عقلنة الفوضى في النيجر والساحل الغربي
الحقائق السياسية الجديدة تترسخ في أفريقيا، وقادتها باتوا يمتلكون الخيال اللازم للقوى التي تتطلع إلى المستقبل. ويبدو أن هذا الدفق لن يتوقف، مع الحرب أم من دونها.
زمن أفريقيا الحالي يتدفق بالأحداث بغزارة. الأزمنة السابقة لم تكن يوماً رفيقةً بالأفارقة، الذين يحتاجون منبراً عالمياً لأصواتهم، وليس منصة بيعٍ لعرض مواردهم. طبيعة الأشياء هناك تتغير، وعلى العالم أن يتفهم قبل أن يحكم. إنها مرحلة من مراحل تطور الشخصية الأفريقية ووعيها بالعالم الذي يتشكل. إنها رسالتهم إلى المستقبل.
الحقائق السياسية الجديدة تترسخ في القارة، وقادتها باتوا يمتلكون الخيال اللازم للقوى التي تتطلع إلى المستقبل. ويبدو أن هذا الدفق لن يتوقف، مع الحرب أم من دونها. مراحل الانتقال بطبيعتها فوضوية، والمفيد الآن هو عقلنة هذه الفوضى، وتجنيب الشعوب المزيد من المعاناة.
النيجر محطة مختلفة، بل تبدو مفصلية بالنسبة إلى اللاعبين الإقليميين وأولئك الدوليين على حدٍ سواء. هذا ما أثبتته المواقف الإقليمية والدولية من الانقلاب الأخير الذي شهدته البلاد. قبله جرت انقلابات كثيرة في أفريقيا، خمسة منها في السنوات الثلاث الأخيرة، وفي محيط النيجر تحديداً. لكن هذه المرة لا يمكن أن تتصرف دول المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا "إكواس"، ومن ورائها فرنسا، على أن هذا الحدث يتطلب إيقاف الزمن عنده، وإعادته إلى الوراء إن أمكن بكل الوسائل المتاحة.
والوسائل المتاحة ليست بالضرورة مفيدة، إذ إن دقة اللحظة الحالية ومواقف اللاعبين تجعل من كل الخيارات سبلاً صعبة ومكلفة بصورةٍ فادحة، الأمر الذي يفسر التردد الذي تشهده المواقف.
إنه صراع حياةٍ لا مزحة، هكذا تحوّل انقلاب واحد في دولةٍ فقيرة إلى أهم حدثٍ عالمي منذ حدوثه. الأسباب كثيرة، منها ما هو مرتبطٌ بترقب إقليمي للآثار والتداعيات، ومنها ما هو موصول إلى الصراعات العالمية بين القوى الكبرى على مناطق الموارد، وعلى تزخيم خياراتٍ جديدة، أو تثبيت خياراتٍ قديمة، بين العالمين المتصارعين الآن، واللذين يتخذان لهما من أوكرانيا، تايوان، ومناطق أخرى مسارح للصراع، بعضها بارد يتم في الأروقة، وبعضها الآخر ملتهب يشتعل في الخنادق.
كلٌ في مأزقه
مواقف "إكواس" الأخيرة التي لوّحت بالخيار العسكري ضد المجلس العسكري في النيجر، وقالت إنها اتخذت قرار التدخل في أقرب وقتٍ ممكن إذا لم يستجب لمطالبها، بدت كمن حمل السلاح في إحدى يديه، لكنه من جانبٍ آخر أبقى على ورقة التفاوض في اليد الأخرى.
لكن القدمين تبدوان غارقتين في رمالٍ متحركة. فالتقدم خطوة نحو الحرب سيغرق المجموعة ودولها في مستنقع عميق من الوحل يمكن أن يودي بكل جهودها للتنمية وتحقيق الاستقرار السياسي والأمني. فيما التراجع إلى الخلف خطوة، والقبول بالحقيقة الجديدة التي جعلها الانقلاب أمراً واقعاً، يعني المخاطرة بانتظار استمرار دومينو الانقلابات ضد الحكام المتحالفين مع القوى الغربية، وصولاً إلى تغيير المنطقة برمتها. الخياران بالنسبة إلى "إكواس" مرّان، ويتطلبان التروي، والبحث عن خيارٍ حلوٍ بين حدودهما.
