الحكومة المعاهدة المذلة التي أطلق عليها اتفاقية التعاون الدفاعي قبل نحو عامين، أي بعد تجربة الاستهداف الأميركي الخطير الأخير، والتي تنتقص من سيادتنا للأعوام الـ 15 القادمة؟ وما جدوى إصرار رئيس الحكومة على اعتبار الاستهداف الأميركي المذكور مرتبطاً بطاقم الرئيس في حينه بعكس المؤسسات الأميركية؟ ألم يوشك الضغط والاستهداف وقتها على تدمير ما تبقى؟ وكيف كانت الحال لو نجح ترامب بولاية تالية أو انتخب من هو على شاكلته في مقاربته لقيمة الأردن ودوره ومصيره؟

أما على صعيد الاستهداف الخليجي (السعودي) للبلاد، فالأوساط الرسمية تتجنب أي تصريح مباشر في هذا الخصوص، وتترك الأمر للمحللين المقربين وبعض المسؤولين السابقين؛ رغبةً في حفظ ما تبقى من علاقة، وطمعاً في عودة الدفء إلى خطوط التواصل الفاترة، وتجنب مزيد من الاستهداف أو العزل والتضييق، فالحكومة التي تحرص على عدم استفزاز الرياض تغض الطرف عن توجيه بعض الأوساط الإعلامية وشبه الرسمية تهمة الاستهداف والتآمر للرياض؛ تعزيزاً لسردية الاستهداف والمؤامرة وتعظيم أزمات البلد، لا سيما في قضية "الأمير حمزة - عوض الله" التي عرفت بقضية "الفتنة"، والتي قيل فيها الكثير حول دور الرياض التي يعمل عوض الله مستشاراً لولي عهدها، وغمزاً من قناة رسالة النائب محمد عناد الفايز المدوية التي وجّهها إلى ولي العهد السعودي، والتي ربطها بعض الأوساط برغبة الرياض في خلق المتاعب للحكم، وبعلاقة "الفايز" الطيبة بالسفير السعودي في عمان.

وقعت الحكومة مرة أخرى في المأزق ذاته، إذ لا رواية منطقية ولا سلوك يوائم الحدث، مع الإصرار على الاستثمار من دون أي خسارة، فأسباب الاستهداف وملامحه أعمق من ذلك بكثير، وبمعزل عن الصراع التاريخي بين الهاشميين وآل سعود والذي يبدو وكأنه قد طوي، تجدر العودة إلى وقف الدعم المالي الخليجي، السعودي بالذات، منذ أعوام، خاصةً وأنه في مراحله الأخيرة قد أخذ شكل الودائع ودعم المشاريع مع الإشراف المطلق على تنفيذها، بعد عقود من الدعم النقدي والهبات.

فالخلاف الذي أدى إلى ما نحن فيه مرتبط بملفات كبرى، قد يكون أبرزها رفض الأردن مزيداً من التورط في الجنوب السوري حد التدخل العسكري المباشر، مروراً بالامتناع عن إرسال جنود الجيش العربي للمشاركة في عدوان التحالف على اليمن، وصولاً إلى الشكل الجديد لسياسة الرياض التي أظهرت جرأة أكبر في الانفتاح العلني المباشر في مختلف الاتجاهات بما فيها نحو واشنطن و"تل أبيب"، ورغبةً واضحةً في تضخيم الدور والنفوذ والتأثير حد التفرد ضمن المحيط وخلق مشاريع ضخمة على مستوى الإقليم، ما يعني بالضرورة الاستغناء عن أي وسيط أو لاعب مهم، وعزل ومعاقبة من يعيق أو يمتنع عن الانخراط، ما يضع الأردن ضمن خانة المستهدفين بالعزل والتحجيم والتضييق.