المجموعة إذاً تتأرجح بين قناعين وقناعتين، قناعٌ اقتصادي يناسب طبيعتها، وآخر عسكريٌ يفرضه الشعور بالضرورة. وقناعةٌ بفداحة تداعيات التدخل، وأخرى ترى التسليم للمجلس العسكري خطراً على أنظمتها، خصوصاً مع دومينو يتحرك.
الحركية الجديدة في دول الساحل الأفريقي الغربي ليست وليدة مصادفة، وليست بجعة سوداء، إنما هي بنت سياقاتٍ داخلية، تنشط داخل سياقٍ إقليمي، وفي قلب سياقٍ دولي يسوده الصراع على كل شيء. من الاقتصاد إلى الأمن، وعلى كل أرض من تايوان إلى أوكرانيا إلى قلب أفريقيا، وكل مورد من موارد الطاقة وخطوط نقلها إلى المعادن الثمينة واللازمة للصناعات التكنولوجية إلى اليورانيوم الضروري لتشغيل المفاعلات، وكل حليف من الدول إلى المنظمات وصولاً إلى النخب السياسية وقادة الرأي، ثم إلى الجنرالات الثائرين في أفريقيا.
تراجعت "إكواس" خطوة، مهددةً بالتقدم خطوات، لكن خوض الحرب من دون مشاركةٍ مباشرة من فرنسا والولايات المتحدة، يعني فتح عشريةٍ-على الأقل-من الفوضى، معروفة البداية، ومجهولة النهاية، وكارثية الآثار.
وفرنسا، التي تشعر أنها تتلقى الضربات المتتالية في أفريقيا، كاستمرار لتقلص حضورها العالمي إلى أدنى حدٍ له منذ عقود طويلة، لا يمكنها دخول الحرب، وهي في الوقت نفسه لا تستطيع خسارة النيجر. هي معلقة بين حماس "إكواس" من جهة، ومساومات واشنطن وتقديرها للموقف الاستراتيجي من جهة أخرى.
في أوروبا، تعارض المجر الحرب، لكن موقف إيطاليا يستجيب للقضيتين الأكثر إلحاحاً: أعباء الحرب الأوكرانية ووقف تدفق المهاجرين. تستميت أوروبا لوقف موجات الهجرة قبل تطورات النيجر. الآن أي تدخلٍ عسكري سيقتل كل الجهود السابقة، وسيدفع بأمواجٍ هائلة من البشر إلى أمواج المتوسط.
قبل انقلاب النيجر، كانت قضية الهجرة تتصدر عناوين نشرات الأخبار وواجهات الصحف في دول الشمال الأفريقي، والجنوب الأوروبي. الملف يشغل بابا الفاتيكان أيضاً، الذي توجه إلى مارسيليا ليبحث قضية الهجرة، من دون أن يزور باريس. تفاصيل تعبّر عن انقساماتٍ أوروبية حول الملف، وتشير أيضاً إلى حقيقةٍ واقعة في القارة العجوز، مفادها أن ملف الهجرة بات أحد أبرز ملفات النقاش العام، والصراع على السلطة بين تيارات اليمين وتيارات اليسار.
تئن أوروبا تحت وطأة الهجرة ومفرزاتها. وفي المقابل، تشير التوقعات الاقتصادية للعقود المقبلة، أن دول هذه القارة التي تنوء اليوم بأعباء المهاجرين، سوف تحتاج إلى المزيد منهم كقوى عاملة فيما لو أرادت الحفاظ على مستوى نمو اقتصاداتها، وبالتالي رفاه سكانها. إنها معضلة مركبة الآن. المهاجرون الحاليون يرهقون الاقتصاد الأوروبي، بحسب قوى اليمين، فيما المجتمعات الأوروبية التي تنزف ديموغرافياً، وبالتالي تنزف على مستوى القوة العاملة، سوف تحتاج في المستقبل إلى المزيد من المهاجرين. ولا يحدث ذلك كله في بيئةٍ أكاديمية أو في نقاش ثقافيٍ واعٍ، بل يتم على المنابر وفي الشوارع، ويتمظهر بصورٍ عنيفة في الكثير من المناسبات، ويظهر في عيون العنصريين من جهة، والرافضين للاندماج من جهةٍ ثانية. إنها معضلة مكتملة، تحتاج إلى شيءٍ من السحر لحلها، لكنه ليس سحراً على طريقة كوبرفيلد، بل هو سحرٌ ممكن كان القادة التاريخيون للقارة يجيدونه، قبل أن تنحدر جودة القادة السياسيين في أوروبا، وعلى مستوى العالم.
وفي سياق المحاولات، كانت الأيام السابقة للانقلاب في النيجر قد شهدت نقاشاً وتوافقات بين الاتحاد الأوروبي وتونس، للحد من تدفق المهاجرين عبر المتوسط. في الوقت نفسه، وبعده، واصلت قوارب المهاجرين دورات الغرق والنجاة في البحر المتوسط. احتمالات الحرب في النيجر زادت ضغوطاً جديدة مرتقبة على تونس، وعلى الجزائر أيضاً، التي تنبهت للمخاطر وسارعت إلى اتخاذ موقفٍ صارم.
تباين أميركي -فرنسي وانقسامٌ نيجيري
أميركا أولوياتها مختلفة عن الأوروبيين، وفي ملف النيجر تحديداً. التفكير دائماً في وقف تمدد الصين وروسيا في أفريقيا. وهي فهمت تحقق الأمر الواقع في النيجر. وما يقلق فرنسا أنها قد تقبل بالتعامل معه بلغة المصالح، وأنها لا ترغب بعداءٍ مجاني.
تنظر باريس كيف قامت واشنطن، وفي لحظة تلويح "إكواس" ومن ورائها فرنسا برايات الحرب، بتعيين كاثلين أ. فيتزجيبون سفيرة فوق العادة ومفوضة لها لدى النيجر. هذه الأخيرة تعرف المنطقة جيداً، وسبق لها أن شغلت منصب نائب رئيس البعثة في سفارة الولايات المتحدة في أبوجا بنيجيريا. وقبل ذلك، كانت رئيسة قسم غرب وجنوب أفريقيا ثم مديرة مكتب التحليل الأفريقي، في مكتب الاستخبارات والبحوث في وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن.
امتعاض باريس من توقيت الخطوة انعكس في وسائل الإعلام الفرنسية أولاً. قبل ذلك، التباين بين الدولتين بدا ملموساً منذ بداية الأزمة الحالية. ليس الأمر جديداً، فالواقعية الأميركية المعهودة تبحث عما يمكن فعله في موقف الخسارة، لتحويله إلى مكسب، أو لتقليص الخسائر إلى الحد الأقصى الممكن. يعود ذلك إلى امتلاك واشنطن وسائل وخيارات أكثر اتساعاً من باريس. فهي حين تفرض عقوباتٍ اقتصادية، وتشدد خناقها المالي على دولةٍ ما، تحدث تأثيراً فعلياً وملموساً في مستقبل هذه الدولة. امتلاك الخيارات الكثيرة يزيد من هدوء واشنطن في التعامل مع أحداثٍ من هذا النوع.
إلى جانب ذلك، تتطلع واشنطن إلى الصورة الأكثر اتساعاً، حيث المواجهة مع الصين وروسيا هي الإطار الأكبر الذي يجب الاهتمام بتشكيله. فالانفعال في موقفٍ مثل الذي حدث في النيجر لا يؤدي إلا إلى المزيد من الخسائر.
نيجيريا، من جانبها، تعيش انقساماً داخلياً كبيراً، إذ يعارض جزء كبير من نخبتها وشعبها الحرب، بالإضافة إلى نشاط نزعة انفصالية يقودها جنرال في الشرق، واستمرار لتغلغل "بوكو حرام" في الشمال.
الحركات المتشددة في دول الساحل الغربي بصورةٍ عامة تمني النفس بالحرب، لأنها البيئة الأكثر ملاءمة لها لإضعاف الدول والتمدد فيها. هي تنتظر انشغال الجيوش النظامية بالحرب على النيجر من أجل أن توسع سيطرتها في تلك الدول. ليس هذا فحسب، بل إن الجيوش المعنية، من دول "إكواس" كما على الجانب الآخر في النيجر وبوركينا فاسو ومالي، لا تمتلك أعداداً كبيرةً من الجنود. بعضها لا يتجاوز عشرين ألفاً. وبالتالي، فإن اندلاع الحرب سوف يفرض على هذه الدول اللجوء إلى استدعاء قوات الاحتياط، وغالباً إعلان التعبئة العامة مع اتساع رقعة النزاع وطول مدته.