السبب.. الارتباك الحكومي الأردني

والنتيجة، يظهر مجدداً أن كل ما نحن بصدده من انكشاف أمام الاستهدافات والتآمر يرجع إلى سياسات خاطئة في الأساس، وإلى الارتباك الحكومي الواضح في انتهاج ما يخدم مصالحنا الاستراتيجية، سواء لجهة تنويع الخيارات والسياسات الاقتصادية أو توسيع مروحة العلاقات السياسية بدل الالتزام المكلف ضمن محور واشنطن، الذي لم تعد الثقة بأطرافه خياراً صائباً في عالم السياسة، لا سيما أن العالم يتغير بما ينذر بانتهاء حقبة القطب الواحد.

ألم تنتهج السعودية مثلاً، وهي الحليف الأقرب إلى الولايات المتحدة، سياسة تنويع العلاقات الدولية فعززت، مثلاً، العلاقات والاتفاقات مع الصين، والتي شملت مجالات ظلّت لعقود ضمن الخطوط الحمر الأميركية المحرمة على الحلفاء والأتباع؟

وفي اتجاه آخر، تخلق هذه الصورة والارتباك الرسمي في التعامل معها وتناقض الروايات مع الفعل السياسي، والرهان على قِصر أمد ذاكرة الأردنيين واستحضار السرديات عند الحاجة ووقف ترديدها في الرخاء والاستثمار في الأزمات بدل تفكيكها ومواجهتها، كلها تخلق للحكومات أزمة ثقة ومصداقية وتشغل المواطن بتفنيد رواياتها وسلوكها، لا سيما مع التضييق الرسمي الشديد على الفعل السياسي الشعبي الذي تمثّل الأحزاب السياسية والنقابات روافعه الأساسية، والذي خلق إضعافه شعوراً شعبياً بالعجز عن التأثير في سياسات الدولة وتوجهاتها، ومع مظاهر الخلاف والاختلاف بين بعض (مراكز القوى) ضمن بنية الدولة والتي تتمظهر تضارباً في الصلاحيات أحياناً وتسريبات وفضائح تنتشر وتتفاعل فجأة ومن حيث لا ندري أحياناً أخرى، وسياسات داخلية وتدوير مناصب من دون جدوى أو منطق في أحيانٍ كثيرة.

في الخلاصة، إن استهداف الأردن حقيقة لا نختلف عليها، وإن اختلفنا كثيراً على أسبابها وصورها والسبل الوطنية المجدية في التعامل معها، تماماً كما نختلف مع رواية (الحكومات عاجزة ولا تمتلك أدوات مواجهة ما يجعلها كبالع المنجل)، فتحصين الوطن في مواجهة أي تهديد أو تآمر يقتضي، قبل كل شيء، تمتين الواقع الداخلي اقتصادياً واجتماعياً وعلى صعيد الحريات، فمعالجة الضيق الاقتصادي تفترض أن تمر من بوابة الإنتاج والاعتماد على الذات بدل استنزاف جيب المواطن والتضييق عليه والارتهان للخارج، ما يستوجب اتخاذ قرارات سيادية والبدء بالمحاربة الفعلية للفساد والمحسوبية والترهل والارتجاف.

كذلك يعدّ إرساء أجواء الحرية والعدالة وإنهاء التضييق على العمل السياسي والحزبي وانتهاج المكاشفة والشفافية بدل المكاسرة والاستقواء على المواطن والاستخفاف به خطوات لا بد منها لاستعادة ثقة شعبية غالية غائبة، وفي سبيل تمكين الشعب من المضي في حماية الوطن من أي استهداف أو تآمر، وهو الذي حمى البلاد ودافع عنها في كل استحقاق.

كل ذلك يلزمه مؤسسات قوية تحظى بثقة الشعب وتمثيله، وسياسات وعلاقات سيادية تنطلق من مصالح الوطن الاستراتيجية من دون ارتهان أو تفريط أو انتظار.

ولعلّ الأوان قد آن لكي تدرك حكوماتنا أن ثمن مواجهة التهديد والتآمر أقل بكثير، اليوم، من ثمن الرضوخ والهوان.