تشاد ضد التدخل، ومالي وبوركينا فاسو مع المجلس العسكري. لكن الموقف الأكثر تأثيراً في مسار الأحداث هو رفض الجزائر الحرب، واعتبارها خطراً على أمنها القومي، هذا الموقف أدى إلى توازنٍ مختلف في خارطة القارة، يضاف إليه موقف تشاد التي أعلنت عدم استعدادها المشاركة في أي عملٍ عسكري. هكذا ارتسمت تقسيمات جديدة على الخارطة، تشكل بموجبها هلالٌ شمالي معارض للحرب في النيجر، تشكل الجزائر عمقه وامتداده نحو المتوسط من جهة، ونحو العلاقات المتناغمة مع روسيا بين دول الهلال جميعها، من جهةٍ ثانية.
الصين تنتظر حصد المكاسب وتمد يد التعاون الاقتصادي، وهي لا ترغب في الانخراط في الأحداث الحامية من المواجهة. إنما تراقب وتنتظر اللحظة المناسبة للحديث عن علاقاتٍ اقتصادية واستعدادٍ للمساهمة بشراكاتٍ تنموية هناك.
روسيا لم تتدخل، لعدم استخدام موقفها ضد الـ momentum الجديد في المنطقة، الذي يناسب مصالحها. لكن مزاج القادة الجدد، يتلاءم بوضوح مع تطلعاتها لأفريقيا مختلفة، يرفده مزاج شعبي يعبر عن نفسه في الاتجاه نفسه.
الانقلاب والثورة وطرف خيط الحل
مفهوما الثورة والانقلاب متداخلان، لكنهما مختلفان أيضاً. الثورة أكثر شمولاً، وهي بالأصل زخم شعبي رافض تؤصّله وتعبر عنه نخبة فكرية، تحدد أفكار الثورة وحدودها، وترسم مشروعها السياسي، أو على العكس من ذلك، تبدأ بنخبةٍ تمتلك فكرةً، ثم تعمل على توسيع حضورها الشعبي، وتستنهض بها فئات محددة من الشعب، أو الشعب كله، أو مجموعة من الشعوب، إذا كانت الفكرة تحتمل ذلك.
وفي الحالتين، قد تشكل الثورة انقلاباً، أو مجموعة انقلابات، يكون دورها كأداةٍ لانتزاع الحكم تعبيراً عن إرادةٍ شعبية تغييرية.
أما الانقلاب فهو حدثٌ عنفيٌ (يستخدم القوة) أو سلميٌ (يستخدم توفر القوة من دون استخدامها)، لكنه في الحالتين زجري وملزم للمجتمع وللمؤسسات الرسمية على حدٍ سواء. يأتي الانقلاب ليحل محل الآليات النظامية لتداول السلطة (انتخابات، توريث، تعيين…). وهو يتعارض عادةً مع الإرادة الشعبية، إذا لم يأتِ ضمن تيارٍ شعبيٍ جارف وثورة. ذلك أنه قطعٌ للمسار القانوني، واحتكامٌ للقوة، ويؤدي الى سلاسل لا متناهية من الصراع على حيازة القوة. يصبح الحكم أشبه بتداول القوة. من يحزْها يحكم. تستخدم بعض القوى المسيطرة المصطلحين استنسابياً بحسب المصلحة. مثلاً تقول: أوكرانيا 2014 ثورة. النيجر وبوركينا فاسو ومالي انقلابات…
في النيجر، يبدو التأييد الشعبي متوفراً للمجلس العسكري. "ذا إيكونوميست" نشرت دراسة تقول إن هذا التأييد يصل إلى 80% من النيجريين. يمكن لهذا المعطى، الذي يدركه قادة الدول المعارضة للانقلاب، أن يشكل سبباً أساسياً لمنع الحرب، وبداية الحل السياسي من هذه النقطة. كما يمكن التركيز على التفاوض مع المجلس العسكري على تسريع العودة إلى المسار السياسي، لا التهديد بالحرب وفتح ثقبٍ أسود للأسلحة والموارد والأرواح في دول الساحل.